السرديتان “الإبراهيمية” و”الممانعة”: خاسر/خاسر

ثمة رؤيتان تتجاذبان أنظمة وشعوب المنطقة منذ ما يقارب الأربعة عقود ونيف، الأولى، تتمثل بـ"محور المقاومة" بقيادة إيران بُعيد انتصار ثورتها الإسلامية عام 1979، والتي تعتبر خيار المواجهة مع إسرائيل هو الطريق الناجع لانتصار القضية الفلسطينية. والثانية، تقوم على فكرة الواقعية السياسية وقراءة موازين القوى في المنطقة والعالم، وبالتالي تجنح نحو السلام، وتتمثل في ما تسمى دول "الاعتدال العربي"؛ الدول التي تبنت ما تسمى "الرؤية الإبراهيمية" وخاضت منذ سنوات غمار التطبيع المجاني مع إسرائيل.

مع التطورات التي عصفت بالمنطقة بُعيد ما عرف بـ”الربيع العربي” في نهاية العام 2010، وما رافقه من اضطرابات وحروب وسقوط أنظمة، تحوّلت الرؤيتان المشار إليهما أعلاه إلى سرديتين متقابلتين، يسعى أنصار كل منهما إلى إثبات صحة سرديته وفشل السردية الأخرى.

استطاعت سردية المقاومة أن تبني منطقها على أساس أمرين رئيسيين؛ الأول، انتصارات المحور (الانتفاضتان في فلسطين، المواجهات المتتالية في غزة والضفة الغربية، تحرير لبنان عام 2000، الانتصار في حرب تموز 2006 إلخ..) من جهة، وفرض توازن ردع غير مسبوق منذ العام 1948 مع العدو الإسرائيلي، من جهة ثانية.

وفي المقابل، أخفقت دول “الاعتدال العربي” وأنصار السلام في تحقيق إنجازات تحتسب في رصيدهم السياسي ولا سيما عندما تبنّت “حل الدولتين” وانخرطت في مشاريع تطبيع اقتصادي كان آخرها مشروع الممر الهندي، بينما كان الجانب الإسرائيلي، على العكس تماماً، يجعل هؤلاء المُطبعين يحصدون نتائج صفرية مقابل التنازلات التي يُقدمونها، نتيجة تعنته وإصراره على عدم تقديم الحد الأدنى من التنازلات، لا سيما لجهة رفضه المطلق لـ”حل الدولتين”.

شعرت حركات المقاومة بنشوة القوة والاقتدار، وراحت إيران ترسم خرائط جديدة للإقليم، أو بمعنى آخر، تسعى إلى فرض مشروع إقليمي مناوئ لمشاريع الولايات المتحدة والغرب وكل المنخرطين العرب في مشروع التطبيع. لم تقرأ إيران ومحورها قدرات العدو وما يُحضِّر لها من أفخاخ استراتيجية وتكتيكية. مسارٌ دفع حركة “حماس” أو ربما جناحها العسكري (كتائب القسام)، ودون تنسيق مع كل قوى المحور، إلى القيام بعملية “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، لتقلب الأمور رأساً على عقب، وتكون النتيجة وبالاً على محور المقاومة من رأسه إلى أخمص قدميه.

عليه؛ وبعد الضربات القاسية التي تلقتها إيران في حزيران/يونيو الماضي، سواء على مستوى منظومتها القيادية أو بنيتها الدفاعية أو الصاروخية ولا سيما منشآتها النووية، على يد إسرائيل بالتعاون مع الولايات المتحدة التي أتت بمقاتلاتها العملاقة (B-52) من وراء البحار، لضرب المفاعلات النووية الإيرانية في طهران وأصفهان. وقبلها، ما تلقاه “حزب الله” في لبنان، باغتيال أبرز قادته الجهاديين فضلاً عن الأمين العام للحزب، الشهيد السيد حسن نصرالله، الذي وصفه عدوه الألد بنيامين نتنياهو، بأنه “محور المحور” وتدمير العديد من منشآته العسكرية، لتنتهي الأمور مع محور المقاومة بسقوط سوريا، الشريان الحيوي لحياة هذا المحور.

نتيجة هذه التطورات الدراماتيكية، وصلت أحجية السردية الإبراهيمية إلى ذروتها، والتي ركّزت على النتائج المؤلمة والقاتلة لقوى ودول المحور ورخاء وازدهار دول الإبراهيمية. حتى وصل صدى دعاية الإبراهيمية إلى أوساط بيئة ومناصري المقاومة في المنطقة، ولا سيما في لبنان والعراق. وتمكنت من التأثير على وعيهم السياسي، وبات جزء وازن من هذا الجمهور يرفض العودة إلى لغة الحروب طمعاً بـ”جنة السلام”.

لكن، كما 7 أكتوبر 2023 قلب الطاولة على قوى المحور ودوله، أتت الصواريخ الإسرائيلية على قطر في التاسع من الشهر الجاري لتقلب الآية لدى أنصار السردية الإبراهيمية، الذين لم تنفعهم كل التنازلات والمنح والاستثمارات التريليونية التي قدّموها للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، خلال جولته الأخيرة على دول الخليج، وذلك سعياً إلى حماية دولهم من “زعران الحي” في الإقليم.

دفعت الأحداث الأخيرة الدول العربية إلى إعادة حساباتها الأمنية والسياسية، بعد أن اكتشفت أن الحماية الأميركية لم تُفعّل ضد إيران حين استهدف الحوثيون “أرامكو” عام 2019، ولا حين تساقطت 10 صواريخ إسرائيلية حديثة الصنع على العاصمة القطرية من دون أن تعير أي اعتبار لمكانة قطر في المنطقة وعلاقتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة ووجود قاعدة العديد الإستراتيجية على أراضيها.

كل ما عُمل عليه لناحية نقل العداء العربي من إسرائيل إلى إيران أصابت ضربة الدوحة منه مقتلاً. وبالتالي، كما فشلت سردية المحور في إقامة زنار من النار على الكيان بحسب خطة قائد “لواء القدس” في “الحرس الثوري”، الجنرال قاسم سليماني، تمهيداً لما تسمى “الحرب الكبرى”. فشلت السردية الإبراهيمية في جلب السلام للمنطقة.

بمعنى آخر، انتهت المواجهة بين السرديتين بمعادلة خاسر/خاسر، من حيث النتائج. بناء على ما تقدم، يمكن استنتاج الآتي: ضرورة أن يُعيد أصحاب السرديتين النظر في الاستراتيجيات التي وضعوها، وإن لم يلتقوا على كلمة سواء، لكن من الضرورة بمكان أن يفتشوا عن صيغ ووسائل جديدة لمواجهة التغول الإسرائيلي المنفلت من كل عقال.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  إرادةُ أن تكون نبيلاً.. بالعقل والعمل
مهدي عقيل

أستاذ جامعي، كاتب لبناني

Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  كل الأيام للمرأة لو تُدرك نفسها.. أولاً