لولا الإتفاق الفلسطيني ـ الإسرائيلي في العاصمة النروجية (أوسلو)، والذي صار إسمه لاحقاً مرادفاً لكلمات شائعة وممجوجة مثل التطبيع والسلام والتسليم والإستسلام، لكانت هذه الدولة الإسكندنافية شبه منسية. لكن يبدو أن التحولات العالمية الكبرى، من سياسية وإقتصادية، غيّرت الخطط والتوجهات وبدّلت إتجاه بوصلة الإستراتيجيات الكبرى، فلم تعد مُصوبة نحو الشرق الاوسط، بل نحو الشرق البعيد حيث مصنع العالم، وها هي الآن تتوجه نحو القطب الشمالي، كنز الموارد الطبيعية المدفون تحت الثلوج.
في أجواء التوتر المتصاعد بين الغرب وروسيا، يشهد أقصى الشمال الأوروبي في السنوات الأخيرة زيادة في الأنشطة العسكرية غير المسبوقة منذ إنتهاء الحرب الباردة في ثمانينيات القرن الماضي. آخر هذه الأنشطة هو نشر القوات الجوية الاميركية 4 قاذفات من طراز “بي-1” في النروج المنتمية إلى حلف “الناتو”. تزامن ذلك مع إرسال 200 من عناصر سلاح الجو الأميركي، من قاعدة دايس في ولاية تكساس إلى قاعدة أورلان الجوية النروجية. قبل ذلك، نشرت البحرية الأميركية حاملة طائرات في بحر النروج في 2018، تلتها بعد سنة نشر سفن في بحر بارنتس، في المنطقة الإقتصادية الروسية الخالصة. كما أعلنت أسوج غير الأطلسية، وهي جارة النروج، عن زيادة هائلة في إنفاقها العسكري، ومثلها فعلت فنلندا وكندا، وهي كلها دول مشاطئة للقطب المتجمد الشمالي.
كما أعلنت الإذاعة الوطنية النروجية أن القوات البحرية تعيد تأهيل قاعدة “أولافسفيرن” النووية السرية، بهدف إيواء الغواصات الأميركية النووية هناك، وذلك بعد إغلاقها قبل 18 عاماً. وتقع تلك القاعدة على مسافة 220 ميلاً من الحدود الروسية، وتالياً فهي توفر موقعاً مثالياً للحلفاء الغربيين لإحتواء أي عمل عسكري روسي بسرعة.
ووفقًا لشبكة “سي ان ان” الأميركية، فإن هذه الخطوات موجهة إلى روسيا، وتريد واشنطن من خلالها تطمين حلفائها في المنطقة القطبية في مواجهة أية إعتداءات روسية محتملة بالقرب من حدودها.
ويأتي توسيع الوجود العسكري الأميركي في النروج، وسط رفض أوسلو مواصلة الحوار الثنائي مع موسكو حول القضايا الأمنية وتجميد الإتصالات بين وزارتي الدفاع الروسية والنروجية إثر أحداث أوكرانيا (2014).
دخول روسيا والولايات المتحدة في صراع عسكري مفتوح، يعني تصادم قواتهما في النروج وإنهاء الهدوء والإستقرار في هذا البلد وزجه في صراعات لا تنتهي. وهذا حتماً ما يرفضه النروجيون
واللافت للإنتباه في هذا التحرك، ان واشنطن كانت في السابق تقوم بمهمات في المنطقة القطبية إنطلاقاً من بريطانيا. لكن عندما يتحرك الجيش الأميركي هذه المرة في دولة غربية مجاورة لروسيا، فهذا يعني أنها قررت رسم خط تماس إستفزازي جديد وأنها قادرة على أي رد فعل فوري على أي فعل روسي محتمل.
من جهتها، إعتبرت هيئة الأركان الروسية أن تكثيف الوجود العسكري الأجنبي في النروج وفي أقصى الشمال القطبي، بشكل عام، بما في ذلك نشر القاذفات الاستراتيجية هناك، يشكل تهديداً لروسيا. هذا الأمر أكده الرئيس فلاديمير بوتين في مقابلة مع صحيفة “ايل كورييري ديلا سيرا” الإيطالية في عام 2015 عندما قال:”القطب الشمالي يمثل خطرَ أن يصبح منطقة مواجهة مع الولايات المتحدة وحلف الناتو، جميع جيران روسيا في أقصى الشمال – الولايات المتحدة وكندا والنروج والدنمارك – هم أعضاء في الناتو، قبالة سواحل النروج، غواصات أميركية تعمل بالطاقة النووية بصواريخ باليستية قادرة على ضرب أهداف في وسط روسيا في بضع دقائق”.
