لا تأثير دراماتيكياً للعقوبات الأميركية على الاقتصاد الروسي في ظل إستمرار مدفوعات الطاقة. لا حظر أيضاً على واردات المعادن الروسية للغرب، ذلك أن الغرب لا يستطيع الحصول على ذات المعادن الضرورية جداً لصناعاته من مصادر أخرى، وتحديداً بلدان أوروبا الغربية وخاصة الصناعة الألمانية. وكما هو معروف، لا توجد أي عقوبات على المصارف الروسية التي تتلقى المدفوعات الغربية بدل موارد المعادن والغاز والنفط الروسي. هناك من يتساءل في هذا المجال، لماذا لم تلجأ روسيا بعد إلى إستخدام سلاح وقف صادراتها من النفط والغاز وسائر المعادن تحديداً إلى أوروبا الغربية لمنعها من الالتحاق بخيار واشنطن الهادف إلى تقزيم دور روسيا وجعلها دولة إقليمية وليس دولة عظمى وبالتالي استتباع روسيا كما نجحت مجدداً في استتباع أوروبا؟ ألا يؤدي استخدام هذا السلاح، ولو لفترة قصيرة، إلى إلحاق ضرر شديد بدول أوروبا الغربية، بما يؤدي إلى كبح جماح ركوبها القطار الأميركي في مواجهة روسيا؟
وفق خبراء روس، هناك سببان يحولان حتى الآن دون إستخدام هذا السلاح. أولهما، أن روسيا تريد أن تثبت، برغم الظروف الصعبة، أنها شريك أعمال موثوق به يفي بعقوده ولا يستخدم العلاقات التجارية سلاحاً حتى مع الخصوم في عز الحرب. ثانيهما، وهو خاطئ، أن شريحة كبيرة ووازنة من الاقتصاديين الروس ومعهم المصرف المركزي الروسي، يتأثرون بالأفكار النيوليبرالية الاقتصادية الأميركية ويعتقدون بالتالي أن الاقتصاد الروسي لا يمكن أن يتطور من دون حيازة العملة الصعبة. هؤلاء أنفسهم يرددون أن المصرف المركزي لا يمكنه زيادة الإصدارات من العملة المحلية، أي الروبل، لتمويل المشاريع الاستثمارية إلا إذا تم دعم الروبل بالتبادل التجاري مع الغرب، الأمر الذي يوفر له العملة الصعبة المطلوبة. ويعلق اقتصادي روسي كبير على ذلك بالقول “لقد تسببت تلك الذهنية الاقتصادية في اقتراض أموال لا تحتاج إليها روسيا أصلاً وكبّدت المالية الروسية الكثير من الفوائد بلا طائل”. وحسب الاقتصادي الروسي نفسه، فإن سياسة المصرف المركزي الروسي هذه تخدم بلا أدنى شك المصالح الغربية على حساب مصالح روسيا. فمن وجهة نظره، “يمكن للروس تعطيل الصناعة الغربية إذا توقفت روسيا عن تصدير الطاقة والمعادن، لكنها ـ على ما يبدو ـ خائفة من القيام بذلك خشية فقدان العملة الصعبة”.
الاكتفاء الذاتي يمكن أن تحققه روسيا بسهولة. فهل ستلجأ إدارة فلاديمير بوتين إلى جعل حرب العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة ضد روسيا، فرصة لإعادة النظر بالسياسات الاقتصادية وتحويل روسيا إلى دولة صناعية متقدمة ومنافسة في الأسواق العالمية وهي تمتلك كل مقومات ذلك؟
وعلى عكس حالة أوروبا، فإن الولايات المتحدة ليس لديها ما تحتاجه من روسيا. لقد لجأ جو بايدن إلى حظر الصادرات الأميركية من البضائع الفاخرة إلى روسيا، وهذا أمر لا يمس سوى فئة قليلة من الأثرياء الروس ولكن ليس له تأثير على الاقتصاد الروسي، أي إقتصاد الناس.
