كان الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» يدرك ــ بخبرة الحكم الطويلة ــ الكلفة السياسية الباهظة للتوريث، وما قد يلحق بنجله الأصغر “”جمال” من مخاطر، لكنه ترك كل شىء يمضى، كأنه قدر مقدر.
ذات مرة قال: «لن أضع ابنى فى الجحيم بيدى»، لكنه لم يبعده عمليا عن مرمى الجحيم ومخاطره.
إحدى الحجج، التى ترددت تفسيرا لـ«التوريث»، أنه يضمن سلامة الأسرة بعد غياب الأب من ملاحقات قد تتعدد صورها.
كان ذلك الاعتقاد بالذات العقدة الكبرى فى قصة التوريث، وقد دفع ثمنه باهظا.
كان من شبه المؤكد أن «مبارك» لن ينقل السلطة فى حياته لنجله، ما دامت صحته العامة تمكنه من أداء أدواره، فهو باق فى منصبه حتى «آخر نفس وآخر نبض» بنص تعبيره، غير أن الضغوط العائلية تصاعدت عليه لنقل السلطة فى حياته، لأنه إذا لم يحدث ذلك فلن تصل السلطة إلى نجله أبدا.
بالوقت نفسه كان نجله الأصغر يتحدث من حين لآخر عن نظام سياسى جديد، بينما هو موجود وفاعل بحقائق النظام الذى يترأسه والده، وهو نظام فردى، ولو لم يكن ابنا للرئيس لما كان له أية أدوار سياسية يعتد بها.
بقوة الأمر الواقع أخذ «جمال مبارك» يمارس فعليا صلاحيات رئيس الجمهورية فى رسم السياسات العامة، يقرأ التقارير السيادية، يتابع أعمال الجهاز التنفيذى، ويتخذ قرارات استراتيجية على درجة عالية من الأهمية والخطورة.
لخص «مشروع توريث الجمهورية» من «الأب» إلى «نجله الأصغر» أزمات النظام كلها ووضعه مباشرة أمام النهايات المحتمة.
كان ذلك المشروع تعبيرا عن سطوة رجال الأعمال المتنفذين فى صلب القرارين الاقتصادى والسياسى بزواج السلطة والثروة.
فى لقاء ضم عددا من السفراء الغربيين رصدوا انتقال الطبقة الجديدة للسكنى فى منتجعات تحيط بالقاهرة الكبرى، ومدى انعزال طبقة الأثرياء الجدد، التى تفتقد أغلبها «شرعية الثروة»، وأنها قد أصبحت منفصلة بثقافتها ومدارسها وجامعاتها وارتباطاتها الدولية عن المجتمع الطبيعى الذى تعيش قطاعات غالبة فيه تحت خط الفقر وتسيطر عليه ثقافة العشوائيات.
مال السفراء الغربيون إلى سيناريو يرجح موجات فوضى فى العاصمة المصرية يتدخل الأمن لسحقها بكل عنف وشراسة، مع بقاء الأثرياء الجدد فى مأمن بعيد عن حرائق الغضب.
وفق السيناريو الغربى كان الأمن والتوسع فى دوره وحجمه من مقتضيات صيانة مصالح وثروات الطبقة الجديدة التى تمثل الظهير الاجتماعى لنظام الحكم.
شىء من ذلك التوقع، الذى نشرته بحروفه فى حينه، حدث مع تعديل لم يخطر ببال أحد وهو سيناريو الثورة الشعبية.
فى شريط تلفزيونى مسجل قال “جمال مبارك” إن عائلته جرت تبرئتها بحكم قضائى أوروبى. بمتقضى ذلك الحكم تم الإفراج عن أموالها المجمدة فى بنوك أوروبية. لم تكن هناك كفاية فى الأدلة على خلفية إهمال جسيم فى تقديمها للمحكمة الأوروبية. هذه مسألة تستحق التحقيق فى مسئوليتها. ثم: من أين لك هذا؟.. لماذا أودعت الأموال فى البنوك الأوروبية لا المصرية؟
أخطر ما كان يحدث فى مصر: الزواج السياسى بين سيناريو «التوريث» و«أباطرة الفساد».
كان الفساد فى مصر قد تجاوز انحرافا هنا بالسلطة ونفوذها، أو تجاوزا هناك فى مقتضيات قواعد النزاهة والكفاءة والشفافية، أو رشى تدفع بالملايين، أو وقائع نهب صريح للمال العام، إلى «الفساد المنهجى»، أو «الفساد المقنن» بلوائح ونظم وبالخاتم الرسمى.
أخذ الفساد المقنن ينحر البلد وثقته فى نفسه وقدرته على الإمساك بمقاديره، كما أصاب مناعة البلد وقدرته على التغيير، كأنه أصيب بضربة قاسية على عموده الفقرى.
كان ذلك صلب الأزمة المصرية المستحكمة، التى أفضت تداعياتها إلى إطاحة النظام كله وإزاحة سيناريو التوريث من فوق المشهد السياسى.
