ضفتا المتوسّط بين الوصل.. والفصل

 حوض البحر المتوسّط، مهد الحضارة الإنسانية. لعب دوراً مهماً في تعزيز التواصل بين الشعوب على ضفافه. لكن شعوب هذه المنطقة تحتاج اليوم إلى مصارحات ومكاشفات ومصالحات، والأهم الاعتراف بما حصل أيام الإستعمار، من أجل تعزيز الجوامع وتقليص الفوارق الموجودة اليوم بين جنوب المتوسط وشماله.

يمثّل حوض البحر المتوسّط موقعاً فريداً ببحره وخلجانه ومضائقه. ومن ينظر اليوم إلى الخريطة السياسية لجانبي البحر المتوسّط يُصاب بالذهول، فهذه المنطقة المتشاطئة جيوسياسياً، بين أفريقيا وآسيا وأوروبا، وإن اختلفت أنظمتها وطرائق حكمها، إلّا أن علاقاتها الإنسانية مثّلت تاريخاً مشتركاً، وهي رمز الإبداع والحكمة في الفلسفة والتاريخ والفن والموسيقى والأدب والعلم والتكنولوجيا. لقد اجتمعت فيها حضارة ما بين النهرين، والنيل، والأناضول، وطروادة، واليونان، وفينيقيا، وقرطاج، وروما، وبغداد، والأندلس، وبيزنطية، والدولة العثمانية. كما أن شعوبها ومجتمعاتها وبلدانها تمثل التعايش، والتنوّع، والتعدّدية، والتواصل، والتفاعل الثقافي والتجاري.

وإذا كان ثمة دول وشعوب كانت متعادية فائتلفت، أفليس ذلك مُدعاةً لجعل شعوب شمال المتوسط وجنوبه، وهي الأكثر قرباً، للتلاقي والتواصل في إطار الإحترام المتبادل والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة والمشترك الإنساني الذي يمثّل قيم الحريّة والسلام والتسامح والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة، وهي قيم إنسانية تخص البشر ككل بغضّ النظر عن قومياتهم وأديانهم ومذاهبهم ولغاتهم وألوانهم وأجناسهم وأصولهم الاجتماعية.

التعويل على ثقافة السلام والتسامح

لقد واجهت علاقة شمال المتوسط بجنوبه في الماضي وتواجه اليوم تحدّيات مختلفة بعضها طبيعي مثل التغييرات المناخيّة والحرائق والفيضانات، ناهيك عن جائحة كورونا (2020 – 2021)، كما أن زيادة السكان والهجرة من الجنوب (الفقير) إلى الشمال (الغني)، تعتبر إحدى التحدّيات الكبرى التي تحتاج إلى تفاهمات دولية على أساس عادل لحلّها، إضافة إلى قضايا الطاقة (النفط والغاز وذيولهما)، والغذاء والتغيرات البيئية، تلك التي ازدادت خلال الحرب الروسية الأوكرانية.

إن بعض هذه التحديات هي من صنع الإنسان واستغلال أخيه الإنسان، والتغوّل عليه بسبب محاولات الإستقواء وفرض الهيمنة، إضافة إلى البطالة والمخدّرات والإرهاب التي يعاني منها الشباب، والأزمة أكبر في العالم الثالث، والتحدّي أشدّ وأكثر عنفاً فيما يتعلّق بالتعصّب ووليده التطرّف، وهذا الأخير إذا ما صار سلوكاً يتحوّل إلى العنف، والعنف إذا ضرب عشوائياً يمكن أن يصبح إرهاباً، والإرهاب يستهدف إضعاف ثقة المجتمع الدولي بنفسه وحين يكون عابراً للحدود يصير إرهاباً دولياً، خصوصاً بإضعاف ثقة المواطن والمجتمع بالدولة أيضاً.

