عن حضور الثقافة الفرنسية في روسيا القيصرية (2/1)

فتحت الحرب الروسية ـ الأوكرانية، أفقا من الجدال قد يطول اجله، حيال العلاقة الملتبسة بين روسيا والغرب، وفي وقت تنتعش في المرحلة الحالية أفكار التيار الداعي للوطنية الروسية ودعوتها الرسالية العالمية التي صاغها مفكرون روس في القرن التاسع عشر ومن أتباعهم الحاليين ألكسندر دوغين، فإن تيار الحداثة والتغريب شكّل الوجه الآخر لعقل روسيا، ومن أبرز رموزه القيصران بطرس الأكبر وكاترين الثانية، وكان له الأثر الكبير في إنتاج الأدب الروسي ما قبل الحقبة السوفياتية، والذي يُعتبر في طليعة الآداب العالمية.

في كتاب “مجمل تاريخ الأدب الروسي” لمارك سلونيم الصادر عن “الهيئة العامة لقصور الثقافة” المصرية، “من المعروف أن بداية الأدب الروسي تتفق مع دخول المسيحية إمارة كييف في القرن العاشر، وقد حدد التأثير البيزنطي لمدة خمسة قرون مجرى الثقافة الروسية، وأخذت الحروف الأبجدية للكنيسة الروسية من اليونانية، وفي القرنين العاشر والحادي عشر سد الأدب المكتوب حاجات الكنيسة، وكانت نسخة العهد الجديد من أول الكتب التي ظهرت في روسيا”.

وبين القرنين الحادي عشر والرابع عشر، على ما يشرح سلونيم، كانت الغالبية الساحقة من المخطوطات ذات مضمون كنسي، ومكتوبة بالسلافية الكنسية وببلاغة اللغة اليونانية، إلا أن ذلك لم يحجب استمرارالتقاليد الوثنية في الأساطير الشعبية، ومع منتصف القرن الخامس عشرغدت موسكو مركزا سياسيا هاما وتولت قيادة الحرب ضد التتار وصدهم عن أبوابها، ومع اعتلاء بطرس الأكبر (1672ـ1725) عرش القيصرية، اتجهت روسيا نحو تبني النموذج الغربي، بعناوينه وتفاصيله، وراحت تستورد المدافع والساعات والشعر المستعار، واستقدمت رقصة “الباليه” من ألمانيا، والقصائد الشعرية من فرنسا، والصور والنحت من إيطاليا.

في “الرواية الروسية في القرن التاسع عشر”، لأستاذة اللغة الروسية في جامعة عين شمس، مكارم الغمري “الأدب الروسي في العصور الوسطى، لم يعرف الرواية كنوع أدبي، ولكنه عرف المدونات التاريخية والدينية، التي تصف حياة القديسين كأعمال أدبية وكوثائق تاريخية وقانونية، علاوة على اشكال مختلفة من الأساطير”، ويخلص الأديب ووزير التربية السورية سامي الدروبي (1921ـ 1976) في “الرواية في الأدب الروسي” إلى القول “تأخر الشعر والمسرح في روسيا قرنين عن الغرب”.

على أن الأدب الروسي، كما تقول الغمري في كتابها الصادر عن سلسلة “عالم المعرفة” الكويتية، أخذ يهتم تدريحيا بمشاعر الإنسان منذ القرن الخامس عشر، وفي القرن السادس عشر برزت الشخصيات الأدبية بحياتها الذاتية المحددة في المكان والزمان، وفي أدب القرن السابع عشر حدث تطور ملموس بالمقارنة بما سبقه، والذي مهد لأول تجارب روائية في ستينيات القرن الثامن عشر، حيث ظهرت قصص بتروف، واحدة منها بطلها بحار ذهب إلى هولندا للإستزادة من اللغات والعلوم الرياضية، والثانية بطلهاعريس روسي شجاع ارتحل إلى فرنسا للتعليم، وترتبط مراحل تطور الأدب الروسي في القرن التاسع عشر ارتباطا وثيقا بالسير العام للتطور التاريخي والقومي لروسيا، فقد كان للأحداث التاريخية والقومية الأوروبية العالمية تأثيرها الكبير على تطور الأدب الروسي ومذاهبه، وقد كان لأحداث الثورة الفرنسية أثرها البالغ على الوعي والواقع الإجتماعي في روسيا وايضا على التيار الأدبي.

