لا تكاد أميركا تنام على رقم إقتصادي سلبي حتى تستيقظ في اليوم التالي على رقم أكثر سلبية من اليوم الذي سبق. تضخم قياسي هو الأعلى منذ أربعة عقود. إرتفاع قياسي في أسعار المحروقات لا مثيل له منذ أربعة عقود.
وشملت زيادة الأسعار في شهر أيار/مايو الماضي قطاعات السكن والبنزين وتذاكر السفر والمواد الغذائية والسيارات الجديدة أو تلك المستعملة، وصولاً إلى الخدمات الصحية والملابس. صحيح أن الصعوبات في سلاسل الإمداد والتوريد العالمية ساهمت في ارتفاع الأسعار في كل أنحاء العالم، غير أن هذه الأزمة إزدادت حدة في الولايات المتحدة، إذ أنها اقترنت بنقص في اليد العاملة، في وقت ما يزال الإقتصاد الأميركي يئن تحت وطأة تداعيات جائحة كورونا.
وما المخاوف التي تُنشر بين حين وآخر عن مواجهة عالمية محتملة على خلفية الحرب في أوكرانيا غير وسيلة إلهاء عن المشكلة الأميركية الحقيقية. فواشنطن لا تريد أن يلمس العالم موضع الألم في خاصرتها الاقتصادية، وتحاول التصدي لمشكلتها المتفاقمة ومعالجتها على أنها شأن داخلي محض ولا ينبغي أن تتركه يهزّ عرشها على قمة النظام العالمي. وحتى الآن، لم تحقق جهودها الغاية المنشودة منها، وها هي المخاطر تتزاحم على عتبة إنتخابات نصفية أميركية ستجري بعد حوالي مائة وخمسين يوما، يصعب خلالها أن تتغير المؤشرات الإقتصادية، بل يمكن أن تزداد سلبية، ما يعني أن نتيجة الإنتخابات باتت معروفة سلفاً، أي أن الحزب الديموقراطي على موعد حتمي مع خسارة الأغلبية النسبية في مجلس النواب الأميركي.
وبات واضحاً اليوم أن العدو الأول للهيمنة الأميركية ليس روسيا ولا أي تحالف روسي – صيني محتمل، بل اقتصاد الولايات المتحدة الأميركية المريض.
لننظر ملياً في الوقائع المعروفة. الدين القومي للولايات المتحدة تجاوز في شباط/فبراير الماضي عتبة 30.29 تريليون دولار، مرتفعاً هذا العام وحده بمقدار 2.39 تريليون دولار. سوق الأسهم الذي هو قلب الاقتصاد الأميركي، بات مهدداً ويتوجب إنقاذه بأيّ طريقة كانت. الدورة الاقتصادية الداخلية تعاني من ضغوط تضخمية قياسية لم تعرف مثيلاً لها منذ ما يزيد عن الأربعين عاماً، وقد طرقت أبواب الـ 10%. وحين تتجاوز هذه العتبة ستبدأ مرحلة هروب رأس المال من الأصول الدولارية إلى الذهب وغيره من الأصول الأخرى الملموسة، وهذا يعني المزيد من التضخم. ومع انسحاب المستثمرين من الأصول الدولارية، سيكون من الصعب على وزارة الخزانة الأميركية العثور على مقرضين على استعداد لإقراضهم أموالا بنسبة 3%، بينما يعانون من خسارة 7% من مبلغ القرض (بسبب التضخم الذي تبلغ نسبته 8.6%).
وهذا رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي جاي باول، يحذّر من أن “خفض معدل التضخم فى البلاد إلى المستوى الذى حدده بنك أميركا المركزى بـ 2%، سيسبب بعض الألم”، ويقول إن “معالجة مشكلة الأسعار المرتفعة من دون أن يحدث ذلك ركوداً ربما تعتمد على عوامل خارج إرادته”.
التضخم.. التضخم
صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية لاحظت إن تصريحات باول هذه تأتي وسط حالة من عدم اليقين بشأن التوقعات الاقتصادية، حيث يباشر بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي ما يحتمل أن يكون أسرع تشديد للسياسة النقدية منذ سنوات. وقد رفع معدل الفائدة مؤخراً بمقدار تراوح بين 0.75% و1% من مستويات كانت أقرب إلى الصفر. وتلك واحدة من خطوات البنك التي تتوخى تحويل السياسة إلى بيئة محايدة بحيث لا تؤثر على الاقتصاد. إلا أن هذا لن يكون في المحصلة النهائية غير تعبئة ماء بالسلة. وفي مقابلة له مع موقع “ماركت بلاس”، أكد باول صعوبة التوصل إلى خفض التضخم من دون أن يسبب خسائر فى الوظائف أو ربما حدوث ركود.
