قلّما نعيش في لبنان مع مصيبة، لوقتٍ طويل. مع جريمة. مسألة صادمة. فضيحة. ملفّ فساد. حتّى ولو اتّخذت تلك المصائب والجرائم والصدمات والملفّات، شكل قضايا رأي عامّ. فالنَفَس اللبناني قصير جدّاً مع هذه المسائل وأشباهها. إذْ سرعان ما “ينقطع” هذا النَفَس. لذا، يقطع اللبنانيّون الطريق، وبوقتٍ قياسي، على أيّ قضيّةٍ قبل أن يتكوّن بشأنها “رأيٌ عامّ”. ومهما كانت صادمة.
لكن، ما هو الرأي العامّ؟
سؤال أحرص على طرحه، غالباً، على كلّ دفعةٍ جديدة من طلابي في سنتهم الجامعيّة الأولى. قلّة قليلة منهم، تعطي إجابة صحيحة ودقيقة. علماً أنّ تعريفات الرأي العامّ غير معقّدة، على الإطلاق. فمعنى هذا المصطلح، منه وفيه. لكن، يبدو أنّ هناك عطباً واضحاً في ثقافتنا اللبنانيّة (العربيّة؟)، حيال مفهوم الرأي العامّ. حيال طبيعته. كيفيّة تشكّله. قياسه. ماهيّة عناصره. اتّجاهاته. ودوره…إلخ. الرأي العامّ هو ببساطة، وفي خلاصة تعريفاته، مركَّب الأفضليّات (complex of preferences) حول مسألةٍ ذات أهميّة عامّة. أو ذات صلة بالصالح العامّ. حول قضيّةٍ تُطرَح في الفضاء الاتّصالي. أو موضوعٍ يشغل، في وقتٍ معيّن، بال “أغلبيّة الجماعة”.
ويعبِّر عددٌ من الأشخاص (عناصر الجماعة) عن هذه الأفضليّات. من خلال إبداء آرائهم ووجهات نظرهم أو ميولهم، تجاه تلك المسألة أو القضيّة أو الموضوع. فتندلع النقاشات، بخصوصها، هنا وهناك وهنالك. داخل الجماعة وفي محيطها. ضمناً أو علانيّةً. وعلى مدى فترةٍ زمنيّة “وازنة”. فغالباً ما يكون للآراء ووجهات النظر والميول، التي تظهِّرها النقاشات والاستطلاعات ودراسات الجمهور، تأثيرها على سلوك الأفراد والجماعات. وعلى سياسة الحكومات، أيضاً.
منذ ما بعد حلول حقبة اتفاق الطائف، باشرت الطبقة السياسيّة اللبنانيّة الحاكمة الإجهاز على “قادة الرأي” في البلد. لقد سحقتهم سحقاً. إنّما بهدوء. وبأكثر من أسلوبٍ ووسيلة. تماماً، مثلما يفعل حُكّام الدول التوتاليتاريّة. فيقتلون كلّ الضبّاط من الصفّ الأوّل. يصفّونهم، تحت وطأة الوساوس التي تسكنهم من تخطيط هؤلاء لانقلابٍ عسكري يطيح بهم
فالرأي العامّ، عمليّة تراكميّة طويلة الأمد. الرأي العامّ يُبنى بناءً. يُصنّع تصنيعاً. ويوصّفه عالم النفس الاجتماعي الأميركي Leonard William Doob توصيفاً جميلاً للغاية. يشبّهه بسفينةٍ شراعيّة، يبنيها آلاف الأشخاص. ولكن لا يستطيع واحدٌ، بعينه، بناءها لوحده. وتسير هذه السفينة تبعاً لاتّجاه الريح. أو بحسب دفْع الموج. والموج، هنا، هو القضيّة المحرِّكة. أمّا قبطان السفينة، فهو مَن نسمّيهم “قادة الرأي”. يا الله..! “قادة الرأي”، عنوانٌ اقترحته على أحد طلابي، قبل سنوات، ليكون موضوع رسالته للماستر. على فكرة؛ ذاكرتي، هي التي توفد لي، غالباً، المادّة الأساسيّة للكتابة. فهذه الذاكرة، هي بيتي الذي لا أستطيع مغادرته. أعود إلى طالبي واقتراح العمل على “قادة الرأي”.