أندريه ماكين: ثمة صلة أدبية وثيقة وقوية جدا بين روسيا وفرنسا، وكتب تولستوي الصفحات الأولى من روايته الشهيرة الحرب والسلم بالفرنسية قبل أن يتراجع عن قراره، وهناك أيضا دوستويفسكي الذي استطاع أن يترجم إلى الروسية من الفرنسية رواية أوجينيه غراندي للأديب الفرنسي بلزاك وهو ما حدّد موهبته الأدبية الحقيقية وبلورها

وعن تأثيرات الثورة الفرنسية على الأدب الروسي، تخصص استاذة الأدب الروسي اللبنانية ـ العراقية الأديبة حياة شرارة (1935 ـ 1997) كتابا خاصا لأكبر أساتذة النقد الروس فيسارون بيلينسكي (1811ـ 1848) يحمل إسمه وصدر عن “المؤسسة العربية للدراسات والنشر” في بيروت عام 1979، وفيه أن بيلينسكي الذي وقف موقفا شديد السلبية من الثورة الفرنسية الأولى (1830) إذا به “يتطلع الى الثورة الفرنسية عام 1789 ويعكف على دراسة روادها وممثليها والتيارات المختلفة التي تمخضت عنها، وأعجبه الجناح اليساري الداعي إلى الحلول البتارة في معالجة القضايا الإجتماعية، وأصبح فولتير وروبسبيير أبطالا في نظره”.

وعلى ما سيظهر لاحقا، فتأثيرات الثورة الفرنسية لم تقتصر على الأدب الروسي وأجناسه، وإنما تجاوزته إلى فضاءات السياسة وطموحات التغيير الإجتماعي، ففي مقالة بعنوان “المستقبلية” للقائد الشيوعي الأكثر شهرة إلى جانب لينين، ليون تروتسكي وترجمها العراقي عبد الإله النعيمي (“ايلاف” 30ـ 6 ـ 2012) جاء فيها “نحن الماركسيين نعيش في التقاليد ولم نتوقف عن كوننا ثوريين بسببها، وقد استجلينا تقاليد كومونة باريس وعشناها حتى قبل ثورتنا نحن، ثم أُضيفت اليها تقاليد ثورة 1905، التي منها نهلنا وبها أعددنا الثورة الثانية، وإذ عدنا أبعد الى الوراء ربطنا الكومونة بأيام حزيران/يونيو 1848 وبالثورة الفرنسية الكبرى”.

يقول سامي الدروبي “كانت اللغة الألمانية لغة الحديث في بلاط بطرس الأكبر(1672ـ 1725)، ثم حلت محلها الفرنسية في بلاط من أعقبوه، وفي عهد اليزابيت (1709 ـ1762) تم النصر لتأثير الثقافة الفرنسية، وفي عهد كاترين الثانية (1729 ـ 1796) الألمانية الأصل ظلت روسيا واقفة عند المدرسة الكلاسيكية الفرنسية، وكان الروس كأساتذتهم الفرنسيين يُعجبون خصوصا ـ بالإنكليزيين ـ والتر سكوت وجورج بيرون، ويرون في الرومنطيقية وجهها العاطفي الجامح وجانبها الوصفي الملون، ورائد هذا الإتجاه جوكوفسكي”.

هذا الحضور القوي للغة والثقافة الفرنسيتين في روسيا القيصرية، تمثل في أعلى مراحله خلال عهد كاترين الثانية، وتعدد صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية (19 ـ 9 ـ 2017) مآثرها مع الأدباء والفلاسفة الفرنسيين “لقد تميزت كاترينا عن كل نظرائها من الحكام بأنها فتحت اتصالات مباشرة مع أدباء ومفكري عصرها، خصوصاً مع الكاتب الفرنسي فولتير، فقد ظلت تراسله لمدة خمس عشرة سنة حتى مماته في 1778، كذلك فقد نشأت علاقة قوية بينها وبين المفكر الفرنسي ديني ديدرو (1713 – 1784) الذي كان يعد من أهم الإصلاحيين في عصره، فدعته لزيارة روسيا، ويقال إنه كان يجالسها كل يوم خلال فترة وجوده، ويتناقشان في فكر “حركة الفيلوسوف” التي كان ينتمي إليها في فرنسا، ودوره في إعداد موسوعة الفن والعلم، ومن ناحية أخرى، فإن تأثير المفكر والقانوني الفرنسي الكبير مونتيسكيو غلب عليها بشدة، وهو ما انعكس على قرارها دعوة مجلس عموم واسع العضوية لإصلاح روسيا، وأصدرت الإطار العام لعمله، مستوحية ذلك من كتاب “روح القوانين” لمونتيسكيو”.

