مذكرات إيلي فرزلي: زحلة تنتظر النجدة منذ 45 سنة!

في الجزء الثالث من كتابه "أجمل التاريخ كان غداً"، يغوص ايلي فرزلي عميقاً في زواريب زحلة السياسية والعائلية والإجتماعية. المدينة التي أدمنت الرقص على إيقاعات مغايرة لتلك السائدة في جوارها. المدينة الكوزموبوليتية الساحرة التي تمارس دوماً تمردها المحبب بجدارة. لكنها لا تلبث أن تخضع لمعايير الردع العائلي والطائفي التي جرى تسويقها على أنها سياسة، لكن الفرزلي عرف كيف يراقصها. و"يقطفها"!

يتحدث إيلي فرزلي عن آلية صناعة السياسة اللبنانية، عن الإنتخابات النيابية، وهي في أغلب الأحيان كذبة متقنة يجري العمل على تمريرها، بواسطة قوانين الإنتخابات المتغيرة التي يسعها أن تحيل زعامات راسخة إلى طرائف متداولة لا تصلح لغير التندر، كما يتحدث عن تداخلات مريبة بين لعبة ديمقراطية مفترضة وبين أحاجي مخابراتية يعوزها الإحتراف. مجدداً هذا هو لبنان السياسي الذي يجد متعته القصوى في ابتداع أكاذيب لا يصدقها سواه.

يؤرخ الكتاب للحرب اللبنانية من عاصمة البقاع، يروي فرزلي كيف أمكن لغبار المعارك أن يعيد صياغة معالم التاريخ والجغرافيا. كيف كان بوسع الحرب أن تسوق مفاهيمها ومصطلحاتها ومقاييسها. وأن تفرض رموزها أيضاً. رحلة شائكة بين ألغام المغامرات المرتجلة. هكذا يصوغ لبنان سياسته ثم يمعن في البحث عن مسالك آمنة للخروج منها.

***

ليست زحلة كباقي المدن اللبنانية. لا هي على الساحل ولا هي في جبل لبنان. ليست هناك وليست هنالك، ما جعلها على الدوام حائرة التوجُّه. فقد كانت قبل لبنان الكبير، وما زالت، مدينة حدوديَّة. وهذا ليس وضعاً مريحاً عندما تهبُّ رياح الأزمات الكبرى، خصوصاً الرياح الوجودية. فالمدن الحدوديَّة بطبيعتها أماكن حائرة. تتنازعها المصالح والعواطف.  قلبها في مكان وعقلها في مكان آخر. ظهرها إلى الساحل وإلى الجبل، ووجهها إلى الشام وما بعد الشام.  وجهها لا يأمن لظهرها، وظهرها لا يأمن لوجهها.

وما كان “جارة الوادي” لقبها الوحيد. أسماؤها الحسنى تربو على أوصاف مدن عديدة أكبر منها في العالم. هي “عروس البقاع”، وهي “دار السلام”، وهي “مربى الأسود”، وهي “عاصمة الكثلكة في الشرق”، وهي “ابنة كوكب زُحل”، وهي “حلم الوعد”، وهي “النجم المابينطال”، وهي”ملتقى الكنائس والأديار”.

شتَّان ما بين تراث زحلة الثقافي والفكري، وموقعها المعنوي في نفوس اللبنانيين والعرب والعالم، وبين التركيبات السياسية التي تحكَّمت بها على مرِّ المراحل، من الفتنة الكبرى في أواسط القرن التاسع عشر، إلى الحرب الأهلية في أواخر القرن العشرين، فالتسوية التي أعقبتها، وصولاً إلى يومنا هذا. صورتان مختلفتان، بل متناقضتان، “بينهما برزخٌ لا يلتقيان”.

