السيدة كيم ثي هي الطفلة التي لفحت النيران ظهرها ورقبتها وذراعها اليمنى إثر قصف الطائرات الأمريكية قريتها في 8 حزيران/يونيو 1972، وقد خلّد المصوّر نك أوت من وكالة أسوشيتد برس صورتها ونال عليها جائزة بولتزر وكانت الصورة خبراً أولاً صادماً في العالم.
وبدلاً من انكفائها توجّهت للقراءة وهي كما تقول يحدوها الأمل والسلام لتعبّر عن إيمانها الذي حرّر قلبها من الحقد والانتقام والكراهية وأن التسامح جعلها خالية منه، وقد أنشأت لاحقاً مؤسسة باسمها “مؤسسة كيم فوك” في الولايات المتحدة بعد أن استقرّت في كندا.
تقول كيم ثي “إنها تعيش بسلام مع نفسها والعالم على الرغم من الندوب المستمرة لديها منذ طفولتها المعذّبة في جحيم حرب الفيتنام”، وقد روت سرّ إيمانها الراسخ بكتابها الذي صدر بالفرنسية والموسوم “مخلّصة من الجحيم”، حيث تحدّثت عن مسارها الروحي الذي قادها إلى السلام الداخلي.
لقد دفعتها المأساة التي تعرّضت لها إلى تبنّي فكرة اللّاعنف فسعت للترويج لها ونشرها من خلال التربية والتعليم والثقافة، ولذلك اختيرت سفيرة للنوايا الحسنة لثقافة السلام واللّاعنف في منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم والتربية (اليونيسكو)، وذلك بمبادرة مديرها العام فريدريكو مايور، الذي لعب دوراً مهماً في نشر ثقافة السلام، وكان له الفضل الكبير في إصدار إعلان الأمم المتحدة (1998) بشأن “العقد الدولي لإعلاء ثقافة اللّاعنف والسلام لصالح أطفال العالم” الذي اعتمد بين 2000 – 2010.
لقد نادى الآباء المؤسسون ابتداءً من تولستوي مروراً بغاندي وعبد الغفار خان وأينشتاين ومارتن لوثر كينغ وصولاً إلى نيلسون مانديلا، ﺑاعتبار اللّاعنف فريضة، وهو فريضة الأجيال المقبلة، ودليلاً على العالم المتحضّر الحقيقي بالعودة إلى أنسنته إنسانية الإنسان
وبالمناسبة فإن مايور كان من أول المبادرين إلى الانضمام إلى جامعة اللّاعنف حين أعلن عن تأسيسها في العام 2009 واختير رئيساً للمجلس الاستشاري العالمي، وفي خطاب له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بمناسبة مرور 20 عاماً على صدور الإعلان المذكور، أشار بالإسم إلى جامعة اللّاعنف وحقوق الإنسان في العالم العربي (أونور) في سابقة مهمة لها دلالاتها على أهمية فكرة اللّاعنف، خصوصاً من خلال الدراسة الأكاديمية والتجارب الكونية على هذا الصعيد.
***
أكتاب “أقوال في اللّاعنف”، هو استعادة لقرن من الزمن 1920 – 2020 على مضيّ أول استعمال لكلمة اللّاعنف Non Violence، كانت قد جاءت على لسان غاندي للمرّة الأولى 1919 بعد أن اختمر عمقها الفلسفي في مسيرته الذاتية والفكرية والنضالية.
وأصل المصطلح لم يكن ابتكاراً، بل عاد غاندي إلى أصله السنسكريتي المألوف في الهندوسية والبوذية والمتداول كثيراً Ahimsa (أهيمسا) أي “لا إيذاء لأي كائن حي”، ومن هنا يعود مصدر كلمة اللّاعنف عالمياً.
الكتاب عبارة عن أقوال أقرب إلى الحِكَم عرضت بصورة أنيقة باللغات الثلاث: العربية والانكليزية والفرنسية وضمّت 178 قولاً لعدد من الفلاسفة والمفكّرين والعلماء والأدباء والمناضلين بلغ عددهم 91 شخصاً وهي تمثّل “خلاصات حياة وتجارب وفكر، تشرح معاني اللّاعنف في القوة، الحب، العدالة، التربية، السعادة، الضمير، العصيان، المقاومة، التغيير الاجتماعي، الاستراتيجية، التحرّر الوطني، التمرّد، الطبقية، الفقر، التمييز، التعصّب، الحريّة، الحرب، السلام، الغاية والوسيلة، التواصل، الأنا الأصيل..”.
واللّاعنف كما سبق وأن أشرنا إليه في الكثير من المناسبات وكما ورد في الكتاب ليس أيديولوجيا، فالأيديولوجيا حسب جبران خليل جبران “كزجاج النوافذ، نرى الحياة من خلاله، لكنه يفصلنا عن الحياة”.
إن انضمام كيم فوك فان ثي وصدور كتاب “أقوال في اللّاعنف”، دعوة صريحة لحوار جاد وهادئ ومسؤول في مسألة العنف الذي يهدّد العالم، وخصوصاً مجتمعاتنا التي تعاني من التعصّب ووليده التطرّف وهذا الأخير حين يصبح سلوكاً ينتج عنفاً وحين يضرب العنف عشوائياً يتحوّل إلى إرهاب وإذا ما استهدف إضعاف ثقة الناس والمجتمع بالدولة يخلق حالة من الرعب والخوف وإذا كان عابراً للحدود يصبح إرهاباً دولياً.
ومع الإدراك أن اللّاعنف في ظلّ هيمنة العنف وغياب العدالة يبقى أمراً مثالياً، بل يعتبره البعض جزءاً من اليوتوبيا، لكن في أي فلسفة أو أي دين أو أي فكرة اجتماعية لا يوجد شيء من اليوتوبيا؟ وليس ذلك هو الالتباس الوحيد، فلكي يتغلّب مفهوم اللّاعنف نحن نحتاج إلى زمن ليس بالقصير ليصبح قاعدة، بعد أن كان يُنظر إليه باعتباره استثناءً، خصوصاً الربط الخاطئ بين العنف والقوة، وبقدر ما يحتاج المرء إلى القوة، فليس بالضرورة أن يكون عنيفاً، وهكذا لا يصبح الخيار بين العنف واللّاعنف، بل بين اللّاعنف واللّاوجود، حسب مارتن لوثر كينغ.
لقد نادى الآباء المؤسسون ابتداءً من تولستوي مروراً بغاندي وعبد الغفار خان وأينشتاين ومارتن لوثر كينغ وصولاً إلى نيلسون مانديلا، ﺑاعتبار اللّاعنف فريضة، وهو فريضة الأجيال المقبلة، ودليلاً على العالم المتحضّر الحقيقي بالعودة إلى أنسنته إنسانية الإنسان.