“قادة الرأي؟ وفي لبنان؟!” سألني مندهشاً. أجبته بثقة: “نعم.. ولما لا؟”. غير أنّني، بعدئذٍ، فكّرت مليّاً وسألت نفسي رشقاً من الأسئلة: “هل من قادة رأي في لبنان؟ مَن هم؟ أي، أولئك الوسطاء بين مصادر المعرفة والناس؟ أولئك المساهمون بفعاليّة في تشكيل الرأي العامّ (ما غيرو) وتوجيهه والسيطرة عليه، داخل مجتمعنا؟ أولئك القادة الذين يأخذون زمام المبادرة في قبول أو رفض الأفكار الجديدة، قبل أن يمتثل لها التابعون لهم؟ مَن من “المؤثّرين” عندنا، يتمتّع بالمقدرة والمسؤوليّة والذكاء والإلمام بأمور عمله والقدرة على الإنجاز وفَهْم المواقف والتعبير عن الأفكار والانفتاح العقلي والعاطفي والحُكم الصائب ونفاذ البصيرة وسِعة المعرفة والمثابرة و… كلّ الصفات من هذا القبيل (والتي، للأمانة، بالغ علماء الاجتماع والسياسة والاتّصال في اجتراحها)؟ وصرتُ أرسم بريشتي بروفايلاتهم. وأتخيّل أشكالهم. يا ربّ إلطف!
منطقيّاً، لا أحد عندنا “يلبّي” ربع مطالب علمائنا. إذْ، منذ ما بعد حلول حقبة اتفاق الطائف، باشرت الطبقة السياسيّة اللبنانيّة الحاكمة الإجهاز على “قادة الرأي” في البلد. لقد سحقتهم سحقاً. إنّما بهدوء. وبأكثر من أسلوبٍ ووسيلة. تماماً، مثلما يفعل حُكّام الدول التوتاليتاريّة. فيقتلون كلّ الضبّاط من الصفّ الأوّل. يصفّونهم، تحت وطأة الوساوس التي تسكنهم من تخطيط هؤلاء لانقلابٍ عسكري يطيح بهم (يُروى أنّ رئيس العراق الراحل صدام حسين أعدم ستّة عشر ضابطاً في ليلةٍ واحدة “ما فيها ضوّ قمر”).
لا قادة رأي في لبناننا، يا أصدقاء. ولا إمكانيّة لبلورة شيءٍ، يمكن أن يشبه ما نعتبره رأياً عامّاً. فالعوامل الشخصيّة والمجتمعيّة، التي يسمّيها بعض العلماء “مكوّنات الرأي العامّ”، مِلْؤها “الإعاقات” في لبنان (عوامل نفسيّة وثقافيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة..). وبينما تلعب وسائل الإعلام في الدول المتقدّمة دوراً هامّاً في بلورة الرأي العامّ، تتفرّغ المؤسّسات التقليديّة عندنا لأداء الدور الأساسي في “صياغة” الآراء والاتّجاهات والسلوكيّات لدى الناس.
العائلة والعشيرة والاتّصال الشخصي والمقاهي والمجالس العائليّة ودُور العبادة والأسواق الشعبيّة.. هي ما يبلور، إلى حدٍّ بعيد، شخصيّة الفرد اللبناني. والأخطر، عندما ترمي السلطة السياسيّة بثقلها، لكي تمنع تشكُّل رأيٍ عامّ. فبمجرّد الوصول إلى أغلبيّةٍ تعبِّر عن آرائها، بانسجام، حول فكرةٍ ما (وليس قضيّة أو موضوعاً!)، تقلق الطبقة الحاكمة في لبنان. وهذا ما أرعب أركانها، بالضبط، في 17 تشرين. فعلى حدّ علمهم، الناس منقسمون ومتقوقعون في “شوارعهم”. في مناطقهم الصافية طائفيّاً (بدرجة كبيرة). وآراؤهم (الفرديّة) ممسوكةٌ ألجمتها. ما بالهم “يتوافقون” فجأة! ما بالهم يتجمّعون سويّاً! ما هذا الرأي العابر للمناطق والحدود والجغرافيا والقلاع الطائفيّة الذي وُلِد للتوّ؟ على غفلةٍ من الزمن (زمنهم)؟
فهذه الأسئلة، تحديداً، هي ما ارتجفت له فرائصهم في ذاك اليوم المدوّي. اهتزّت الأرض تحتهم، عندما لمحوا من البعيد بريق ومضاتٍ “يبشِّر” باحتمال بدء تشكُّل رأي عامٍّ لبناني ضدّهم. ما العمل؟
