ريمون إده العنيد.. وألبير مخيبر الأكثر عناداً (2)

بين «العميد» العنيد و«الحكيم» الأكثر عنادًا، ما يتخطّى السياسة في مفهومها «التكتي» وقد فرّقت بين الرجلَين في محطّات انتخابية. وفرّقت ما بينهما التحالفات، كما الأطباع الحادة، والإثنان ديكان متأهّبان للعراك في أي لحظة.

ولكن ما جمع بين عميد الكتلة الوطنية، وشيخ المعارضة وفتاها الأول موقفٌ مشترك من الحياة، فكلاهما نظيف الكف والأخلاق وكلاهما معارض دائم، وكثيرًا ما كان «الحكيم» يتّهم صديق عمره بأنه «يسرق أفكاره ويقولها بصوت مرتفع من دون أن يشير إلى المصدر» كما قال ألبير مخيبر، في وصفٍ لا يخلو من الطرافة لأحد الصحافيين، أما إقفال الخطّ بين الأشرفية وفندق الـ«كوين إليزابيت» فتبادله الصديقان في فورات غضب، ويشهد المحامي كلود عازوري على جولات «تلفونية» حامية، «ففي خلال جولات المناقشات حول استحقاق العام 1992 وبلورة قرار المقاطعة كان يحضر ألبير مخيبر إلى مكتبي ويهاتف العميد «ويتخانقان» وينتهي الحوار بطبش أحدهما السمّاعة في وجه الآخر وذات يوم توجّه مخيبر لإدّه بالقول: «تاركينّـي يا موارنة يا (اخوات…) بهالسهلة عم حارب وحدي».

وفي العادة كان يعقب إقفال الخطّ «زعلٌ» و«حردٌ» يمتدّ لأسابيع وأحيانًا يطول لأشهر، وعلى الرغم من ذلك بقي «ألبير» بالنسبة إلى «ريمون» خطًّا أحمر والعكس صحيح أيضًا. «لك كلّ الحق أن تتحدّث بكلّ أمر بحضرة العميد لكن ما تجيب سيرة مخيبر، أما العميد فله أن يقول ما شاء، والدكتور ألبير على الرغم من انفعاله كان يحترم العميد.»([1]) ويصرّ عليه في كلّ اتّصال «ماذا تفعل في باريس، تعال الى هنا كي نشكّل جبهة معارضة»([2]).

ما بين «العميد» و«الحكيم» ما ليس بين أخوَين فيوم عاد ريمون إدّه إلى بيروت في 12 أيار/مايو 2000 ملفوفًا بعلم، تحامل ألبير مخيبر على أعوامه وتوجّه إلى المطار. اِستقبل العائد. سار خلف جثمان «توأم روحه» في كلّ مراحل الدفن والتشييع حتى مواراته الثرى. بكاه بحرقة. وناداه من أعماق حزنه «قم يا ريمون. إنهض. الشعب بحاجة إليك»

في طقوسهما اليومية كان «العميد» و«الحكيم»، يستقبلان المواطنين بدءًا من الساعة السادسة صباحًا، في غرفة النوم، فهي المكان الذي تُبحث فيه شؤون المنطقة والبرنامج السياسي اليومي، وتتحوّل غرفة النوم أيضًا إلى صالة استقبال، الواقفون فيها أكثر من الجالسين، يدخل الأصدقاء مع الدكتور إلى الحمّام ليتحدّثوا إليه بصوت منخفض عن مشاكل الناخبين بينما هو يحلق ذقنه أو يغسل وجهه، وهكذا تتمّ عملية استقبال النهار وسط زحمة من الأخذ والردّ، الأمر الذي لا يحتمله أي نائب أو وزير آخر يفضّل راحته على راحة الناس».

وبين “العميد” و«الحكيم» تقارب في السن، وكم حاول مخيبر  إيهام الصحافيين أن ريمون يكبره بعدّة سنوات. كذبة بيضاء في سجلٍّ ناصع. وبينهما «الكتلة» التي كان ألبير مخيبر من مؤسّسيها كحزبٍ مطلع الأربعينيات، وهو فيها قبل عميدها.