بالمقابل، روسيا دولة غنية جداً بموارد الطاقة وجميع أنواع المعادن والمواد الأولية، كما هي غنية بالطاقات البشرية التي تجعلها قادرة فعلاً على إنتاج وصناعة ما تحتاجه. ويمكن للبنك المركزي أن يموّل جميع المشاريع الإستثمارية الداخلية. لكن الأميركيين، حسب الخبراء الروس، “نجحوا في غسل أدمغة الاقتصاديين الروس الموجودين في سدة القرار، ما يؤدي إلى تعطيل استخدام سلاح قوي بيد الروس يُمكّنهم من مواجهة محاولات الغرب فرض حصاره عليهم.
ثمة سؤال لا بد من طرحه أيضاً: لماذا يتخلى المصرف المركزي الروسي عن فرصة استخدام صادرات روسيا لتحقيق الاستقرار في العملة الروسية ولماذا لا يملك الإقتصاديون الروس إرادة مطالبة الشركات الغربية بدفع ثمن الصادرات الروسية من مواد الطاقة والمعادن بالروبل الروسي تعزيزاً له بدل العكس؟
في لعبة العقوبات، يقول خبير روسي واسع الإطلاع، “روسيا تملك الكثير من البطاقات ولكنها لا تعرف كيفية لعبها أو أن هناك وراء الأكمة ما وراءها”. لا يوجد في الغرب شيء أساسي يحتاجه الروس، لكن الغرب لا يستطيع البقاء على قيد الحياة من دون طاقة روسيا ومعادنها. ولسنوات عديدة لم يكن لدى الأميركيين ما يمكّنهم من الوصول إلى التجارب الفضائية من دون الروس الذين يحملونهم إلى محطة الفضاء الدولية. ويعتقد هذا الاقتصادي الروسي أن واشنطن “ستساعد روسيا من خلال حظر الإستثمار الغربي في جميع القطاعات الاقتصادية الروسية”، بمعنى آخر، سوف تؤدي العقوبات الأميركية والغربية المتمادية على روسيا إلى ما كان يجب على روسيا فعله منذ سنوات، أي الإتكال على إمكانياتها وقدراتها وهي كبيرة جداً. اما واقع الحال في يومنا هذا، فيجعل الاستثمار الأجنبي في روسيا الغنية بكل شيء “أداة استغلال وليس حاجة”، وفق الاقتصادي الروسي سرغي غلازييف، الذي يشير إلى أن نصف أصول الصناعة الروسية مملوكة من قبل غير مقيمين، وهذا يعني أنه يتم تصدير كمية هائلة من الدخل من هذه الأصول الروسية إلى خارج روسيا.
بهذا المعنى، تتيح العقوبات الغربية الواسعة على الاقتصاد الروسي فرصة مناسبة لتصحيح خطأ استراتيجي إرتكبه العقل الإقتصادي النيوليبرالي، حسب الاقتصادي الروسي عينه، وبالتالي بمقدور روسيا إتخاذ قرارات من نوع تأميم الأصول المملوكة لشركات البلدان المنخرطة في العقوبات والتي تقوم عملياً بسرقة الودائع المصرفية الروسية، “فلماذا لا ينبغي على روسيا أن تنتقم من سارقي أصولها الحقيقية”، يسأل الخبير الروسي.
تساؤل مشروع عن سبب عدم اتخاذ روسيا مثل هذه الخطوات التي من شأنها دفع الغرب إلى الإنهاء الفوري لجميع العقوبات والدعاية ضد روسيا أو أقله إلى إعادة نظر سريعة بجدوى سلاح العقوبات. لماذا تتخلى روسيا عن هذه الورقة؟ هل روسيا عاجزة عن اتخاذ القرار بسبب هيمنة جزء كبير من الطبقة الفكرية الروسية التي تم غسل أدمغتها من قبل المنتدى الاقتصادي العالمي والتزاماتها بالعولمة أم أن الوقت لم يحن بعد لمثل هذه القرارات؟
الاكتفاء الذاتي، حسب العديد من الاقتصاديين الروس، يمكن أن تحققه روسيا بسهولة. فهل ستلجأ إدارة فلاديمير بوتين إلى جعل حرب العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة ضد روسيا، فرصة لإعادة النظر بالسياسات الاقتصادية وتحويل روسيا إلى دولة صناعية متقدمة ومنافسة في الأسواق العالمية وهي تمتلك كل مقومات ذلك؟