دفعت زحلة أثماناً غالية من جرَّاء تلك التناقضات. خُذلت من الجحر ذاته مرَّتين: مرَّة  خلال مرحلة الفتنة الكبرى 1841-1860، ومرَّة في زمن بشير الجميِّل وحركته المتمرِّدة على الوجود الفلسطيني المدعوم عربياً خلال الحرب الأهلية اللبنانية   1975-1989. لا وصلتها نجدة يوسف كرم الموعودة في الأولى، ولا وصلتها نجدة بشير الجميِّل المنتظرة في التالية. بل إن بعض “المهلوسين” في ذلك الوقت انتظر النجدة من إسرائيل. وهذه أيضاً لم تصل! (…)

أما في الحرب الأهلية الثانية، عندما كانت قذائف “الجوار”، المدعومة من القوات السورية آنذاك، تهطل عليها كالمطر، وكان يمكن أن لا تُبقي فيها حجراً على حجر، فلم يُسعفها في درء الخطر عنها سوى أبنائها المخلصين برعاية المطران أندريه حدَّاد، مطران الروم الكاثوليك في حينه، ويشرِّفني أنني كنت منهم، لا جزاءً ولا شكوراً، كما سيأتي ذكره لاحقاً. (…)

إنتخابات 1951

كان ظهور جوزيف سكاف على المسرح البقاعي والزحلي لأول مرة في انتخابات 1951 ظهوراً عاثراً، لأن الزعيم البقاعي وقتذاك صبري حمادة لم يشأ أن يتحالف معه، فافترق بهما الطريق. كلٌّ منهما ألَّف لائحته بروحية التحدِّي، فكان صبري حمادة أكثر حدَّة لأنه اختار “سكافياً” آخر على لائحته لينافس به جوزيف سكاف هو الكتائبي جان سكاف الذي لم يستطع أن يقيم حيثية سياسية وازنة في مدينة زحلة، فكانت نيابته تلك مع صبري حمادة حالة يتيمة، مع أنه صار وزيراً للزراعة، ومعه حقيبة وزارة الشؤون الاجتماعية، في حكومة صائب سلام التي لم تدم سوى مئة يوم من 30 نيسان/ابريل 1953 إلى 16 آب /أغسطس من السنة ذاتها. أحدث الافتراق بين جوزيف سكاف وصبري حمادة تقلُّبات واسعة في التحالفات البقاعية، فتخلَّى حمادة عن ثلاثة من حلفائه السابقين هم: عمِّي أديب الفرزلي، وشبلي آغا العريان ومارسيل نمُّور، الذين تحالفوا مع جوزيف سكاف وسقطوا جميعاً. وقد أدخل صبري حمادة على اللائحة التي ضمَّته مع ابراهيم حيدر بعض الوجوه الجديدة منهم جان سكاف عن المقعد الكاثوليكي، وناظم القادري عن المقعد السنِّي، وسليم الداود عن المقعد الدرزي خلفاً لوالده نسيب الداود. من أبرز أسباب تلك التقلُّبات أن هنري فرعون عزف عن الترشُّح عن البقاع لمرة ثالثة مؤثراً المقعد الكاثوليكي في بيروت. ثمَّ أن البلاد في ذلك الوقت كانت قلقة بفعل تعاظم موجة المعارضة الشعبية لتجديد ولاية الرئيس بشارة الخوري من قبل المجلس السابق، مما اقتضى تقريب بعض السياسيين وإبعاد بعضهم الآخر. (…)

