عندما كتب مدوّنو فاتحة الدستور الأمريكي “نحن شعب الولايات المتّحدة ..” (..We the people of the United States)، هل كانوا يعنون بتلك العبارة الجميلة كامل الشعب الأمريكي أم فقط طبقة من المتنفّذين تحديداً ولا سيما البيض؟ قطعاً، لم تكن تشمل السود أو الشعوب الأصلية وهؤلاء ـ بعكس ما يقوله الدستور ـ لم يحصلوا على الحرّية والكرامة والعدل والإزدهار إلاّ بالقطارة بفعل نضال ما زال مستمرّاً حتى يومنا هذا.
وحتى نفهم الغرب المهيمن (وهو عكس الغرب الرافض للهيمنة)، علينا أن نرجع إلى زمن تأسيس “الغرب” في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، مع ظهور عصر النهضة (Renaissance) في أوروبا، والذي أدّى إلى قيام اتّجاهات جديدة في كثير من ميادين العلم والفكر، مثل العمارة والفنون والعلوم على أنواعها والفلسفة والأدب والسياسة، إلخ. وكانت هذه الأمور من أهمّ العوامل التي قادت إلى ظهور عصر التنوير (Enlightenment) في القرنين السابع عشر والثامن عشر وميزته استخدام العقل (reason) أساساً للفكر والعلم بدل التراث. وما يزال هذا المزيج من أفكار عصر النهضة وعصر التنوير حاضراً في نتاج أبرز المفكرين المعاصرين.
سأكتفي في هذا النص بإستعراض ما يتصل بالقانون الدولي الذي هو وليد التجربة الغربيّة ببعديها الإستعماري (سعي أوروبا ثم أمريكا للسيطرة على العالم)، والداخلي (أي التقاتل بين الأوروبيّين). يُعتبر فرانشيسكو دي ڤيتوريا (Francisco de Vitoria) من أوائل مفكّري عصر النهضة الذين وضعوا ركائز فكر القانون الدولي، وكانت أفكاره وكتاباته في هذا الموضوع ثوريّة ونقديّة بالمقارنة مع ما كان شائعاً في زمانه.
ولد فرانشيسكو في بلدة ڤيتوريا (بلاد الباسك، شمال إسبانيا) في سنة 1486، وانضمّ إلى الرهبنة الدومينيكانيّة وأُرسل ليدرس في جامعة باريس، حيث أصبح محاضراً بعد تخرّجه. في سنة 1523، عاد إلى إسبانيا مُدرّساً في جامعة بلد الوليد (Valladolid) وأصبح في سنة 1526 أستاذاً لكرسي علم اللاهوت وبقي في هذا المنصب المرموق حتى وفاته في سنة 1546.
عاملان مهمّان ساعدا فرانشيسكو دي ڤيتوريا ليترك هذا التأثير الكبير في الفكر الأوروبي في ما يخصّ قانون العلاقات بين الدول (ius gentium). العامل الأوّل يعود إلى تلاميذه الذين درسوا معه ونشروا أفكاره، ويقدّرون بحوالي 5000 طالب، وبعضهم صار من أبرز أساتذة جامعات أوروبا في ذلك الوقت، مثل جامعة سالامانكا (Salamanca، شلمنقة) وجامعة الكَلا (Alcalá، القلعة) قرب مدريد، والذين عرفوا في ما بعد في أوروبا بمدرسة سالامانكا (School of Salamanca). العامل الثاني أنّه كان مستشاراً في بلاط الملك كارلوس الأوّل (1516 ـ 1556) والذي أصبح أيضاً – بإسم كارلوس الخامس – إمبراطوراً للإمبراطوريّة الرومانيّة المقدّسة من 1519 وحتّى 1556 والتي شملت في وقته الكثير من بلدان غرب أوروبا (بما في ذلك إسبانيا وإلمانيا والنمسا ومعظم إيطاليا وهولاندا) ومعظم أراضي ما عرف في ذلك الوقت بـ”العالم الجديد” في القارتين الأمريكيّتين. إذاً، لم تكن أفكار فرانشيسكو عبارة عن مجرد ترف نظريّ، بل كانت لها تطبيقات عملانيّة مباشرة.
خلقت أفكارفرانشيسكو دي ڤيتوريا واقعاً جديداً في القانون الدولي مبنياً على التقاطع بين التجارة والتبشير. وأي مكان في العالم يضع الغرب المهيمن يده عليه يصبح له، وممنوع أن يقف أحد في وجه تجارتهم ومصالحهم والتبشير بأفكارهم. وإذا تجرّأ أحد على ذلك، تنهال عليه الحروب واللعنات العقوبات.. ولا حول لنا ولا قوّة إلّا بالغرب
التمعّن في فكر فرانشيسكو دي ڤيتوريا ضروري لكي نفهم أسس ومنطق العقل السياسي والقانوني الغربي، والذي يرقص ويوازن بين القيم النبيلة من جهة والمصالح الإستعماريّة والغطرسة من جهة أخرى. بمعنى آخر، دراسة نشوء الفكر الأوروبي في عصري النهضة والتنوير يوضّح لنا كيفيّة استخدام الغرب للفكر والفلسفة والمنطق والقانون و.. من أجل الهيمنة على العالم، وليس بالضرورة من أجل خلق عالم أفضل.
