يروي رونين بيرغمان “أن أحمد جعفر قصير ابن الستة عشر عاماً ولد لعائلة شيعية فقيرة في قرية لبنانية صغيرة اسمها دير قانون النهر في قضاء صور، ويقول والداه عنه إنه مذ كان طفلاً “كان واعياً ومدركاً ومن خلال صفاته هذه طوّر نفسه لينطلق بصورة مستقلة في شبابه”، وعندما كان في الرابعة من عمره كان يسابق والده في الذهاب الى الحقول لقطاف الخضار والعودة بها الى البيت حتى قبل ان يصل والده الى الحقل، وسرعان ما أصبح المسجد في البلدة بيته الثاني حيث كان يتردد اليه للصلاة وقراءة القرآن. وهكذا سرعان ما أصبح واحداً من الشيعة المتحمسين لحزب الله. وفي خريف العام 1982 جرى تجنيده في قسم عسكري سري يعرف باسم “الجهاد الإسلامي”، ونفّذ بعدها أحمد عدة عمليات عسكرية سرية ضد العدو “الإسرائيلي” كما استخدم كل موارده لنقل الأسلحة من بيروت الى “أي مكان تستوجبه المواجهة مع قوات العدو (الإسرائيلي)”. وفي صباح 11 نوفمبر/ تشرين الثاني وقبيل السابعة صباحاً قاد أحمد سيارة من نوع “بيجو” محملة بالمتفجرات نحو مبنى مكون من سبعة طوابق يستخدمه الجيش “الإسرائيلي” كمقر للقيادة العسكرية والإدارة المحلية في مدينة صور الجنوبية، وعندما أصبح على مقربة من المقر ضغط على دعسة الوقود بقوة متوجها الى اساسات المبنى وفجر نفسه. دمّر الانفجار المبنى وقتل 76 من الجنود وحرس الحدود “الإسرائيليين” ومن عملاء الشين بيت كما قتل 27 لبنانياً كانوا إما عمالاً في المبنى وإما مدنيين يحاولون الحصول على اذونات مختلفة من الجيش “الإسرائيلي” وإما سجناء. لقد كان ذلك اول هجوم “إرهابي” إسلامي خارج إيران وقد تسبب بقتل عدد من “الإسرائيليين” يفوق أي عدد ضحايا في أي هجوم حصل سابقاً”.
ويتابع بيرغمان، “على مدى سنوات حافظ حزب الله على سرية علاقته بهذا الهجوم وبهوية المشاركين في تنفيذه. وفقط بعد ذلك بسنوات، شيّد حزب الله نصباً تذكارياً لأحمد قصير في بلدته دير قانون ونشر رسالة تقدير كان المرشد الامام الخميني قد كتبها لعائلته وأعلن فيها تاريخ وفاته “يوماً للشهيد” الذي يتم احياؤه سنوياً في لبنان. هذه السرية كانت مناسبة للمؤسسة العسكرية “الإسرائيلية” التي حاولت تغطية جهلها بالهجوم الإنتحاري. أكثر من ذلك، فقد قام يوسي جينوسار، الذي كانت وحدته مسؤولة عن جمع المعلومات ومنع هجمات شبيهة بهجوم أحمد قصير، بتضليل التحقيق وتوجيهه بعيداً عن الحقيقة حتى جاءت النتيجة باستنتاج ان الانفجار كان نتيجة “خطأ فني في قوارير الغاز في مطبخ المبنى”، وليس بفعل عملية جريئة لتنظيم شيعي جديد، وقد شارك جينوسار في عملية تضليله هذه عددٌ من مساعديه الى جانب ضباط كبار في الجيش “الإسرائيلي”. وإذا كان جينوسار في عمله هذا يحاول ان يحمي نفسه، فان الاستخبارات “الإسرائيلية” في الحقيقة لم تكن على بينة ان هناك قوة ثورية جديدة تنهض من الدخان المتصاعد من ركام لبنان، وكان جهازا “الشين بيت” و”أمان” يتجاهلان العبوات الناسفة والهجمات بالأسلحة النارية التي كانت تستهدف الجيش “الإسرائيلي” ويعتبران أنها “ليست أكثر من مجرد تكتيكات مزعجة للجيش الإسرائيلي”.