هذا ما يتوجب مراجعته الآن حتى ندرك الحقيقة كما جرت فعلا، لا كما حاول «الوريث القديم» أن يصورها.
فى شريط تلفزيونى مسجل قال “جمال مبارك” إن عائلته جرت تبرئتها بحكم قضائى أوروبى.
بمتقضى ذلك الحكم تم الإفراج عن أموالها المجمدة فى بنوك أوروبية.
لم تكن هناك براءة بالمعنيين السياسى والأخلاقى لا للأب ولا لعائلته.
ما حدث بالضبط أنه لم تكن هناك كفاية فى الأدلة على خلفية إهمال جسيم فى تقديمها للمحكمة الأوروبية.
هذه مسألة تستحق التحقيق فى مسئوليتها.
ثم: من أين لك هذا؟.. لماذا أودعت الأموال فى البنوك الأوروبية لا المصرية؟
الأخطر من ذلك كله توحش الفساد فى بنية الدولة على نحو غير مسبوق.
تماهى نظام «مبارك» مع مصر، كأنه يملكها ويقدر على توريثها، بل أخذ يكتبها على اسمه!
بحسب إحصاء أجرته صحيفة «دير شبيجل» الألمانية قرب نهاية عصر «مبارك» فقد كان هناك (2600) مشروع و(400) مدرسة تحمل اسمه، وهى أرقام تكشف عن نزعة ملوكية مستحكمة.
كان عام (2005) نقطة تحول جوهرية فى أزمة نظام الحكم.
أدار الابن الانتخابات الرئاسية التى خاضها والده، وفرض هيمنته على المشهد السياسى.
بدا الأب شبحا من الماضى أرادت مسحة الدعاية أن تضفى عليه حيوية الشباب.
كان كل شىء يوحى بأن نقل السلطة من الأب إلى الابن مسألة وقت.
فى المؤتمر السنوى الثالث للحزب الوطنى الذى التأم بنفس العام أخذ نجل الرئيس وأمين أمانة السياسات، وموقعه لا يخوله حق الحديث باسم الحزب وتوجهاته فى مؤتمر صحفى عالمى، يتصرف كرئيس فعلى للبلاد، أو كرئيس مواز، منتشيا بإنجازاته فى الانتخابات الرئاسية(!) التى بنى خلالها جهازا انتخابيا حزبيا اعتقد أنه قوى وقادر على حسم الانتخابات التشريعية التالية.
لم ينف «جمال مبارك» ــ للمرة الأولى ــ فى تصريحاته الصحفية احتمال ترشحه للمقعد الرئاسى فى انتخابات عام (2011).
قال إن «السؤال افتراضى، ولا يمكن الإجابة عنه فى الوقت الراهن، لأن أحدا لا يعرف ما سيحدث بعد ست سنوات».
لم يكن أحد يعرف فعلا!
خلافا لتصريحات سابقة لم يستبعد خلافة والده.
فى نفس المؤتمر الصحفى قال إنه يرفض التوريث مثل المعارضة.
أراد أن يقول بالالتفاف إنه سوف يترشح للانتخابات ويحتكم لصناديق الاقتراع، وأن الرئيس لن يعينه فى المنصب.
كان ذلك اقترابا غير مسبوق من سيناريو «التوريث».
حاولت فكرة التوريث أن تنسب نفسها لمشروع إصلاح سياسى طال انتظاره، غير أنها تصادمت مع الحقائق، فأى إصلاح ممكن فى بنية النظام ينهى بالتداعى سيناريو «التوريث»، حيث يستند الابن فى أدواره المتعاظمة التى يلعبها على علاقة الدم مع الرئيس.
كان لافتا للإنتباه فى المؤتمر الرابع الصورة التى ظهر عليها «جمال مبارك» كرئيس فعلى يطرح التصورات والتوجهات الرئيسية، قبل أن يبدو الرئيس نفسه فى خطابه الختامى متبنيا كلمات وتوجهات الابن فى رفض الشرق الاوسط الجديد وتبنى الاستخدام السلمى للطاقة النووية، دون أن تسندها سياسات تضفى عليها شيئا من الجدية والصدقية.
ظهر لكثيرين أن المؤتمر الرابع للحزب الوطنى انطلاقة جديدة لسيناريو «التوريث»، فهو مؤتمر «الرجل الواحد»، وفكرة المؤتمرات السنوية نشأت ــ أصلا ــ لتسويق صورة نجل الرئيس ودفعه خطوة بعد أخرى إلى مقدمة المسرح السياسى.
كان ذلك انقلابا معلنا على النظام الجمهورى.
أسوأ ما جرى بعد ثورة «يناير» غياب أية مساءلة سياسية.
لا فتحت ملفات ولا روجعت وثائق.
فى غياب المساءلة السياسية اختطفت الثورة وأطل الماضى مجدداً.