الواقع هو ان اسرائيل اعترفت بأن عدم ترسيم الحدود البحرية مع لبنان بات باهظ الكلفة بالنسبة إليها وانها لم تعد تتحمل إحجام شركات عالمية عن الإستثمار في “حقولها الواعدة” نتيجة عدم الترسيم الذي يرتب على اي مستثمر تبعات قانونية وامنية ومالية.. لذلك تعمد اسرائيل كل فترة الى طرح مخرج جديد أساسه قبول لبنان بما عرضه الوسيط الاميركي اموس هوكشتاين والذي اسقط حتى الخط 23 الذي ينتقص بشكل فاضح من الحق اللبناني، اضافة الى شروط اخرى غير واضحة المعالم يجري التكتم عليها اميركيا واسرائيليا.
وبصرف النظر عن سؤال لماذا قرر العدو الترسيم اليوم وليس منذ العام 2000، فان الاستعجال الاسرائيلي يطرح التساؤلات التالية:
اولا: ان كل القرارات الدولية ذات الصلة بالعدوانية الاسرائيلية المستمرة على لبنان من القرار 425 الى القرار 1701 وما بينهما لا سيما تفاهم نيسان/ابريل عام 1996 لم تتحدث عن اي قيد او شرط، بينما اسرائيل قرنت دائما اي تنفيذ لاي قرار دولي بقيود وشروط لم تستطع ان تمليها على لبنان واضطرت صاغرة الى الانصياع نتيجة توازن الردع لا بل الرعب.
ثانيا: لاول مرة في التاريخ الحديث يكون مطلوبا من بلد ما سياسيا وعسكريا وامنيا، حماية دولة عدوة معتدية في ترسيم حدود بحرية مخالف لابسط قواعد القانون الدولي.
ثالثا: ايضا لاول مرة في التاريخ الحديث يطلب العدو ضمانات من الذي احتلت ارضه ومياهه، بينما يحتفظ المحتل نفسه بحق التعدي الدائم عسكريا على ارض الاخر وبحره وسمائه.
لهذا كله ولاسباب اخرى عديدة، اقلها ايضا وجوب عدم اهمال لبنان ملاحقة اسرائيل على جرائمها البشرية والاقتصادية والبيئية وغيرها امام الجهات الدولية نتيجة اجتياحاتها المتكررة وعدوانها الاجرامي المتواصل، يجب على لبنان ان يعلن بشكل صريح لا يحتمل التأويل، ان الطرح الاميركي (خط هوكشتاين) – الاسرائيلي الذي يجري الترويج له بشراكة من بعض اللبنانيين هو فخ ومناورة، وان الكلام عن “الترسيم الاستثماري” تحت عنوان الشراكة الاستثمارية هو كلام حق يراد به باطل، اذ ان لبنان المتمسك بانسحاب العدو من ارضه في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء الشمالي من قرية الغجر ومن النقاط المتحفّظ عليها على طول حدوده البرية، ليس من واجبه قبول الشروط او تقديم الضمانات او الاجابة عن اسئلة تعبّر عن هواجس اسرائيل المغلّفة بالهواجس الاميركية لما بعد الترسيم البحري ان حصل.
بداية التنازل تكون بالميليمترات ومن ثم بالكيلومترات، وعلى لبنان الانتباه الى ان اي خطيئة في الترسيم البحري ستخسّرنا الكثير في الحدود البرية، ومن يزعم ان هناك فصلا بين البحري والبري لا يفقه في القانون الدولي شيئا
لقد اعتبر لبنان دائما، ان كل الضمانات والاسئلة والهواجس وغيرها، ولدى جميع الاطراف المعنية، انما تجد الاجوبة الطبيعية والنهائية عليها في اطار عملية سلام عادلة وشاملة تجمع لبنان وسوريا وباقي المسارات العربية تحت شعار الارض مقابل السلام، وليس في اطار اجزاء من مناورة سلام هنا واخرى هناك تودي بنا للوقوع في الفخ الاسرائيلي كما يحصل اليوم مع عدد من الدول العربية، التي لن تتأخر لتكتشف ان التفرد في اتفاقيات مع اسرائيل بمعزل عن القرار العربي الموحد سيفتح الباب امام عدم الاستقرار الداخلي في هذه الدول، وعدم الاستقرار هذا سيكون من مصلحة اسرائيل، ناهيك عن ان كل الذي يحصل من تطبيع هو على حساب الحقوق العربية وعلى حساب مصلحة الشعب الفلسطيني وعودته الى دياره واقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.
لذلك فان جوهر الأمر بشأن الترسيم البحري، لا يكمن ابدا في السؤال عن قدرة لبنان بمؤسساته السياسية والعسكرية والامنية على حماية الترسيم المطروح، بل يكمن في انه ليس من حق اسرائيل كما ليس من واجبنا نحن، ان نؤمّن الراحة وكل الضمانات وكل الاجوبة وان نأخذ عنها كل الاعباء الاخرى، في مقابل انها لوّحت بعودتها الى المفاوضات غير المباشرة لترسيم الحدود البحرية الجنوبية، التي اوقفتها نتيجة عدم تمكنها من مقارعة الحجج اللبنانية للوفد العسكري اللبناني المفاوض بالحجج المماثلة، لان كل الاجوبة على الاسئلة والهواجس عند الجميع لا تكون في مفاوضات ترسيم حدود بحرية انما في مفاوضات حول سلام عادل وشامل، والتخلي عن سياسة الاستفراد هنا وهناك.
بداية التنازل تكون بالميليمترات ومن ثم تصير بالكيلومترات، وعلى لبنان الانتباه الى ان اي خطيئة في الترسيم البحري ستخسّرنا الكثير في الحدود البرية، ومن يزعم ان هناك فصلا بين البحري والبري لا يفقه في القانون الدولي شيئا، وسياسة جر لبنان مغشيا عليه اقتصاديا وماليا ونقديا للتسليم بالامر الواقع في امور استراتيجية لها علاقة بمستقبل الصراع العربي الاسرائيلي سيكون لها اثمانها الباهظة على لبنان وفوق ما يتصوره البعض.
في التاريخ عِبر، من القرار 425 الذي نفذ بقوة المقاومة الى الترسيم البحري الذي نتمنى ان لا يتحول الى نكبة عربية جديدة بعنوان لبناني.