إقرأ على موقع 180  "الإرهابية" السعودية لجين الهذلول.. حرة ولكن!

عموما، أدت عمليات التغريب في روسيا إلى انتشار اللغة الفرنسية بين غالبية المتعلمين ولدى طبقة النبلاء، إذ باتوا لا يتحدثون إلا بالفرنسية في حياتهم اليومية، وتنقل لوبوف دستويفسكايا إبنة كبير الروائيين الروس فيودور دوستويفسكي (1821ـ 1881) في كتابها “أبي” صورا حية عن الواقع الروسي المعاش حينذاك فتقول عن جدها:

“ظل جدي منتميا معنويا إلى النبلاء الليتوانيين، في البداية أرسل أكبر أطفاله إلى مدرسة فرنسية، ولما كانت هذه المدرسة لا تعلم اللاتينية، قام جدي بنفسه بإعطائه دروسا فيها، كان الصغار يؤدون واجباتهم المنزلية باللغة الفرنسية، كان جدي يشعر بالضعف تجاه اللغة الفرنسية، ويتبادل الحديث مع زوجته بالفرنسية وكانت جدتي تجبر البنين والبنات على كتابة التهاني بأعياد ميلاد أبيهم بالفرنسية”.

وعن أبيها تقول:

“لقد ورث دوستويفسكي عن ابيه ميله الشديد إلى اللغة الفرنسية، كان يقرأ كثيرا باللغة الفرنسية، وكتب ابي روايته الأولى على نحو فائق الروعة، إنها من ثمار غوغول الذي كان متأثرا بالأدب الفرنسي في هذا الزمان، هذا التيار الأدبي كان ممثلا في ـ رواية ـ  البؤساء وفي شخصية جان فالجان، طبعا، كُتبت البؤساء بعد ذلك، لكن نمط فالجان كان بدأ بالظهور في الأدب الأوروبي، وشجعت الثورة الفرنسية على رفع الفقراء والفلاحين والموظفين الصغار إلى منزلة الأبطال، هذا الإتجاه الجديد في الأدب حاز على إعجاب الروس، كان الكتاب الروس في تلك الفترة من علية القوم، لكنهم لم يعودوا يرغبون بوصف المجتمع الراقي وراحوا يبحثون عن أبطالهم في الأحياء الفقيرة”.

والحالة نفسها، يصورها دوستويفسكي في سياق نقده لإنتشار اللغة الفرنسية في روسيا، قبل تحوله الفكري بعد الأربعين من عمره كما تقول ابنته، فمع مطلع عقده الخمسيني راح ينتقد شيوع الفرنسية، إلا أن النظر في كتابه “يوميات كاتب” يُظهر استخدامه الكثيف للمفردات والمصطلحات الفرنسية، ويرسم دوستويفسكي في هذا الكتاب مجموعة مشاهد للروس الآتين إلى المانيا للإستشفاء، فهم “يتميزون بلكنتهم الروسية ـ الفرنسية الخاصة بروسيا، والتي بدأت تدهش حتى الأجانب، أعرف انهم سيقولون إن انتقاد الروس بسبب لغتهم الفرنسية قد فات آوانه من زمن بعيد، وإن الموضوع والدرس الوعظي قد أصبحا مهترئين باليين، ولكن ما أعجبُ منه، ليس كون الروس يتحادثون بغير الروسية، بل سيكون من المستغرب إذا تحادثوا بالروسية، بل اعجبُ من تصورهم انهم يتكلمون الفرنسية جيدا”.

