كانت فيتنام تخضع للاستعمار الفرنسى وكثيرا ما حاولت التواصل مع واشنطن من أجل أن تقوم الأخيرة بالضغط على فرنسا من أجل منح الشعب الفيتنامى استقلاله، ورغم أن الرئيس الأمريكى وودرو ويلسون عُرف بأنه من أشد المدافعين عن حق تقرير المصير للشعوب القابعة تحت الاستعمار، إلا أنه رفض طلبات فيتنام لمساعدتها فى التخلص من الاستعمار الفرنسى.
وما كادت فيتنام تتخلص من الفرنسيين، حتى وقعت تحت الاستعمار اليابانى أثناء الحرب العالمية الثانية، إلى أن نظم الفيتناميون أنفسهم تحت القائد الثورى الشيوعى «هو تشى منه» والذى بدأ رحلة طويلة من الدفاع عن بلاده ضد الاستعمار وتولى قيادة البلاد من ١٩٤٥ وحتى وفاته فى ١٩٦٩.
بعد هزيمة اليابانيين فى الحرب العالمية الثانية وانسحابهم من فيتنام كانت الأخيرة تحت أعين الفرنسيين الذين أرادوا إعادة احتلالها مرة أخرى، ولكن لم تتحمس الولايات المتحدة لمساعدة الفرنسيين فى البداية، فلجأ الأخيرون إلى عقد اتفاقية مع الصين حيث تنازلوا عن ممتلكاتهم فى شنغهاى مقابل سماح الصين لهم بالسيطرة على فيتنام، ولكن مع بداية الحرب الباردة مع نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات فإن الجبهات فى فيتنام قد تشكلت، حيث سيطر الفرنسيون بدعم أمريكى على جنوب البلاد داعمين القوميين الفيتناميين، بينما دعم السوفييت الشيوعيين فى شمال البلاد الذين أيّدوا “هو تشى منه”، وهكذا ظلت جبهة الحرب الأهلية الفيتنامية ممتدة طيلة عشرين عاما بين شمالها وجنوبها، وفى معظم سنوات الحرب فإن الأمريكيين قد حلوا محل الفرنسيين ولكن فيتنام شكلت واحدة من أكبر الورطات العسكرية والسياسية للولايات المتحدة فى القرن العشرين!
***
خلال السنوات الطويلة للحرب، فإن الولايات المتحدة قد أرسلت ما يزيد على ثلاثة ملايين جندى أمريكى إلى فيتنام وخسرت أرواح ما يقرب من ٦٠ ألف جندى وسط صخب سياسى وشعبى وثقافى واسع فى الداخل الأمريكى ضد الحرب. بعبارة أخرى لم تكن فيتنام مجرد ورطة للسياسة الخارجية الأمريكية ولجيشها، ولكنها أيضا تسببت فى ورطات داخلية غيرت كثيرا من الثقافة الشعبية الأمريكية التى شهدت العديد من الحركات الاحتجاجية مثل حركة الحريات المدنية والتى دعت إلى وقف سياسات الفصل العنصرى والتمييز ضد الأمريكان أصحاب الأصول الأفريقية، وحركات الشباب التى تمردت على قيم الرأسمالية وثقافتها واتخذت أشكالا عدة ثقافية وفنية لعل أبرزها انتشار ثقافة «الهيبيز» بشكلها الفوضوى المعارض لقيم الحياة الحديثة المتمدنة، فضلا عن العديد من الحركات البيئية والحقوقية الأخرى، وأبرزها حركة الدفاع عن حقوق المرأة، وكلها حركات سرعان ما أصبح لها الكثير من التأثير خارج الولايات المتحدة.