تكمن ثوريّة أفكار فرانشيسكو دي ڤيتوريا في أنّه قدّم نقداً منهجيّاً للأسس الدينيّة التي اعتمد عليها حكّام أوروبا المسيحيّين حتّى وقته من أجل تفسير شرعيّتهم السياسيّة. في نقده، يقول مثلاً إنّ المسيح لم يكن يوماً ملكاً ولم يدعو مطلقاً إلى إنشاء مملكة سياسيّة على الأرض. لذلك، برأيه، لا يملك بابا روما أي مسوغ ديني لأن يكون ملكاً أو لينتدب للحكم من يريد. أهميّة هذا النقد أنّه أسّس لمنطق فصل الدين عن الدولة في الغرب وأنّ السلطة تستمدّ قاعدتها وشرعيّتها من الناس، وتتغير بفعل تطوّرهم أو تخلّفهم.
على هذا الأساس، بلغ فرانشيسكو في نقده حد القول إنّ الإمبراطور كارلوس ليس له أي مسوغ شرعي يمكن أن يستمدّه من الدين أو الطبيعة أو علم الأخلاق يعطيه الحقّ في مصادرة أملاك وأراضي الشعوب الأصليّة (كان فرانشيسكو يُسمّيهم بالهمج Barbarians) في العالم الجديد (أي في القارتين الأمريكيّتين) أو إستعبادهم.
يمكن أن نتوقّف هنا لكي نُشيدَ بإنسانيّة فرانشيسكو كما يفعل الكثير من المفكّرين الغربيّين اليوم، لكنّ ما ذكرناه هو نصف القصّة فقط. هو من جهة حطّم الأسس التي بنى عليها الأوروبيون حقّهم في استملاك الأمريكيّتين. لكنّه بنى أسساً أقبح منها بكثير، ما يزال الغرب يتبعها إلى يومنا هذا.
“عبقريّة” فرانشيسكو أنّه رفض رفضاً قاطعاً أن يُبطِل شرعية إحتلال إسبانيا (والبرتغال) للعالم الجديد وتشريد أهله الأصليين ونهب أملاكه وتملّك ثرواته منذ استكشافه في زمن الملك فرناندو والملكة إيزابيلّا في أواخر القرن الخامس عشر. على العكس من ذلك، نراه يستنجد بقول لأرسطو (“كتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس”) ينهى فيه عن نبش الأمور الماضية والتي حصل حولها نقاش وتقرّرت لأنّ ذلك يفتح خلافات لا جدوى منها. إذاً، ينطلق فرانشيسكو من حقيقة أنّ إحتلال الإسبان للأمريكيّتين هو أمر واقع وممنوع الطعن بشرعيّته.
لم يُشرعن فرانشيسكو إستعمار القارة الجديدة وحسب. بعد تفنيده ودحضه الآراء الدينيّة والفلسفيّة التي أضفت الشرعيّة على احتلال الأوروبيّين للعالم الجديد واستباحة الحجر والبشر فيها، نجده يؤسّس لفكر جديد في القانون الدولي يُعطي الأوروبيّين حريّة التجارة مع أي بلد أو مجتمع يريدون ولا يسمح لأحد أن يمنعهم من ذلك، وإذا قام من يمنعهم، فالقانون الدولي يسمح لهم بقتالهم بما أوتي لهم من قوّة من أجل إجبارهم على تقبّل ذلك.
ذهب فرانشيسكو أبعد من ذلك عندما قال إنّه وفقاً للقانون الدولي، كل ثروة طبيعيّة لا يعرف بها أهل بلدها هي ملك لمن يكتشفها: “إذا كان هناك من ذهب في الأرض أو لؤلؤ في البحر أو أي شيء آخر في الأنهار لم يستخرجه أحد بعد، فهو، وفقاً للقانون الدولي، ملك لأول من يلتقطه، مثل السمك في البحر”. وكذلك الأمر، إذا أراد أهل العالم الجديد استرجاع ما استملكه الإسبان منهم، يعتبر هذا خرقاً لحقوق الإسبان ويصبح عند ذلك من الجائز قانونيّاً محاربتهم.
ويجب على الإسبان أن يبشرّوا بالدين المسيحي بين هؤلاء “الهمج”. فإذا رفضوا أو قاوموا التبشير، من حقّ الإسبان محاربتهم لفرض التبشير عليهم، وصولاً إلى حماية من يعتنق المسيحيّة “حتّى لو كان الإعتناق ناتجاً عن تهديد أو إرهاب أو وسائل غير شرعيّة”، يقول فرانشيسكو، وعند ذلك، يحقّ للبابا (من موقع سلطته الدينيّة للحفاظ على رعيّته ونشر الدين) وزعماء اسبانيا أن يعيّنوا عليهم زعماء وحكّاماً لتدبير أمورهم وحمايتهم من أي إضطهاد يجبرهم على العودة إلى ما كانوا عليه سابقاً.
أي مراقب للتاريخ الحديث يستطيع أن يرصد تأثير أفكار فرانشيسكو دي ڤيتوريا في الغرب وسياساته منذ زمانه حتّى يومنا هذا. خلقت أفكاره واقعاً جديداً في القانون الدولي مبنياً على التقاطع بين التجارة والتبشير. وأي مكان في العالم يضع الغرب المهيمن يده عليه يصبح له، وممنوع أن يقف أحد في وجه تجارتهم ومصالحهم والتبشير بأفكارهم. وإذا تجرّأ أحد على ذلك، تنهال عليه الحروب واللعنات العقوبات.. ولا حول لنا ولا قوّة إلّا بالغرب.