كان مواظبًا كمحازب وشغل منصب مفوّض الشباب بين العامَين 1946 و1952 وكان وشقيقه فيليب عضوَين في لجنتها التنفيذية مع رئيسها إميل إدّه «أول خطوة سياسية كانت لي في «الكتلة الوطنية» (كتيّار) لعلّه في العام 1935»([3]) وذلك بطلبٍ من الرئيس إميل إدّه، وكان مخيبر من كبار المعجبين بشخصيته «كان إميل إدّه رجل المبادىء الوطنية، لكنّ سياسته لم تُفهم آنذاك».([4]) أما السبب الرئيس لخروجه أن «الكتلة الوطنية» كانت تضع “فيتو” على رئيس الجمهورية بشارة الخوري، ووُجِدَ الأمين العام للحزب آنذاك جورج عقل بموقفٍ ألزمه بمصافحة الخوري أدبًا، ففعل. أقيل من منصبه. طلب مخيبر إعادته الى منصبه فرفضوا فاستقال بدوره من دون أن «يتمترس» في المعسكر المناهض للكتلويين أو أن يبتعد عن الخطّ السياسي للكتلة. «كنتُ أدرك أن جورج عقل من أهمّ الحزبيين لذا عارضت هذا الفصل ولاحظت تصرّفات غير طبيعية في الحزب فغادرته وبقيت صديقًا للعميد ريمون إدّه([5]) قد يكون فصل عقل، هو السبب المباشر الذي دفع بمخيبر للتخلّص من الثوب الحزبي الخانق، والأمر في حقيقته يتخطّى تسجيل موقف مبدئي «تركت الكتلة. لا أقدر أن أكون حزبيًا. الحرّية هي السبب. الحرّية هي أهمّ من أي شي آخر في الوجود».([6])

بعد استقالته استمرّت العلاقة مع الكتلويين بخاصة مع الدكتور إميل سلهب كما تواصل التنسيق بينهما سياسيًا وعلى الأرض كإبنيّ منطقة واحدة. كلاهما لديه نفس الأداة السياسية الشعبية، وكلاهما يحمل السمّاعة وآلة الضغط ويجولان في القرى إلى درجةٍ بات الإسمان في أذهان الناس متلازمَين: مخيبر سلهب، وسلهب مخيبر. بدأا طبيبَين وأكملا بالسياسة»([7]) وبخروج مخيبر من تحت وصاية إدّه المباشرة صار أكثر حرّيةً في تصرّفاته فأراح “العميد” وارتاح في تحالفاته بخاصة مع الرئيس كميل شمعون، وقد دشّن حياته البرلمانية والوزارية في عهده المثير للجدل وللإعجاب.

وما يجمع بين «الحكيم» و«العميد» أنهما عازبان متيّمان بالنساء. وللعزوبية فوائد ومضار، «فرجل السياسة العازب يكون حرًّا أكثر في أخذ القرار من دون الأخذ بعين الاعتبار زوجته وأولاده. مباشر تعطيه العزوبية الحرّية الكاملة في أخذ القرار.. ومرّةً توجّه إلى الدكتور سليم سلهب بالقول «ليك يا سليم إنت مجوّز إذًا أنت مش خرج تعمل سياسة» سأله لماذا؟ أجاب: «قراراتك ليست حرّة، إن قالت لك زوجتك مساءً، وأنتما في السرير، أمرًا فعليك أن تختار بين ما قالته زوجتك وبين قناعتك السياسية. وقد تختار ما تطلبه زوجتك».

وفي مشواره الغرامي المديد أوشك مخيبر على دخول القفص الذهبي ثلاث مرّات ولم يحلف على الزواج بالثلاث، لا بل أبدى ندمه مرارًا على انقضاء العمر من دون زواج وأولاد. مضار العزوبية أن الولد يظلّ حلمًا معلّقًا في بال رجل لم ينعم بالأبوّة وقد جهر “الحكيم” مرارًا بندمه أنه لم ينعم باحتضان ولد من صلبه. ولعلّ القصّة العاطفية الأهمّ في حياة مخيبر وقوعه في غرام شابة نمساوية في أثناء دراسته الطبّ في لوزان. كان في سن الـ22 عندما التقى إيريكا وكانت تدرس الأدب الفرنسي. وقد تحابا «أذكر أنها عندما كانت تزور عائلتها في النمسا كنت أمتنع عن ارتياد المطاعم والملاهي كي أوفّر الفرنكات المحدودة في جيبي لأتمكّن من مخابرتها»([8]) وقد دعته مرّةً إلى زيارتها في فيينا، ولما قصدها في بيتها قيل له إنها تشاهد عرضًا مسرحيًا موسيقيًا، استدل إلى مكان العرض فوجدها برفقة شاب، فاشتعلت نار الغيرة في قلبه. ترك فيينا، وعاد إلى لوزان خائبًا.

إقرأ على موقع 180  "أيام لبنانية حاسمة".. حكومة دياب إلى الإنتخابات دُرْ!

وظلّ بعد رجوعه إلى بيروت يفكّر بالعودة إلى سويسرا لملاقاة إيريكا لكن انغماسه في العمل حتى أذنَيه حال دون رغبته، أما إيريكا، وتحت ضغط والدتها فقد تزوجت. وتحت ضغط والدته لم يقترن مخيبر بإيريكا لأن أحد أشقّائه تزوج من أجنبية. يكفي زواج واحد خارج الأطر التقليدية. أما العلاقة الجدّية الثانية التي كادت تودي بـ”الحكيم” إلى قفص الزوجية، فقد ربطته بسيّدةٍ مثقّفة ولم يفصح مرّةً عن اسمها، والثالثة أميركية حال دون تتويج حبّهما بالزواج تمسّك مخيبر بالشغف المزدوج: الطبّ والسياسة.