فيتنام شكلت واحدة من أكبر الورطات العسكرية والسياسية للولايات المتحدة فى القرن العشرين
مع بداية السبعينيات الماضية، تمكنت الصحافة الأمريكية من الحصول على تسريبات مهمة حققت فى الورطة الأمريكية فى فيتنام طوال سنوات الحرب، وكشفت للرأى العام الأمريكى عن الكثير من الثغرات فى عملية اتخاذ القرار وفى التنسيق بين القرارات السياسية والعسكرية والتى تسببت فى فقدان عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين لحياتهم، فضلا عن الكشف عن ارتكاب الجيش الأمريكى للعديد من المجازر التى ترقى إلى جرائم حرب ضد الشعب الفيتنامى، وكلها أمور أدت فى النهاية إلى إنهاء الولايات المتحدة تواجدها العسكرى هناك، لتسدل الستار على واحدة من أكثر فصول الفشل العسكرى والسياسى فى تاريخ الولايات المتحدة الحديث!
***
كان لهذا الفشل الأمريكى تأثيره على مجريات الحرب الباردة بكل تأكيد، حيث اضطرت الإدارات الأمريكية المتعاقبة مع نهاية الستينيات إلى فتح قنوات حوار وتعاون أكثر شفافية مع الاتحاد السوفيتى وكذلك مع الصين.
من ناحية، كان التقارب الأمريكي ــ السوفيتى فى تلك الفترة مثيرا للاهتمام، فقد بدأ الطرفان محادثات ثنائية مباشرة فى العاصمة الفنلندية هلسنكى فى نوفمبر/تشرين الثاني ١٩٦٩ للحد من الأسلحة الباليستية وتمكنوا من التوصل لاتفاق بعد عدة جولات من المحادثات تم توقيعه فى أيار/مايو ١٩٧٢ وبموجبه اتفق الطرفان على كميات محددة يمتلكها كل منهما من منصات إطلاق الصواريخ الباليستية سواء من قواعد إطلاق برية أو بحرية (من خلال الغواصات)، بل واتفق الطرفان أيضا على تحديد كميات مما قد يتم إنتاجه مستقبلا من هذه الأسلحة مع الاتفاق على قواعد معينة بأرقام محددة لعملية الإحلال والتجديد، بحيث يلتزم كل طرف بالتخلص من نسبة معينة من أسلحته القديمة قبل إنتاج نسبة محددة من أسلحة جديدة! بل وصل الاتفاق أيضا بين الطرفين إلى الحد من برامج إنتاج وتطوير هذه الأسلحة، وقام الكونجرس بالتصديق على الاتفاقية، وكذلك فعل الاتحاد السوفيتى، لتكون نموذجا ناجحا للحوار والاتفاق وبناء الثقة المتبادلة بين قائدى المعسكر الشرقى والغربى.
وقد أدى هذا النجاح إلى إطلاق مرحلة ثانية من المحادثات بين واشنطن وموسكو فى ١٩٧٤ للحد من الأسلحة بين الطرفين وقد توصلا لاتفاق نهائى بالفعل مع حلول عام ١٩٧٩، إلا أن هذه المرة رفض الكونجرس الأمريكى التصديق على الاتفاقية ردا على الغزو السوفيتى لأفغانستان فى هذا العام.
أما بخصوص العلاقات مع الصين، فقد كان التقارب من خلال الزيارة التاريخية التى قام بها الرئيس الأمريكى للعاصمة الصينية بكين والتى التقى خلالها مع الزعيم الصينى “ماو تسى تونج” لتعود العلاقات الدبلوماسية بشكل رسمى لاحقا بين البلدين بعد قطيعة استمرت لربع قرن من الزمان!
كانت كل هذه التطورات تتم بينما تتماسك الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة فى مواجهة الكتلة الشرقية التى أخذت العلاقات بين دولها فى التباعد التدريجى، ويمكن فهم التطور الكبير فى العلاقات الأمريكية الصينية فى تلك الفترة بأنها كانت دبلوماسية ناجحة ومقصودة من واشنطن لعمل توازنات فى علاقتها مع دول الكتلة الشرقية لضمان الحفاظ على تفوقها الدبلوماسى والاقتصادى دون التورط فى مواجهات مباشرة وهو ما تحقق للأمريكيين بالفعل خلال العقد الأخير للحرب الباردة، ولهذا حديث لاحق.
(*) بالتزامن مع “الشروق“