عهد كميل شمعون

في انتخابات 1953، وهي الأولى في عهد كميل شمعون، استعاد جوزيف سكاف المبادرة وصار من الثوابت اللبنانية، بل أصبح هناك ثابتة واحدة هي جوزيف سكاف، ومتغيِّرة دائمة هي قانون الانتخاب. كيفما فُصِّلت الدوائر وتحدَّد عدد النواب، بقي قرار الإنابة والترشُّح في زحلة والبقاع الغربي بيد الزعيم الكاثوليكي جوزيف سكاف، إلى درجة أنه رشَّح شقيقه الأصغر ميشال عن المقعد الأرثوذكسي في البقاع الغربي في إنتخابات العام 1960. أعيد المقعد الأرثوذكسي إلى البقاع الغربي في انتخابات 1953، مع أن عدد الناخبين الأرثوذكس لا يوجب ذلك. لكن عمِّي أديب طلبه من كميل شمعون، بفتوى قانونية تجمع “الكسور” في المناطق الأخرى وتضمُّها إلى دائرة معيَّنة بحيث يحقِّق المقعد المستجد التوازن في المجمل العام وليس في التفصيل بالضرورة. لكن تلك الانتخابات لم تكن سهلة لأنها أول انتخابات جرت في لبنان على أساس الدوائر الصغرى، وأُلغي المقعد الدرزي في البقاع الغربي يومئذ، مع أن عدد الناخبين الدروز أكثر ثباتاً من غيرهم. أما اللائحة الفائزة التي ضمَّت ناظم القادري وعمِّي أديب فلم تتشكّل بسهولة، بسبب انشقاق في “بيت القادري”، وبسبب كون ناظم القادري، المحامي الناشىء، جديداً على المسرح وتشوب نيابته الأولى عام 1951، بعض التحفّظات أبرزها أنه فاز فيها على اللائحة إلى جانب جان سكاف، وهي اللائحة التي أسقطت جوزيف سكاف المبتدىء في زحلة حينذاك. (…)

عاقبني والدي أيضاً بقطع أي مساعدة مالية، فاستنجدت بعمِّي أديب الذي عمل على إيجاد وظيفة لي تدرُّ عليَّ دخلاً منتظماً، فاتّصل بالياس سركيس، حاكم مصرف لبنان، خريف عام 1968، فتم تعييني موظفاً في فرع المصرف في زحلة، إلاّ أنَّ أمدها لم يتعدَّ الشهرين

مرَّة أخرى جرى تعديل قانون الانتخاب عام 1957، فأُلغي المقعد الأرثوذكسي للبقاع الغربي من جديد، وجرى تقسيم محافظة البقاع إلى ثلاث دوائر انتخابية بدلاً من أربع دوائر كما في القانون السابق. في تلك الانتخابات فاز مرشَّحا جوزيف سكاف، السنِّي ناظم القادري والدرزي سليم الداود. أما المقعد الأرثوذكسي، فقد نُقل إلى زحلة حيث احتلَّه عمِّي أديب إلى جانب جوزيف سكاف، كما بيَّنت في الفصول السابقة. والملفت في السياق الانتخابي اللبناني ليس فقط تغيُّر القوانين الانتخابية مع كل دورة، بل أيضاً تغيُّر عدد النواب في كل مجلس.

في انتخابات  1960، التي نُقل فيها المقعد الأرثوذكسي من جديد إلى دائرة البقاع الغربي راشيا وقد سبقها تعديل قانون الإنتخاب مرَّة أخرى أُعيد فيه تقسيم الأقضية إلى 26 دائرة انتخابية ورفع عدد النواب إلى 99، ربحت لائحتا جوزف سكاف في دائرة زحلة وفي دائرة البقاع الغربي  ـ راشيا. في زحلة ، استمر معه الماروني جورج هراوي للمرَّة الثالثة بعد دورتي 1953 و1957، ورشَّح المتموِّل الشيعي حسين منصور، والسنِّي كاظم الصلح، والأرثوذكسي مخايل الدبس. استقرَّ عدد نواب قضاء زحلة حينذاك على خمسة مقاعد: سنِّي، وشيعي، وأرثوذكسي، وماروني، بزعامة الكاثوليكي. في لائحة البقاع الغربي ـ  راشيا استمر تحالف جوزيف سكاف مع الدرزي سليم الداود والسنِّي ناظم القادري، ورشَّح شقيقه ميشال سكاف، للحلول في المقعد التقليدي لعمِّي أديب الفرزلي. الذي خاض الانتخابات في لائحة ضمته وعبد القادر القادري، من الفرع القادري المنافس لناظم القادري، وشبلي العريان، وقد فاز فيها الأخير لوحده. (…)

