رؤية علي فيّاض.. لإخراج لبنان من غابات أحزانه 

قدّم النائب في البرلمان اللبناني علي فياض، رؤية محلية ـ إقليمية ـ دولية في مؤتمر انعقد في العاصمة بيروت بعنوان "التجدد للوطن"، أثارت نقاشاً ما فتئ مستمراً، نظراً لما حملته هذه الرؤية من مقاربات تحمل مقدمات أجوبة على إشكاليات تقع في صُلب الحياة السياسية اللبنانية، إذ جرت العادة بتجاهلها أو التغافل عنها حين ممارسة الفعل السياسي.

في رؤية علي فياض أو مقاربته ثلاث زوايا قوبلت بالجدال السلبي، مع أنها واقع معيوش، إحداها مرحلة انتقالية يمر فيها الإقليم ومن دون قدرة على حسم طبيعة النظام الذي يمكن أن ينشأ عن هذه المرحلة التي زادتها حرب غزة غلياناً وأسئلةً صعبةً، وثانيتها التحولات العالمية الساخنة والتي تشكل الحرب الروسية ـ الغربية في أوكرانيا إحدى تعبيراتها، ناهيك عن “الحرب الصامتة” بين الصين والغرب في أكثر من مجال حيوي واقتصادي وتكنولوجي، وهاتان الحربان من شأنهما أن يصوغا شكل النظام الدولي لعقود مقبلة، وفقا للنتائج التي ستستقر عليها نهائيات الحربين.

إذا ما جرى تجاوز النقاش حول المرحلتين الإنتقاليتين، الإقليمية والدولية، فالمرحلة الإنتقالية المرتبطة بالدولة اللبنانية، أو بالنظام السياسي اللبناني بتعبير أدق، هي الأرضية التي خيض النقاش السلبي حولها وعليها، وأغلب الظن أن التصويب على مقاربة النائب فياض، انطلق من خلفية استهداف انتمائه الحزبي، أكثر من كونه نقاشاً في حقيقة النظام السياسي في لبنان، أي نظام ما بعد “الطائف” وبأنه نظام انتقالي، ولم تُخف مواده الدستورية تلك “الإنتقالية” حين نصّت عليها وحين حدّدت سُبل الخروج من المرحلة الإنتقالية ـ الطائفية إلى المرحلة النهائية ـ الوطنية.

أين تكمن “الإنتقالية” في مواد الدستور اللبناني؟ والدستور كما هو متعارف عليه قاعدة الحُكم.

في الفقرة “ح” من مقدمة الدستور “إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية”.

لا لبس في تفسير هذه الفقرة، فهي تعتبر الغاء الطائفية السياسية هدفاً وطنياً، وبما يعني أن الأولى حالة مؤقتة وغير دائمة تسبق الإنتقال إلى الحالة الوطنية، فيما بقاء الطائفية السياسية هو استمرار للحالة غير الدائمة أي غير الوطنية، وكذلك مراوحة على مرحلة انتقالية بين ما هو طائفي وما هو هدف وطني، وطالما أن الأخير بمنأى عن التحقق، تبقى الطائفية قاعدة النظام، ويبقى النظام في مرحلة انتقالية ينتظر تحقيق “الهدف الوطني الأساسي” كما تنص الفقرة “ح”.

“المادة 24” من الدستور تكمل ما ورد في الفقرة الآنفة، إذ تقول:

“إلى أن يضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي، توزع المقاعد النيابية وفقا للقواعد الآتية: بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين ـ نسبياً بين طوائف الفئتين ـ نسبياً بين المناطق”.

ما يرد في هذه المادة، ينطوي على ما هو طائفي مؤقت، والمؤقت مرحلي بإنتظار القانون الإنتخابي خارج القيد الطائفي، أي قانون انتخاب وطني، وإن دلّ ذلك على شيء، فهو يدل إلى أن كل واقع طائفي هو واقع غير وطني، والعبور إلى الثاني يتطلب الخروج من الأول، وما حث المجلس النيابي على وضع قانون انتخابي غير طائفي، سوى اعتراف بأن التوزيعات الطائفية هي توزيعات عابرة، مؤقتة، وانتقالية إلى الرحاب الوطني، ولكن قبل بلوغ الأخير، تتشكل “إدارة طائفية” تمهد للإنتقال إلى الوطنية الجامعة.

بالروح والمعنى ذاتهما، تنطق “المادة 95” من الدستور اللبناني، وتنص على الآتي “على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية، وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية، مهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية السياسية وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية”.

منذ سنوات غابت المقاربات التي تُقدّم تصورات سياسية لإخراج هذا الوطن المنكوب من غابات أحزانه، ولعل مقاربة النائب علي فياض، أولى المقاربات، الشخصية أو الحزبية، التي تستحق النقاش من باب البناء عليها، وليس من زاوية استهدافها لأن قائلها ينتمي إلى نهج أو إلى حزب، ومهما يكن من أمر، فمهمة الأحزاب أو الحزبيين، جماعات أو أفراداً، أن يطرحوا حلولاً، وينتجوا أفكاراً، ويقدموا تصورات

“وفي المرحلة الانتقالية:

ـ أ: تُمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة·

ـ ب: تُلغى قاعدة التمثيل الطائفي ويُعتمد الإختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة وفقا لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها وفي ما يعادل الفئة الأولى فيها وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة مع التقيد بمبدأي الإختصاص والكفاءة”.