أما في الفترة الأخيرة، فكانت هناك إنتقادات أميركية واضحة للسلوكيات الروسية في منطقة القطب الشمالي طاولت الصين، التي تتشارك وروسيا بمشاريع ضخمة في هذه المنطقة.
وبطبيعة الحال فإن دخول روسيا والولايات المتحدة في صراع عسكري مفتوح، يعني تصادم قواتهما في النروج وإنهاء الهدوء والإستقرار في هذا البلد وزجه في صراعات لا تنتهي. وهذا حتماً ما يرفضه النروجيون الذين هالهم قبول حكومتهم نشر قوات أجنبية على أرضهم، فتحركت أحزابهم وجمعياتهم للتظاهر والتنديد بهذه الخطوة.
لكن مهلاً، فالأمر لا يستدعي قلقاً أو بث مخاوف، ذلك أن نشر أربع طائرات في هذه الدولة الاسكندنافية بالذات، لا يشعل حرباً عالمية أو إشتباكاً بين القطبين الكبيرين، لكنه يؤشر إلى معطى جديد في الإستراتيجيات الدولية حيث التسابق على النفوذ بين الدول الكبرى بات على أشده في القطب المتجمد الشمالي، بعد إكتشاف كنوز ضخمة من النفط والغاز والذهب والكروم والمنغانيز في أراضيه ومياهه.
ومنذ عام 2010، تحولت المنطقة القطبية الشمالية، أي المحيط المتجمد الشمالي والأراضي المجاورة، والتي تصل مساحتها إلى ثلاثة أضعاف مساحة قارة أوروبا، إلى جبهة صراع بين روسيا والغرب. وزادت أهمية هذه المنطقة نتيجة لتغير المناخ الذي زاد معدل حرارة الأرض وأذاب الجليد، الأمر الذي أعطى فرصاً أكبر للملاحة في المنطقة من شأنها تغيير وجه التجارة العالمية، كما أدى إلى سهولة عملية التعدين، وخصوصاً في مجال الطاقة.
ومعلوم أن طريق البحر الشمالي من مورمانسك إلى بتروبافلوفسك كامتشاتسكي ومنها إلى فلاديفوستوك وناخودكا هو أقصر ممر مائي من شرق آسيا إلى أوروبا الغربية. ويتوقع أن تصل حركة الشحن في هذا الممر إلى 130 مليون طن سنوياً بحلول عام 2035، صعوداً من 31.5 مليون طن في عام 2019.
في هذا الصدد، أصبح تحديد المناطق الإقتصادية الخالصة أكثر أهمية من ذي قبل، ففي عام 2015 إستولت روسيا على جزء كبير من الجرف القاري في القطب الشمالي وأعادت تأكيد وجودها هناك من خلال الإعلان عن إنشاء قواعد جديدة وعمليات إنتشار في مناطق تزداد بعداً، مما جعل الدول الأخرى تقدم على الخطوة نفسها، فهناك منافسة قوية على حقوق السيادة على هذه المنطقة الغنية جداً بالنفط و الغاز والثروة السمكية.
وبرغم أن الصين ليست دولة مشاطئة للقطب الشمالي إنما لديها إستراتيجية خاصة به، فمع إزدياد وتيرة نموها الإقتصادي والعسكري والدبلوماسي، تسعى بيجينغ إلى مكانة دولية أعلى، ليس فقط في المحيطين الهندي والهادئ، ولكن أيضاً في أجزاء أخرى من العالم. فقدمت نفسها على أنها دولة “قريبة من القطب الشمالي”، وكشفت عن مبادرة “طريق الحرير القطبي” التي تعد إمتداداً لمبادرة الحزام والطريق الكبرى.