عهد فرنجية

في انتخابات 1972، سجَّل جوزيف سكاف انتصاراً كبيراً. كان العهد، قبل سنتين خلت،  قد آل من الرئيس شارل حلو في ظلِّ الشهابية إلى الرئيس سليمان فرنجيه الذي واجه وحلفاؤه   -ومن بينهم جوزيف سكاف-  رموز الشهابية في الجيش والحكم والادارة.  خرج الشهابيون نهائياً من الحكم بعد 12 عاماً. ترأس جوزيف سكاف اللائحة الوحيدة التي فازت بنوابها الخمسة: الياس هراوي الذي حلَّ محلَّ شقيقه جورج هراوي، حسن زهمول الميس، حسين منصور، سليم المعلوف. في دائرة قضاء البقاع الغربي ـ  راشيا فازت أيضاً لائحته بمرشَّحيها الثلاثة: ناظم القادري، ميشال المعلولي، سليم الداود.

مع تفتُّحي، على مرِّ السنين، تأثَّرت بالمناخات السياسية لعائلتنا، وبأداء عمِّي أديب بشكل خاص، الذي كان، قبل النيابة وخلالها وبعدها، كما مرَّ، محامياً مبرِّزاً وخطيباً مفوَّهاً في البرلمان، وخارجه، زامل وواجه نخبة من كبار المحامين الذين دخلوا في “السجلِّ الذهبي” للعدلية اللبنانية، أمثال إميل لحود، وحبيب أبو شهلا، وملحم خلف، وفؤاد رزق، وإدمون كسبار، وجان تيَّان، ويوسف السودا، وجان جلخ، وغيرهم من كبار المحامين الذين كانت البلاغة الخطابية في مرافعاتهم هي جسر عبورهم إلى الشهرة وإلى الأحكام القضائية النبيلة (…).

تلك المناخات السياسية التي عاشتها العائلة، وفتحت عينيَّ عليها، كوَّنت طموحي إلى تعاطي الشأن العام، والشغف به. لكن والدي لم يشأ ذلك، ودفعني دفعاً إلى خيار آخر، هو دراسة الطب، ومارس عليَّ ضغوطاً شديدة لكي يحملني على السير في هذا الخيار، فنزلت عند رغبته في البداية، لكنني ما لبثت أن خالفت رغبته.

من الطب إلى المحاماة

إقرأ على موقع 180  العبوة تنفجر وعماد مغنية الشبح.. "قُتِلَ أخيراً"! (123)

تلقيَّت دروسي الثانوية العليا لثلاث سنوات متتالية في “إنترناشينال كوليدج” بغية دخول الجامعة الأميركية لدراسة الطب حسب رغبة والدي. وكان أن دخلتها عام 1967، فدرست سنتين إعداديتين إلزاميتين لكلّ من يبتغي التأهّل لدخول كليّة الطب، لكنني لم أتكيَّف مع هذا الاختصاص، فغلبني هواي بالمحاماة والسياسة، وقصدت كلية الحقوق والعلوم السياسية والاقتصادية التابعة للجامعة اللبنانية، من دون علم والدي، لأحوز منها عام 1972 إجازة في الحقوق راغباً في السير على خطى والدي وعمِّي أديب في القانون الجنائي.

كان من الطبيعي أن يغضب والدي لعصياني له، ودرس الحقوق، فطردني من البيت ستة أشهر، فوجدت في جدَّتي لأمي، جوليا دويليبي، الصدر الحنون، فأوتني في منزلها الكائن في “حي الراسيَّة”  في زحلة. وقد كنت تعلَّقت بجدَّتي جوليا منذ صغري، وكانت قريبة إليَّ صفيَّة عندي حتى وفاتها في بيتي، الذي احتضنتها فيه خلال سنواتها الأخيرة.