ديان سونك: “لدى أميركا اقتصاد قوي. وقد وفر أصحاب العمل أكثر من 400 ألف فرصة عمل على مدار 11 شهرا متتالية، ما أدى إلى انخفاض معدل البطالة.. لكن إشارات الضعف بدأت تظهر، والحقيقة هي أن ارتفاع الأسعار ستكون له عواقب”
في هذا الوقت تحدثت “واشنطن بوست” عن “قلق متزايد فى ظل استمرار ضغوط التضخم”، وقالت “إن الانكماش غير المتوقع للاقتصاد الأميركي بمعدل سنوي بلغت نسبته 1.4% أثار مخاوف من احتمال حدوث ركود في المستقبل فى ظل استمرار ضغوط التضخم وعدم اليقين بشأن الحرب في أوكرانيا”. وعزت الصحيفة أسباب الانكماش الاقتصادي إلى “انخفاض مشتريات تجار التجزئة من المخزون، وتزايد الفجوة بين الصادرات والوارادت الأميركية”. وقال الخبير الاقتصادي كينيث روجوف الذي عمل في صندوق النقد الدولي في السابق، وهو اليوم أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفرد “إن هناك بالتأكيد سُحب فى الأفق”، وإن لديه “مخاوف حقيقية بشأن خطر الركود سواء في الولايات المتحدة أو في أوروبا”.
كذلك قالت وزارة التجارة الأميركية إن العجز التجارى فى البلاد قد اتسع إلى مستوى قياسي، وإن العديد من الشركات اشترت مخزوناً أقل من المعتاد فى أوائل العام 2022، لأن لديها بقايا من البضائع من أواخر العام الماضي عندما قامت بتخزين سلع إضافية للحماية من النقص والتأخيرات في سلاسل التوريد. ومعروف أن هذا الانخفاض فى الشراء يمكن أن يؤدي إلى انخفاض مصطنع في أرقام الناتج المحلى الإجمالى.
ولعل المتفائلة الوحيدة في هذه العتمة كانت الخبيرة الاقتصادية ديان سونك التي لم تصمد على تفاؤلها طويلاً. فقد قالت إن “لدى أميركا اقتصاد قوي. وقد وفر أصحاب العمل أكثر من 400 ألف فرصة عمل على مدار 11 شهرا متتالية، ما أدى إلى انخفاض معدل البطالة”. لكنها أضافت “أن إشارات الضعف بدأت تظهر، والحقيقة هي أن ارتفاع الأسعار ستكون له عواقب”.
هروب إلى الأمام
الديموقراطيون في الكونغرس سارعوا إلى تهدئة شكوك الناخبين بشأن الانتعاش الاقتصادي، قبل أشهر فقط من انتخابات التجديد النصفي الحاسمة، والتى ستحدد لمن ستكون السيطرة على مجلسي الشيوخ والنواب في العامين المتبقيين لبايدن من فترته الرئاسية. ومع ذلك، فقد تجاهل الرئيس بايدن المخاوف من حدوث ركود اقتصادي، وقال إنه غير قلق بهذا الشأن. وهو أرجع القراءة السلبية للناتج الإجمالي المحلي إلى “عوامل فنية”، ودعا الكونغرس إلى صياغة تشريع من شأنه أن يدعم التصنيع فى الولايات المتحدة. إلا أن الجمهوريين الذين لم تمرّ عليهم هذه التطمينات السطحية، استغلوا الفرصة لتكثيف هجماتهم على بايدن وحلفائه السياسيين، فكشفوا إن هؤلاء فشلوا فى توقع المشكلة التى باتت الآن واضحة. وقال زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ السيناتور ميتش ماكونيل إن التضخم الجامح يسحق العائلات الأميركية العاملة تحت إشراف الديموقراطيين، حيث لم يعد الديموقراطيون يشرفون فقط على تعافٍ مخيب للآمال، بل إنهم ألقوا بالانتعاش في الاتجاه المعاكس، وسيعودون إلى الوراء. وعلّقت “واشنطن بوست” على ذلك بأن “إحدى نقاط الضغط الكبرى على الاقتصاد الأميركي تتمثل بالتضخم، مما يجعله التحدي الأكبر لإدارة بايدن والاحتياطي الفيدرالي في آن”.
هذا كلّه يعني أمراً واضحاً خلف ضباب الأحداث الجارية. إن التحدي الحقيقي للولايات المتحدة الأميركية لن يكون روسيا ولا حربها في أوكرانيا، ولا حتى الصين، بل هو.. دولارها الذي تحكم به العالم، وقد باتت تنتظره تجارب مريرة.
هذه هي المشكلة الأميركية اليوم. أما الخوف الأميركي الأعمق (إلى هذه الأزمة الاقتصادية المتصاعدة) فيتأتّى من تطورات الأوضاع في أوكرانيا والتي وصفها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بأنها “بداية للقطع مع النظام العالمي ذي القطب الواحد، ومعركة لولادة نظام عالمي جديد”.