تتخوف أميركا وبريطانيا ودول غربية اخرى فعلاً من أن يفتح طريق البحر الشمالي أبواب مرافئهم للسفن الصينية والروسية
وعلى الرغم من إستحالة دخول بيجينغ في مواجهة عسكرية مع واشنطن، فإن استراتيجياتها التوسعية للإستيلاء على مصادر الطاقة، تشكل مصدر قلق لإستقرار القطب الشمالي بشكل كبير، ومصالح أميركا خصوصاً. وتعتبر غرينلاند وآيسلندا مركزين للصراع الدبلوماسي بين الولايات المتحدة والصين، حيث تستثمر الصين في الموارد المعدنية في غرينلاند، والطاقة الحرارية الجوفية في آيسلندا، إضافة إلى مشروعها المشترك مع فنلندا لتطوير “طريق الحرير الرقمي”. وأدت محاولة بيجينغ شراء قاعدة بحرية مهجورة وحرصها على بناء مطار جديد في نوك، عاصمة غرينلاند، إلى تدخل واشنطن والضغط على الحكومة الدنماركية من أجل وقف هذه المبادرات. وتخشى الإدارة الأميركية من أن تشجع الإستثمارات الصينية جزيرة غرينلاند على المطالبة بإستقلالها عن الدنمارك، إذ سيكون ذلك إنتكاسة كبيرة لإلتزامات الولايات المتحدة الأمنية في المنطقة، وخاصة لقاعدتها العسكرية في ثول، شمالي الدائرة القطبية الشمالية. من هنا بدأت واشنطن بالبحث على قواعد ومواطىء قدم جديدة في المنطقة وتوسيع إنتشارها.
ولأن الصين تخشى من أن تؤدي التوترات الحالية في بحر الصين الجنوبي ومضيقي ملقة وتايوان وتوترات الخليج وباب المندب من إغلاق شريان الملاحة والتجارة والنفط بينها وبين الشرق الأوسط وأوروبا، فإنها ترى في ممر البحر الشمالي منفذاً بديلاً محتملاً، برغم انه يضعها بين براثن حليفها الروسي المسيطر على أطول مسافة من هذا الطريق. وتتخوف أميركا وبريطانيا ودول غربية اخرى فعلاً من أن يفتح طريق البحر الشمالي أبواب مرافئهم للسفن الصينية والروسية. لذا يكثر الحديث في الولايات المتحدة، عن إضعاف الوجود الروسي في القطب الشمالي وتدويل طريق بحر الشمال، أي أن واشنطن تسعى إلى جعل طريق بحر الشمال شريان نقل، متاحاً للمجتمع الدولي بأسره، وليس طريقاً روسياً أو صينياً للنقل. وفي هذا الصدد، تتلاقى مصلحة النروج مع المصلحة الأميركية حيث تعتقد أوسلو أن وجودها الجغرافي على ممر الشمال يمنح مرافئها ميزة تجارية مهمة وأفضلية بعدما إحتكرت دول جنوب أوروبا هذه الميزة لقرون عدة بسبب وجودها في البحر المتوسط قلب التجارة العالمية على مدى التاريخ.
وبما أن تقسيم النفوذ والموارد في القطب الشمالي سيخضع لحسابات القوة العسكرية والبحرية للدول المطلة عليه، فإن روسيا والولايات المتحدة وبقية دول المنطقة (كندا وأسوج والنروج وفنلندا والدنمارك) تعمل على إنشاء وتطوير تشكيلاتها العسكرية في المنطقة القطبية الشمالية، وبينها إنشاء وحدات جديدة لأغراض القطب الشمالي، وإجراء مناورات عسكرية واسعة النطاق.
وفيما أطلق فلاديمير بوتين في العام 2020 “إستراتيجية تطوير منطقة القطب الشمالي الروسية، وضمان الأمن القومي حتى عام 2035″، أقرت واشنطن عام 2014 ما أسمتها “إستراتيجية الولايات المتحدة الوطنية لمنطقة القطب الشمالي”، وهدفها تعزيز مصالح الولايات المتحدة في مجال الأمن القومي، وصولاً إلى فرض هيمنتها على هذه المنطقة، وكذلك تقييد نمو النفوذ الروسي والطموحات الصينية فيها، وهذا الأمر يطرح تحديات دولية جديدة ويجعل منطقة القطب الشمالي مسرحاً لمنافسة عالمية على حركة المرور والموارد الطبيعية، ما يغيّر في أحوال دول كانت حتى الأمس القريب تنعم بهدوء البال والإستقرار بعيداً عن ضجيج السياسة الدولية ولعناتها.