عاقبني والدي أيضاً بقطع أي مساعدة مالية، فاستنجدت بعمِّي أديب الذي عمل على إيجاد وظيفة لي تدرُّ عليَّ دخلاً منتظماً، فاتّصل بالياس سركيس، حاكم مصرف لبنان، خريف عام 1968، فتم تعييني موظفاً في فرع المصرف في زحلة، إلاّ أنَّ أمدها لم يتعدَّ الشهرين، فالوظيفة لم تكن قصدي ولا مبتغاي. وأعترف هنا بأنني أسأت التصرُّف خلال تلك الفترة القصيرة، عامداً متعمّداً، بهدف الخروج من تلك الوظيفة، فتغيَّبت عن الحضور من دون عذر، وتعمَّدت المشاحنة والتنافر لأتفه الأسباب مع رؤسائي، ومن بينهم شارل الشامي، الذي تشاجرت معه مرَّة شجاراً عنفيِّاً، فضربته بمنفضة لم تُحدث أي أذى لحسن الحظ.

بعد أقل من سنتين تقريباً على استقراري في عملي القانوني في زحلة بدأت البلاد تضطرب. كانت إرهاصات الحرب الأولى بدأت في الظهور عام 1973 . إلى جانب عملي المبتدىء في المحاماة خلال تلك الفترة المضطربة، انصرفت إلى تجديد علاقة عائلتنا مع النائب جوزيف سكاف، وهي علاقة، كما مرَّ، كانت انقطعت في العام الأخير من ولاية الرئيس كميل شمعون بينه وبين عمِّي أديب، وبقيت مقطوعة حتى عام 1972، حين انتقل الصراع بينهما إلى البقاع الغربي في انتخابات تلك السنة، وهي الانتخابات التي قام عمِّي أديب بترشيح صهره الياس الفرزلي مكانه، وما نتج عن ذلك من ملابسات خاصَّة وعامَّة. (…)

الحرب الأهلية

اندلعت الحرب، ومع قرع طبولها ارتفعت في زحلة نبرة التيَّار المصطف مع الحراك المسيحي في شرق بيروت، والمتن، وكسروان، وجبيل بقيادة الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميِّل رئيس حزب “الكتائب اللبنانية.” من وقت مبكِّر شعرت بخطورة التوجُّه الذي يسير فيه هذا التيار على مدينة زحلة، وعلى البقاع عموماً. فلم أكن مقتنعاً بدعواه، ولا كنت أستشفُّ جدواه، ولا أرى إمكانية أن يقدِّم أو يؤخِّر من حيث تعديل موازين القوى بين اللاعبين على الساحة اللبنانية. ذلك أن الحرب، التي خيضت تحت شعار مواجهة استباحة الوجود الفلسطيني المسلَّح لسيادة لبنان ولسلطة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها، لم تكن من بدايتها إلى نهايتها شأناً لبنانياً خالصاً.

كنَّا، جوزيف سكاف وأنا، نقرأ معاً التطورات المتسارعة التي عصفت بلبنان، وكان اهتمامنا منصبَّاً بالدرجة الأولى على تأثيراتها المباشرة في مدينة زحلة وقرى وبلدات البقاع. لم يكن من السهل جبه عاصفة الحرب، وما كانت لدينا خطَّة لهذه الغاية، فضلاً عن أننا لم نكن نملك القدرة على المواجهة والتصدِّي، حتى لو أردنا، لا سيَّما أن الفئات المسيحية في زحلة تجاوبت سريعاً مع اندفاع المناطق المسيحية في بيروت وجبل لبنان.