دوّن «الحكيم في سجلّ غرامياته السريّ أسماء نساء كثيرات وقبيل وفاته أتلف رسائل غرامية احتفظ بها في خزانته لسنوات طويلة وسبق له أن اعترف علانية «أغرمت بكثيرات لا بل ضربت الرقم القياسي في الغراميات، ولو سمع العميد هذا الاعتراف لكان نسبه لنفسه». ولطالما وجد ألبير مخيبر متعةً في الحديث عن النساء اللواتي كن وراء نجاحه السياسي، كاشفًا أن مراحل الحبّ كانت الأكثر عطاءً «وعلى طريقته يصف الرجل من دون امرأة يحبّها والمرأة من دون رجل تحبّه «مثل سيارة بلا بنزين» ومن نظرياته في الحبّ «أن المرأة العاشقة أكثر براءةً من الرجل وأكثر صدقًا والدليل عدد المنتحرات أكثر من عدد المنتحرين».

وكان السان جورج يحبّ المحبّين والعاشقين والسياسيين وكبار الصحافيين اللبنانيين والعرب.

هناك كان يطيب لريمون إدّه وألبير مخيبر أن يطيلا السهر، ويوم فاز مخيبر بانتخابات العام 1957 استمع إلى النتائج على «سطيحة» الـ«سان جورج» عبر “إذاعة لبنان الرسمية» «عندها ذهبت ليلًا إلى مجلس النواب وصعدت السلّم درجة درجة، ضاغطًا بشكل شديد على الدرجات حتى وصلت إلى آخر درجة. كان فوزًا متميّزًا وبتفوّق».([9])

في مشواره الغرامي المديد أوشك مخيبر على دخول القفص الذهبي ثلاث مرّات ولم يحلف على الزواج بالثلاث، لا بل أبدى ندمه مرارًا على انقضاء العمر من دون زواج وأولاد. مضار العزوبية أن الولد يظلّ حلمًا معلّقًا في بال رجل لم ينعم بالأبوّة وقد جهر “الحكيم” مرارًا بندمه أنه لم ينعم باحتضان ولد من صلبه

وما بين «العميد” و”الحكيم» أن الأول باع أراضٍ في البقاع ورثها عن أبيه وبدّدها على مصاريف إقامته المديدة في باريس (24 عامًا) واعتاش الثاني من مردود بعض العقارات التي تركها له والده كما ورث حصّةً في مشاريع كهربائية أعانته على صروف الدهر.. والسياسة. علمًا أن مخيبر لم يصرف ملّيمًا على حملاته الانتخابية، فماكينته تعتمد على متطوّعين والبوسطات تقدمة من مناصريه. وذات يوم سُئل «الحكيم»: لماذا تضع يديك دائمًا في جيبتيك في صور الترشّح إلى الانتخابات؟ فأجاب: كي لا أضعهما في جيوب الناس!

وما بين «العميد» و«الحكيم» أن كلاهما لم يُعدّ له وريثًا سياسيًا في حياته، لا بل أن مخيبر رفض قطعيًا نقل الترشيح في العام 2000 الى ابن أخيه غسّان الذي استمات لهذه الغاية، إنما قرّر أن يخوض المواجهة بشخصه لفاعلية التاريخ والإرث الشعبي عوض توريث الأقارب والأنساب ما هو ملكٌ وحقٌ لأبناء خطّه السياسي والذي كان بعضهم أقرب إليه من الأقارب.

وما بين «العميد» و«الحكيم» ما ليس بين أخوَين فيوم عاد ريمون إدّه إلى بيروت في 12 أيار/مايو 2000 ملفوفًا بعلم، تحامل ألبير مخيبر على أعوامه وتوجّه إلى المطار. اِستقبل العائد. سار خلف جثمان «توأم روحه» في كلّ مراحل الدفن والتشييع حتى مواراته الثرى. بكاه بحرقة. وناداه من أعماق حزنه «قم يا ريمون. إنهض. الشعب بحاجة إليك».

المصادر والمراجع:

[1]– من مقابلةٍ مع المحامي كلود عازوري.

[2]– من لقاءٍ مع غسّان مخيبر.

[3]– الياس الديري النهار 17 نيسان/أبريل 1993.

[4]– من «حوار العمر» مع جيزيل خوري في العام 2001 ولم تُبثّ الحلقة لتضمّنها مواقف عالية السقف.

[5]– 20 أيار/مايو 2001 مارلين خليفة، نهار الشباب.

[6]– الياس الديري.

[7]– مقابلةٌ خاصة مع النائب السابق سليم سلهب.

[8]– من مقابلة «نهار الشباب».

[9]– من مقابلةٍ لجريدة «المستقبل» أجرتها هناء حمزة في 2 تشرين الأول/أكتوبر من العام 2000.

Print Friendly, PDF & Email
ملحم الرياشي

صحافي وكاتب؛ نائب في البرلمان اللبناني

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  جبران باسيل إن حكى.. "بشير" أم "رابط البترون"؟