كيف السبيل لتحويل منطقة البحر المتوسّط بضفّتيها من منطقة عازلة إلى منطقة واصلة؟ أي منطقة سلام وتفاهم وتنمية ومصالح مشتركة ببعد إنساني ثقافي

بغضّ النظر عن التاريخ الاستعماري لبعض دول شمال المتوسط، وما تركه ذلك من ندوب وأحزان وذكريات مؤلمة وتاريخ دموي، لكن ثقافة السلام والتسامح هي التي ينبغي أن تسود لمصلحة شعوب ضفّتي المتوسّط، بدلاً من ثقافة الانتقام والكراهية. ولكي يتحقّق ذلك، لا بدّ من مصارحات ومكاشفات ومصالحات، خصوصاً الاعتراف بما حصل والاعتذار عنه. فأحفاد المستعمرين ليسوا مسؤولون عمّا حصل. ولكي تكون الأجواء صحيّة وسليمة، لا بدّ من تطمين أحفاد الضحايا بالاعتذار لهم عمّا حصل لأجدادهم في بلدان جنوب المتوسّط.

المستعمرون والمستوطنون كانوا رأس حربة ضدّ تنمية بلدان جنوب المتوسط، وساهموا في سلب ثرواتها، الأمر الذي يقتضى التعويض، أو على أقل تقدير مساعدتها اليوم لتنمية بلدانها وانتشالها من الأمراض والأوبئة والفقر والتصحّر، والإسهام في تقديم الدعم لها لتجاوز أزماتها، وإعادة بنياتها التحتي وهياكلها الارتكازية والطرق والجسور والمواصلات في أجواء من الحريّة والسلم المجتمعي.

ولعلّ ذلك لا يعود بالنفع على البلدان النامية في جنوب المتوسط فحسب، بل يعود بالخير أيضاً على شماله. كما أنه، وبلا أدنى شك، سيحد من الهجرة المتعاظمة، ويُقلّل إلى حدّ كبير من العنف والإرهاب، ويساعد في استثمار الموارد على نحو أكثر عقلانية وبالتعاون مع دول شمال المتوسّط. النتيجة ستكون لصالح الإنسان بغضّ النظر، أكان في شمال المتوسّط أم في جنوبه.

تعزيز الجوامع.. وتقليص الفوارق

يمثّل ذلك الوجه الإيجابي للعولمة، بغضّ النظر عن وجهها المتوحّش والموغل في استلاب الإنسان. إن عولمة الثقافة بما فيها من فنون وآداب وعمران، يعود نفعها على الأفراد والمجتمعات. فالموسيقى واللوحة والمنحوتة والمسرحية والكتب بترجماتها المتبادلة، إضافة إلى الرياضة والسياحة والانفتاح، كلّها تعبّر عمّا هو إنساني وعابر للحدود والجنسيات والبلدان. وكذلك عولمة الحقوق الإنسانية، فلم يعد مقبولاً في عالم اليوم، نظرياً على أقل تقدير قبول استعباد شعب آخر أو هضم حقّه في تقرير المصير والعيش بسلام.

والعولمة لا تلغي الهويّات الخصوصية، بل تعمل على تنميتها دون إهمال شروط التطوّر التاريخي التي ينبغي أخذها بنظر الاعتبار، وما هو مهم هو الاعتراف بهذه الخصوصية في إطار التطوّر الكوني وتلاقحها، بالإضافة إلى المعايير الدولية، إذْ لا ينبغي بزعم العولمة إهمال الخصوصيات والتغوّل على الهويّات الفرعيّة، كما لا ينبغي باسم الخصوصيّة والتميّز، التنكّر لما هو مشترك وكوني وإنساني.

والأمر يحتاج إلى نوع من النظرة التكاملية، سبق لحوار مع الأمير الحسن بن طلال أن دعا إليها في إطار منتدى الفكر العربي بتأكيده على تعزيز الجوامع مقابل تقليص الفوارق.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  ترامب عقبة على طريق صعود الغرب
عبد الحسين شعبان

أكاديمي، باحث ومفكر عراقي

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  لبنان: إنتهى زمن المعجزات.. إنه زمن العجز