تصرَّف جوزيف سكاف في البداية تصرُّفاً منطقياً منسجماً مع تركيبة قاعدته الشعبية المختلطة من مسيحيين ومسلمين، لذلك كانت قوَّته في الشارع الإسلامي في البقاع توازي قوَّته في الشارع المسيحي الزحلي. وجد أنَّه ليس من مصلحته التورط في الصراع الدائر، فارتأى أن ينأى بنفسه عن التيَّار المسيحي. مع تسارع الحوادث في بقيَّة لبنان، انبثق عن التيَّار المسيحي الجارف في زحلة تكتُّلٌ جديد سمُّوه “التجمُّع الزحلي”عنوانه الدفاع عن المدينة ومنع الاعتداء عليها، الأمر الذي اقتضى التزوُّد بالسلاح، وتدريب الشبَّان على استخدامه، إذا ما دعت الحاجة. كان الرئيس الراحل الياس هراوي، نائب المدينة في ذلك الوقت، من أبرز أعضاء التجمُّع الجديد، وبحكم علاقته الوطيدة مع كميل شمعون استطاع أن يمدَّ التجمُّع بالسلاح. وضم التجمُّع في صفوفه أيضاً المحامي نقولا فتُّوش، وجان عرابي، القريبين من جوزيف سكاف.

كان جوزيف سكاف، مثلنا، يدرك أخطار ما يُحاك للبنان، والتهديدات التي تجبه المسيحيين، ويساوره القلق من استشراء الطائفية على نحو يزيل من تحته قاعدته الإسلامية التاريخية. ظل حائراً بين مصالحه مع محيطه، وبين مشاعر انغلاقه خوفاً على مصيره، فغادر المدينة هو الآخر إلى أن دخلت القوات السورية

أوعز جوزيف سكاف إلى أنصاره بالانضمام إلى “التجمُّع الزحلي” بعدما وجد أن جميع الأحزاب في المدينة يسيرون في هذا الاتجاه، وكذلك فعل الوجهاء المحليون البارزون الذين يحازبونه، ويدينون بالولاء أيضاً إلى رئيسَي حزبَي “الوطنيين الأحرار” و”الكتائب اللبنانية”، ويرون فيهما قيادة موثوقة لما سُمِّي “المشروع المسيحي” ومعركة مواجهة “العدو”، قيادة في نظرهم تملك المقدرة، وما يتطلّبه “المشروع” من معلومات ومستلزمات يقتضيها ذلك الدور التاريخي لتحقيق الأحلام المنشودة.

لم يكن ذلك التحوُّل مستغرباً، بل كان حتمياً بعدما تورَّط الجميع في كلّ مكان تقريباً في الحرب خلال الأشهر الأولى من اندلاعها. ما جرى في زحلة والبقاع كان صورة مكمِّلة للواقع اللبناني السائد آنذاك، فانخرط المسلمون في القرى البقاعية، بدورهم، إلى جانب “الثورة الفلسطينية” و”الحركة الوطنية” المتحالفة معها، فأضحت المنطقة برمَّتها في قلب الانقسام والحريق.

يقضي الإنصاف القول بأن جوزيف سكاف سعى في البداية إلى إبعاد أنصاره عن التيَّار المسيحي الجارف، الوافد من المناطق الشرقيَّة.  لكنه أخفق في ذلك واضطر إلى مماشاة جمهوره شكليَّاً في وقت لاحق، وعلى العموم تمكَّن من تحييد نفسه وهو يشاهد قاعدته الشعبيَّة موزَّعة الولاء. (…)

الشعبة الثانية

ساورتني شكوك حقيقية في دور متعمَّد للشعبة الثانية في الجيش ورئيسها جول بستاني يرمي إلى إقحامنا في الحرب اللبنانية رغم إرادتنا، بعدما سمعت كلاماً يدلُّ على ذلك من فم جول بستاني نفسه في منزل العقيد جورج حرُّوق في بعبدا أثناء اجتماع لشخصيات من زحلة، ضمني وبستاني وحرُّوق إلى الأباتي شربل قسيس، والأب يوسف مونس. في ذلك الاجتماع، ورغم صغر سنِّي في ذلك الوقت، رفعت الصوت عالياً في إبداء وجهة نظري حول الحرب الناشئة، وضرورة تحييد زحلة والبقاع من الصراع الدائر. وقد استفضت في كلمتي عن ضرورة المحافظة على وحدة البقاع، وأخطار الانقسام الإسلامي-المسيحي، وإخراج زحلة من دائرة التوتر المحيط بها. (…)

يبدو أن كلامي، الذي لقي آذاناً صاغياً بين الشخصيَّات الزحلية، لم يرق رئيس الشعبة الثانية جول بستاني فبادرني إلى القول: “لا موجب لأن تنصح جوزيف سكاف بذلك.. لفَّها”!