النواة الأساسيّة التي تمسك بالبلد، تحاول أن تخلق منه بلداً من نوعٍ جديد. وفق هندسات اجتماعيّة لجماعاتٍ من نوعٍ جديد، أيضاً. جماعات، بدأت تتظهّر في المجتمع اللبناني بوضوح. بحيث، لم يعد تقسيم هذا المجتمع كلاسيكيّاً. غني ومتوسّط الحال وفقير. مسيحي ومسلم (مع متفرّعاتهما المذهبيّة). يمين ويسار. 8 و 14 آذار. موالاة ومعارضة. كذلك، لم يعد الانقسام عاموديّاً ولا أفقيّاً. لم يعد ضمن هذه الطائفة أو تلك. تبعاً لهذا الحزب أو ذاك. كلا. صارت الانقسامات والتجمّعات بكلّ الاتّجاهات. عابرة للطبقات والمذاهب والمصالح. انظروا ما أنجبه النجباء من شرائح وفئات لهذا الشعب. فئات تنفصل في مواضع. وتلتئم في مواضع أخرى:
فئة الطبقة السياسيّة الحاكمة (بصغارها وكبارها) تتحكّم بها “الأوليغارشيّة”؛ فئة كبار المودعين؛ فئة صغار المودعين؛ فئة أتباع الأحزاب المباشرين؛ فئة الموالين للأحزاب عن بُعد؛ فئة الموالين “على القطعة”؛ فئة الخارجين عن طوائفهم وأحزابهم (الطائفيّة)؛ فئة اللّاطائفيّين (الخارج عن طائفته ليس بالضرورة أن يكون لاطائفيّاً)؛ فئة السماسرة؛ فئة التجّار؛ فئة الصرّافين؛ فئة ما يُسمّى “مجموعات الثورة”؛ فئة عائلات الشهداء؛ فئة أهالي الموقوفين الإسلاميّين؛ فئة أهالي السجناء؛ فئة المُضربين؛ فئة الندّابين أمام الكاميرات؛ فئة المهاجرين؛ فئة المهاجرين الافتراضيّين؛ فئة الجالسين “على حياد”. والأيّام حبلى بأجنّة فئاتٍ جديدة. لكن، فكرة محدّدة أودّ إيرادها في هذا الإطار.
في لبنان حيث تتفشّى الفاشيّة، هناك معوّقات موضوعيّة أمام تشكيل “رأي عامّ”. أمر آخر. معظم اللبنانيّين يُحجِمون عن إبداء رأيهم. يمتنعون، نسبيّاً، عن الإعلان عن هذا الرأي. عن المشاركة في استطلاعات الرأي. والدوافع كثيرة، طبعاً. ليس أقلّها الظروف الاجتماعيّة
فكلّ فئةٍ من هذه الفئات، لها رأي خاصّ. ما يلبث أن يتحوّل إلى رأي عامّ، لها. وعليه، يوجد عندنا مجموعات “ميني رأي عامّ”. لا يمكن لها، ولا بأيّ شكلٍ من الأشكال، أن تندمج في رأي عامّ واحد. من الصعب جدّاً خلق بوتقة واحدة، تضمّ كلّ تلك الآراء العامّة الخاصّة. ألاحظتم التناقض؟ رأي عامّ خاصّ؟ التنافر عضوي. فغير المشترَك بين اللبنانيّين (أي مجموع كلّ تلك الفئات) هو المشترك السلبي عينه. يشتركون في التناقضات. وكأنّه السلك الذي يربط اللبنانيّين ولا يجمعهم. بل يتمادى هذا السلك في تشتيتهم. وإنْ يكن على رقعة واحدة. ومن أجل هدفٍ واحدٍ، ربّما. وتتمادى هذه السلطة في تفتيتهم. في تشظية آرائهم. في جعلهم أناساً لا يحلّون ولا يربطون. فتفاهة المواطن وعجزه، هما شرطان لازمان لاستمرار السلطة و”ازدهارها”. مطلق سلطة. وبعد؟
في لبنان حيث تتفشّى الفاشيّة، هناك معوّقات موضوعيّة أمام تشكيل “رأي عامّ”. أمر آخر. معظم اللبنانيّين يُحجِمون عن إبداء رأيهم. يمتنعون، نسبيّاً، عن الإعلان عن هذا الرأي. عن المشاركة في استطلاعات الرأي. والدوافع كثيرة، طبعاً. ليس أقلّها الظروف الاجتماعيّة (العادات والتقاليد والموروث الثقافي). أو الانشغال في أمور الحياة المختلفة. أو ضعف الديموقراطيّة. وقلّة الوعي والخمول الفكري. هناك، أيضاً، خشية، بل، خوفٌ من قمع السلطات لهم.
كلمة أخيرة. يقول الكاتب أمين معلوف (في كتابه “التائهون”): “في كلّ عصرٍ يُعرب البشر عن آراء ويتبنّون مواقف، يظنّون أنّها نابعة من تفكيرهم الخاصّ. بينما هي، في الواقع، تأتيهم من الذهنيّة السائدة. إنّما ذلك لا يُعتبَر بمثابة القدر المحتوم. بل، لنقلْ إنّها ريحٌ شديدةُ القوّة تصعب مقاومتها”. إقتضت مقاومة الريح. إقتضت.