أدت عمليات التغريب في روسيا إلى انتشار اللغة الفرنسية بين غالبية المتعلمين ولدى طبقة النبلاء، إذ باتوا لا يتحدثون إلا بالفرنسية في حياتهم اليومية

ويفصح دوستويفسكي في مشهد آخر، عن آلامه البليغة لتراجع اللغة الروسية، وتأخذه لغة الألم إلى التأوه القائل “الروس، أو على الأقل روس الطبقات العليا، لم يعودوا في أغلبيتهم، منذ زمن بعيد، يولدون مع لغة حية، بل هم يكتسبون في ما بعد لغة اصطناعية، ولغة روسية لا يتعرفون إليها تقريبا إلا في المدارس من خلال دروس القواعد النحوية”.

وفي واقع الحال أيضا، يقدم ليو تولستوي (1828 ـ1910) في روايته فائقة الشهرة “الحرب والسلم”، تفاصيل دقيقة عن انتشار اللغة الفرنسية في أواسط النخب الروسية، ففي الفصل الأول “صباح يوم من أيام حزيران/يونيو 1805 أرسلت آنا شيرر وصيفة شرف الإمبراطورة، خادما يرتدي بزة حمراء رسمية يحمل بطاقات إلى كل أصدقائها، جاء فيها: إذا كانت الرغبة في قضاء سهرة عند مريضة مسكينة، يسعدني أن استقبلك بين الساعتين السابعة والعاشرة، كان الأمير بازيل أول من حضر، وكان يعبر عن خواطره وأفكاره بتلك اللغة الفرنسية، التي درج كبار رجال البلاط الروسي على التحدث بها”.

هذه الرواية تتناول أحداثها مرحلة غزو نابوليون بونابرت لروسيا عام 1812، وفي جزئها الأول على ما تقرأ مكارم الغمري “مظاهر الحياة المدنية قبل الحرب، ورغم أنها لم تكن قد بدأت بعد، إلا أن شعور الأفراد بالحرب القريبة منهم والزاحفة إليهم، كان يفتح المجال للحديث عنها وعن نابليون، وكيف استطاع احد الملازمين أن يصبح أمبراطورا، لقد بات واضحا أن نابليون أصبح كالأسطورة، ونفذت روح نابليون وبعمق إلى المجتمع الإرستقراطي في روسيا، وبدأ الكثير من الشباب النبيل يتخذونه نموذجا للعبقرية والمجد”، علاوة على ذلك يصور تولستوي “بإسهاب أسلوب حياة المجتمع الإرستقراطي الروسي، والإرستقراطية الروسية تعيش غريبة عن بيئتها وشعبها وحتى عن لغتها الأم، فنادرا ما نسمع في أحاديثهم اللغة الروسية، فهم يفضلون الحديث بالفرنسية أو بالمزج بين اللغتين”.

وإذا كان دوستويفسكي وتولستوي قد ناهضا شيوع اللغة الفرنسية في بلادهما مقابل انحسار قرينتها الروسية، فالروائي الفرنسي من اصل روسي اندريه ماكين (مواليد 1957) الداعي إلى تفهم هواجس الرئيس فلاديمير بوتين وإلى ضرورة معرفة الأسباب الحقيقية للحرب الروسية ـ الأوكرانية القائمة، مثلما قال لصحيفة “لوفيغارو” في آذار/مارس الماضي، يؤكد وفق تقرير نشرته صحيفة (“الغد” ـ 23 ـ 12 ـ 2012) الأردنية “أن ثمة صلة أدبية وثيقة وقوية جدا بين روسيا وفرنسا، وكتب تولستوي الصفحات الأولى من روايته الشهيرة الحرب والسلم بالفرنسية قبل أن يتراجع عن قراره، وهناك أيضا دوستويفسكي الذي استطاع أن يترجم إلى الروسية من الفرنسية رواية أوجينيه غراندي للأديب الفرنسي بلزاك وهو ما حدّد موهبته الأدبية الحقيقية وبلورها”.

كيف تجلت الثقاقة الفرنسية في الأدب الروسي وفي اعمال الأدباء الروس؟

(نص آخر في جزء ثان وأخير).

Print Friendly, PDF & Email
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  خسائر لبنان 169مليار دولار وليس 69 ملياراً فقط!