وكان قصده، كما فهمته في حينه، عدم تنبيه الزعيم الزحلي إلى أخطار ما يحدث، وتحديداً ضرورة تحييد زحلة عن الصراعات الناشبة بعيداً منها.

بعد كل ذلك، من موقف جول بستاني في اجتماع بعبدا، إلى الاعتداءات المفتعلة في زحلة وجوارها، داخلتني شكوك حقيقية حول دور متعمَّد للشعبة الثانية في الجيش لتسعير نار الحرب.

كانت شكوكي في محلِّها. لم يكن تمايزي عن الداعين إلى الدخول في الحرب مقبولاً من هؤلاء. تصرَّفوا على أساس أنَّ من ليس معنا فهو ضدَّنا، وما كان لديهم مانع من استخدام العنف. ذات يوم من تشرين الأول/أكتوبر 1975، أفقت لأجد سيارتي المتوقفة أمام بيتي قد تفجَّرت ليلاً بعبوة ناسفة. كان ذلك أول الغيث، وهي رسالة فهمت مغزاها: إسكات الأصوات المعترضة. لم يجرِ تحقيق في حادث تفجير السيارة، ولم يتحرَّك ساكنٌ، ولا حتى استنكارٌ شكليٌّ من أحد. لذلك لم أستبعد أن يكون للشعبة الثانية في الجيش دورٌ في تشجيع مثل هذه الاعتداءات، كما خطر لي من البداية.

ما أكد ذلك وقوع حادث آخر فيما كنَّا نعقد اجتماعنا الدوري لدعاة الاعتدال في منزل منير جحا، المدرِّس والناشط الكشفي المتلاقي معنا في وجهة نظرنا، وكان بين الحضور في ذلك الاجتماع يوسف البيطار، وهو شخصيَّة سنِّية يقول بما نقول، وخرج من الاجتماع ليجد أنَّ مجهولين قد مزَّقوا إطارات سيارته. كانت تلك الرسالة الثانية من الجهة ذاتها ضد خيارنا الحيادي.

المطلوب هو السكوت وعدم رفع الصوت بما لا يتلاءم مع توجُّهات ذلك الوليد السياسي الجديد النامي في المدينة.  ردُّ الفعل على ذلك لم يطل. تداعى ممثِّلو العائلات الزحلية المتفقون معنا في الموقف، وهم من خيرة المثقفين، أمثال الدكتور فارس ساسين، والدكتور ملحم شاوول، والدكتور سهيل القشّ، والصحافي نجيب خزَّاقة، إلى لقاءات ثنائية غير منسَّقة لمناقشة سبل الرد على المتطرّفين قارعي طبول الحرب. (…)

كان جوزيف سكاف، مثلنا، يدرك أخطار ما يُحاك للبنان، والتهديدات التي تجبه المسيحيين، ويساوره القلق من استشراء الطائفية على نحو يزيل من تحته قاعدته الإسلامية التاريخية. ظل حائراً بين مصالحه مع محيطه، وبين مشاعر انغلاقه خوفاً على مصيره، فغادر المدينة هو الآخر إلى أن دخلت القوات السورية.

– كتاب “أجمل التاريخ كان غداً”، صادر عن دار سائر المشرق، بطبعته الأولى في مطلع العام 2020.

 الحلقة الأولى، أجمل التاريخ كان غداً: شاهد على حقبة  https://180post.com/archives/10168

 الحلقة الثانية، “مشادة تاريخية” بين الفرزليين أديب وإيلي  https://180post.com/archives/10266

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  شارون وعرفات.. قصة مطاردة "السمكة المالحة" في بيروت (45)