عدا عن كون هذه المادة واضحة البيان بدعوة مجلس النواب إلى اتخاذ الإجراءات الهادفة لإلغاء الطائفية السياسية، فهي تتحدث عن خطة مرحلية ومرحلة انتقالية، والأخيرة هي التي أشار إليها النائب علي فياض وأثار جدال المجادلين، مع أنه استند إلى “المادة 95” حين تحدث عن “مرحلة انتقالية” و”طابع انتقالي” وأن “اتفاق الطائف فتح الباب في ما يتعلق بالدولة والنظام السياسي، على مرحلتين، انتقالية ونهائية، وأن انتهاء المرحلة الإنتقالية مرتبط بتطبيق الإصلاحات كافة التي نص عليها (اتفاق) الطائف والدستور اللبناني”.

إقرأ على موقع 180   جعجع.. ولعنة الشارع والدم!

الدستور تحدث عن “المرحلة الإنتقالية” فعلام اللوم؟

علاوة على ذلك، فـ”الإنتقالية” التي نصّ عليها الدستور، تتعدى قواعد الحُكم لتشمل قواعد التوافق الوطني على القضايا الأساسية والمصيرية، وهنا يأتي الحديث عن مجلس الشيوخ ودروه ووظيفته، وحيال ذلك تقول “المادة 22”:

“مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يُستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية”.

ما هي القضايا المصيرية؟

تلك التي وردت في “المادة 65″ على ما أصبح شائعاً وشبه متفق عليه، وجرى التعبير عنها بـ”المواضيع الأساسية” وهي:

“تعديل الدستور ـ إعلان حالة الطوارئ وإلغاؤها ـ الحرب والسلم ـ التعبئة العامة ـ الإتفاقات والمعاهدات الدولية ـ الموازنة العامة للدولة ـ الخطط الإنمائية الشاملة والطويلة المدى ـ تعيين موظفي الفئة الأولى وما يعادلها ـ إعادة النظر في التقسيم الإداري ـ حلّ مجلس النواب ـ قانون الإنتخابات ـ قانون الجنسية ـ قوانين الأحوال الشخصية ـ إقالة الوزراء”.

الغاية من استحداث مجلس الشيوخ، تكمن في الثنائية المجلسية التشريعية، وهي قاعدة من قواعد الأنظمة الديموقراطية، التي اتخذت في مسار تطورها السياسي واقع الطبقات والفئات الإجتماعية، فمجلس الشيوخ غالباً ما يكون إطاراً تشريعياً ـ تمثيلياً لجماعات المصالح والنفوذ الإقتصادي والإجتماعي (بريطانيا: مجلس اللوردات أعلى من مجلس العموم ـ فرنسا: مجلس الشيوخ أدنى من الجمعية الوطنية ـ الولايات المتحدة: مجلس الشيوخ أعلى من مجلس النواب).

في الحالة اللبنانية، تُشكل الطوائف واقع “جماعات النفوذ والتأثير” وعلى الأغلب تحركها الهواجس، وعلى ما يقول النائب فياض “إن سياسة إنكار الهواجس الكبرى للطوائف، لا تجدي نفعاً، أكانت هذه الهواجس صحيحة أم كانت وليدة الوهم والمبالغة، لأنها في كلتا الحالتين، هي ذات أثر واقعي من حيث المواقف والسلوك، لذلك، من وجهة نظرنا يجب التعاطي معها كهواجس واقعية، على أن يتركز الجهد البنّاء على مناقشة أطر المعالجة وأدوات الحلول”.

وانطلاقاً من هذا التشخيص، أخذ “دستور الطائف” بتلك الهواجس، ما تقادم منها وما قد يستجد، فإنشاء مجلس شيوخ تتمثل فيه العائلات الروحية ـ الطوائف ـ وتتركز صلاحياته في القضايا المصيرية، وبذلك يكون الدستور قد طرق الباب الواقعي لمعالجة الهواجس الطائفية، ولكن إقفال الأبواب أمام استحداث هذا المجلس، جعل النظام السياسي اللبناني مقيماً على مرحلة انتقالية عنوانها الطائفية السياسية التي تحول دون تحقيق “الهدف الوطني الأساسي” كما نطقت الفقرة “ح” من مقدمة الدستور.

ما طرحه النائب علي فياض، مقاربة إصلاحية من داخل “الطائف”، ورؤية نحو نظام وطني من داخل نصوص الدستور، ووجهة نظر للعبور من الإنتقالي إلى الدائم، مصحوبة بخمسة عناوين يُفترض أن تشكل إجماعاً لبنانياً يُمهّد لتوافق وطني عام، وملخص هذه العناوين: رفض توطين الفلسطينييين، مشكلة النزوح السوري، استمرار الإحتلال الإسرائيلي لأراض لبنانية، حماية الموارد اللبنانية من آبار غازية ونفطية، ترميم علاقات لبنان العربية.

آخر الكلام:

منذ سنوات غابت المقاربات التي تُقدّم تصورات سياسية لإخراج هذا الوطن المنكوب من غابات أحزانه، ولعل مقاربة النائب علي فياض، أولى المقاربات، الشخصية أو الحزبية، التي تستحق النقاش من باب البناء عليها، وليس من زاوية استهدافها لأن قائلها ينتمي إلى نهج أو إلى حزب، ومهما يكن من أمر، فمهمة الأحزاب أو الحزبيين، جماعات أو أفراداً، أن يطرحوا حلولاً، وينتجوا أفكاراً، ويقدموا تصورات.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  في معنى أن أكتب نصاً عن غزة