وينقل بيرغمان عن يكوتيل مور الملقب بـ(مور) وهو احد كبار ضباط “امان” والذي اصبح لاحقا السكرتير العسكري لوزير الدفاع اسحق رابين قوله “بدأنا نستوعب ما يحصل بعد وقت، لقد ضعنا في العملية كثيراً، فبدلا من انشاء روابط مع الشيعة فقد حافظنا على روابطنا مع المسيحيين وحولنا غالبية اللبنانيين ليكونوا أعداء لنا”.. والأسوأ من ذلك ان أحداً لم ينتبه الى الروابط التي كانت قد نشأت بين الإيرانيين والشيعة اللبنانيين وان ميزان القوى قد انقلب رأساً على عقب بتحالف ثوار الخميني مع الرئيس السوري حافظ الأسد، وينقل الكاتب عن ديفيد باركاي من الوحدة 504 قوله “لوقت طويل لم ننتبه الى النشاطات القادمة من مكتب محتشمي بور في دمشق”.
ويتابع الكاتب قائلاً، “ومثل جينوسار، فان أجهزة الاستخبارات “الإسرائيلية” الهائلة كانت جاهلة بالجيش السري الذي كان يتشكل حولها والمؤلف من مجندين جدد ومن رجال ميليشيا سابقين أمثال عماد مغنية، وهذا الأخير ولد عام 1962 لأبوين شيعيين ورعين، ونما وترعرع في ضاحية بيروت الجنوبية المكتظة بالفقراء”. وينقل الكاتب عن الشيعي امين الحاج، وهو احد عملاء إسرائيل (اسمه السري رومينيغيه وكان له دور أساسي في اغتيال أبو حسن سلامة) استذكاره لمغنية “كنا معاً في سن الطفولة وكان ولداً شقياً وسمعت انه ترك المدرسة باكراً لينضم الى معسكر تدريب تابع للقوة 17 في حركة فتح ومنذ ذلك الحين انقطع التواصل بيني وبينه”.
ويتابع بيرغمان، “في منتصف العام 1978 اصبح مغنية عضواً في القوة 17، حرس الزعيم ياسر عرفات و”قوة النخبة” في حركة فتح، وأخذه أبو حسن سلامة تحت جناحه حتى اغتيال الأخير من قبل “الموساد” في العام 1979. كان مغنية يريد الانتساب الى شيء اكبر من مجرد عصابة محلية صغيرة في جنوب بيروت وكان مُحباً للحركة (اكشن) وقد رأى فيه سلامة ومن تبعوه شخصاً ذكياً وقادراً ولديه كاريزما وحس استخباري جامح، ومع العلم بأنهم كانوا فلسطينيون سُنّة ومغنية كان شيعياً ولكن مصالحهم تقاطعت، ففي ذلك الحين كان اتباع الخميني فقراء، وكان المنفيون الإيرانيون وحلفاؤهم اللبنانيون ممتنين لمنظمة التحرير الفلسطينية بسبب استضافتها لهم ودعمها لهم. وكان مغنية يعمل تحت رعاية القوة 17 ولكنه أيضاً اكتسب سمعة انه زعيم عصابة من السفاحين يفرضون القوانين والعادات الإسلامية في شوارع بيروت التي كانت في ذلك الحين تعتبر معقلاً للعادات الأوروبية الليبرالية في قلب الشرق الأوسط، فقط في ذلك الوقت بدأت الاستخبارات “الإسرائيلية” تتلقى التقارير عن “متطرف جامح ومريض نفسي” يطارد المومسات ومروجي المخدرات في بيروت”.
وبعد ثلاث سنوات ـ يضيف بيرغمان ـ “اثر مغادرة منظمة التحرير الفلسطينية بيروت، قرر عماد مغنية وأخواه فؤاد وجهاد البقاء في لبنان والانضمام الى ما كانوا يعتقدون انه القوة الصاعدة الجديدة، وكانوا مصيبين في ذلك، أي حزب الله، وبسرعة اصبح مغنية احد اهم التنفيذيين في التنظيم، وترأس لقرابة نصف عام مجموعة الحماية للسيد محمد حسين فضل الله رجل الدين الشيعي الأعلى رتبة في لبنان و”البوصلة الروحية لحزب الله”، كما انه مثّل السيد فضل الله في الاجتماعات التي كانت تعقد في مكتب محتشمي بور في دمشق لكبار المسؤولين الإيرانيين وكبار ضباط المخابرات السورية الذين كانوا يرسمون استراتيجية التعامل مع الوضع اللبناني. كان الجنوب اللبناني حينها محتلاً من “إسرائيل” فيما باقي أجزاء البلاد كانت تحت سيطرة القوة المتعددة الجنسيات (تضم أمريكيين وفرنسيين وايطاليين) التي تم نشرها في محاولة لوضع حد للحرب الاهلية التي كانت تعصف بلبنان. وكان كلا الطرفين، السوري والإيراني، يريد اخراج المحتلين من