لمناسبة ذكرى معاهدة جنيف، قام وزير خارجيّة دولة إسرائيل أنتوني بلينكن (عفواً، وزير خارجيّة أمريكا، برغم أنه يؤدّي الوظيفتين معاً) بنشر رسالة على منصّة X للإحتفال بها وتأكيد موقف أمريكا منها. جاء نصّ رسالة بلينكن كالآتي:
“نحتفل اليوم بالذكرى السنوية الخامسة والسبعين لاتفاقيات جنيف للعام 1949. وتعيد الولايات المتحدة التأكيد على التزامنا الثابت باحترام القانون الإنساني الدولي وتخفيف المعاناة من جرّاء النزاعات المسلحة. وندعو الآخرين إلى أن يحذوا حذونا”.
لم تُصدّق العضو في الكونغرس الأمريكي رشيدة طليب (عن ولاية ميشيغن، وهي من أصل فلسطيني) ما شاهدت بأم عينيها عندما قرأت رسالة بلينكن هذه، فأجابت بتعليق على المنصّة نفسها قائلة: “هل هذه مزحة؟” (؟Is this a joke).
لا يا أخت رشيدة. بلينكن لم يمزح. لكنّ الأكيد وجود سوء فهم فيما نُشِر. أظنّ أن قصده كتابة “وتعيد الولايات المتحدة التأكيد على التزامنا الثابت باجتزاز القانون الإنساني الدولي وتكثيف المعاناة من جرّاء النزاعات المسلحة“، لكن برنامج “الأوتو-كورّكت” حوّر كلماته، ظنّاً منه أنّ بلينكن قصد “احترام” القانون بدل اجتزازه والقضاء عليه، وأنّه أراد “تخفيف” معاناة المستضعفين بدل زيادتها. فكل من تابع ويتابع ما فعله ويفعله بلينكن منذ أن تربّع على عرش وزارة الخارجيّة الأمريكيّة يعرف جلّ المعرفة أنّ خطابه وممارسته لا مثيل لهما في تاريخ الديبلوماسية الأمريكية..
وإذا سلّمنا جدلاً أنّ ما نُشِر صحيحٌ ولم يتدخّل “الأوتو-كورّكت” لتجميله، نقول لبلينكن (ولأمثاله): متى كانت دولتك المارقة تحترم أو تراعي اتّفاقيّة جنيف؟ ومتى كان ذلك الكيان السرطاني الذي تفتخر به، نموذجاً للديموقراطيّة والحريّة في الشرق الأوسط، يحترم أو يراعي إنسانيّة أهل فلسطين أو يعمل على تخفيف معاناتهم؟
إن كان ما يزال من شعرة تربط أمريكا بأي نوع من أدبيّات حقوق الإنسان ومعاناة الناس فيها وحول العالم، فهي لا تزيد عن بضع عبارات وشعارات تدحضها الممارسة اليومية، وهذا ليس في يومنا الآن فقط، بل يشهد له كل تاريخها الإستعماري في الداخل أو عبر القارّة الأمريكيّة أو حول العالم، فالولايات المتّحدة لا تلتزم إلاّ بالبطش والقتل والدمار والمعاناة.
نعم يا مستر بلينكن؛
أقلّ ما نقول فيك وفي زعماء دولتك أنّ “اللّي استحوا ماتوا”. بل أكثر، ينطبق عليك وعليهم القول اللبناني: “بزقوا على وجه النذل فقال الدني عم بتشتّي”. لا ينفع فيك لا كلام ولا أدب ولا حكمة ولا دين ولا أخلاق ولا إنسانيّة. إجرامك في فلسطين فضح أنك وأمثالك أصبحتم مجبولين على الكره والعهر، ومفتونين بالنازيّة والقهر، وحتماً إلى مزبلة التاريخ كمن أتى من قبلكم وهم كثر.
مستر بلينكن؛
سأنشد لك قصيدة وأنا أعرف أنّك لا تسمع. وسأكتب كلماتها بحبر إلكتروني، وأنا عالم أنّك لا تقرأ. وهذا ليس لعاهة في نظرك أو سمعك، بل في روحك. فلو كُنتَ تسمع، لكنت قد سمعت أنين وصراخ أطفال فلسطين عندما تنزل عليهم القنابل التي ترسلها إلى القتلة في إسرائيل لكي يدكّوا بها منازل وملاجىء ومدارس ومستشفيات ومساجد غزّة وغير غزّة. لو كنت ترى، لرأيت الدمار الذي كنت أنت ودولتك سببه، لأنّ السلاح التي تعطيه لإسرائيل هو سلاح دولتك والمال الذي ترسله لها هو مال دولتك والطاقات التي تُسخّرها للدفاع عنها هي طاقات دولتك.
لكن ربطاً بتاريخك الفني سأنشد لك قصيدة لعلّها تأتي بمعجزة فتنشلك وتنشلنا من الحضيض الذي أوصلتنا إليه “إنسانيّة” دولتك و”احترامها” للقانون الدولي وحقوق البشر. وبقدر ما أنّ المعجزة مستحيلة، فالمستحيل هو رجاء أهل غزّة الوحيد الآن.
القصيدة، يا مستر بلينكن، اسمها “إذا الشمس غرقت“، وهي من تأليف رائد القصيدة الشعبيّة العربية الشاعر أحمد فؤاد نجم (توفي 2013) ومن تلحين وغناء عملاق الأغنية السياسية العربية الملتزمة الشيخ إمام (توفي 1995). وأنا واثق أنّك لم تسمع بهما وبأمثالهما من الشرفاء، وحتماً هما لم يسمعا بك لكنّهما يعرفان جيّداً الكثيرين من أمثالك. ومع أنّك تدّعي حبّ الموسيقى ولعب الغيتار، إلا أن المرجح أنّ هذه الأمور هي مجرد خدع تستخدمها للإغواء، بينما “هوايتك” الحقيقيّة هي ارتكاب الجريمة والمباهاة بهويتك الدينية.
مستر بلينكن؛ تقول القصيدة:
“إذا الشمس غرقت في بحر الغمام
ومدت على الدنــيا مــوجة ظــــلام
ومات البصر في العيـون والبصايــــر
وغاب الطريق في الخطوط والدواير
يا ساير يا دايــر يا ابــو المفهومــــية
ما فيش لك دليـل غير عيون الكلام”.
نعم مستر بلينكن؛ الغمام الأمريكي غرّق الأخلاق والمبادئ والحقوق ونشر الرذيلة والفجور والاستغلال. شعلة الحريّة التي تتبجّح بها هي ظلام العبوديّة، والقانون الدولي الذي تتشدّق به صار ممسحة تحت أقدامكم في المحافل والمنابر الدولية، والحلم الأمريكي الذي تفتخر به أمريكتك هو كابوس على العالم والعالمين.
نعم مستر بلينكن؛
كلُّ شيءٍ جميل فيك مات من زمن بعيد. وما بقي منك، فقط هو اللا إنسان الذي لا يفقه لا كلاماً ولا سلاماً. لكن أطفال غزّة، وإنّ ماتوا، فهم الأبطال وفيهم نعرف معنى الإنسانيّة، ويليق بهم فقط أن يستمروا بالكلام.. أما صمتكم فحبذا لو يدوم إلى الأبد.. لا بل إلى أبد الآبدين.