لبنان، ولكنهما كانا عاجزين عن المواجهة او الربح في اي مواجهة عسكرية مباشرة. ففي هذه الاجتماعات اتفق الطرفان على إطلاق حملة سرية من “التخريب” و”الإرهاب”، وكُلّف مغنية بتنظيم هذه الحملة، فقام ومحتشمي بور بخلق تنظيم “الجهاد الإسلامي” الذي جنّد أحمد قصير الشاب الذي فجر مقر قيادة الجيش “الإسرائيلي” في صور، لقد كانت هذه العملية حفلة تدشين مدمرة لإطلاق هذا التنظيم ولم تكن الا البداية. وقد المح السيد فضل الله في مقالات دينية له الى ما هو آت قائلاً “نعتقد ان المستقبل يختزن المفاجآت فالجهاد مر وقاس وسينطلق من الداخل بفضل الجهود والصبر والتضحية وروح الإرادة عند الانسان للتضحية بالنفس”. وبقوله “التضحية بالنفس” كان فضل الله يقصد الفتوى الدينية التي أطلقها الامام الخميني لجنوده الشباب الذين كان البعض منهم بعمر الأطفال وقد غسلت ادمغتهم فمشوا في حقول الألغام التي زرعها الغازي العراقي لبلادهم، ودفع فضل الله بهذه الفتوى الى الأمام بإعطائه الاذن بالانتحار المتعمد في سبيل الجهاد، فبدأ حزب الله يشن عمليات انتحارية في لبنان ولم يمض وقت طويل حتى أصبح مغنية وحزب الله اسياد هذه الطريقة وحوّلوها الى نوع من الفنون”.
يتابع بيرغمان، “في 18 ابريل/ نيسان عام 1983 قاد شاب من رجال مغنية حافلة صغيرة مقتحماً مدخل السفارة الامريكية في بيروت (عين المريسة) مفجراً حوالي الطن من المتفجرات المكدسة داخلها فانهارت كل واجهة المبنى وقتل 63 شخصا من ضمنهم كل أعضاء الاستخبارات الامريكية في محطة لبنان وعلى رأسهم الخبير الرفيع المستوى في شؤون الشرق الأوسط في الوكالة روبيرت ايمز. بعدها وفي نفس العام في 23 أكتوبر/ تشرين الأول، قاد انتحاريان شاحنتين محملتين بكميات كبيرة من المتفجرات الى داخل مبان تشغلها القوات المتعددة الجنسيات في بيروت وفجرا نفسيهما فقتل في مقر المارينز الأمريكيين 241 (جنديا) فيما قتل 58 من القوات المظلية الفرنسية في قاعدتهم. وكان مغنية جالسا في اعلى مبنى يراقب العمليتين عبر التلسكوب. وقد سقطت قطع من الاسمنت والاشلاء المتناثرة على مقر قيادة الشين بيت في بيروت على بعد حوالي نصف ميل من المقر المحترق للمارينز الأمريكي. وفي الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه كان شرطي من حرس الحدود “الإسرائيليين” يدعى نكد ساربوخ يقوم بحراسة قاعدة للجيش “الإسرائيلي” في مدينة صور فاشتبه بشاحنة صغيرة تتقدم بسرعة نحو القاعدة، فتح النار عليها من رشاشه مطلقاً قرابة 130 طلقة لكنه فشل في ايقافها، فاقتحم الانتحاري القاعدة وفجر قنبلة تزن 500 كيلوجرام كانت على متن الشاحنة فانهار المبنى الذي كان يضم مقر عمليات الشين بيت وتضررت كل المباني والخيم المجاورة، فقتل في هذا الهجوم 60 شخصاً وجرح 20″.
يستدرك بيرغمان بالقول “إذا كانت “إسرائيل” قد تمكنت من ان تعزو الهجوم الأول في مدينة صور الى خطأ فني في قوارير الغاز فانها بعد الهجوم الثاني الذي صادف تماما ذكرى مرور عام على الهجوم الأول، لم يعد بإمكانها ذلك، والفضل في هذه الهجمات الانتحارية التي خطط لها واخرجها مغنية هو لمحتشمي بور الذي حصل تقريباً على ما كان يريد، فقد تفككت القوات المتعددة الجنسيات وانسحبت “إسرائيل” على دفعات من معظم الأراضي اللبنانية حتى تركزت قواتها في “حزام امني” اجوف في جنوبي البلاد”.
ويختم بيرغمان “بعد الهجوم الثاني في مدينة صور، بدأت أجهزة الاستخبارات “الإسرائيلية” تشعر انها تواجه نوعاً جديداً من الأعداء، فاخذ أعضاء رفيعو المستوى من الموساد والشين بيت والأذرع المختلفة للجيش “الإسرائيلي” يدرسون مجدداً إعادة إحياء “القتل المتعمد”، لكن هذه المرة ضد خصم جديد”.