على الدوام شكّلت المذهبية السياسية لـ”بني معروف” قدرة استثنائية على التقلب، وقدرة أكبر على صناعة الحلفاء وبلورة الأعداء والتمرد. وأوضح ما يعكس هذه الصورة، ما جاء على لسان الراحل الوزير والديبلوماسي والصحافي غسان تويني في مؤتمر صحافي عقده في بداية السبعينيات رداً على حملة شنّها عليه كمال جنبلاط، بالقول: “يا خصمي حيناً، وحليفي أحياناً، وصديقي في كل حين”.
الصورة التي رست عليها الساحة الدرزية حالياً، تُقرأ من العام 1977. آنذاك، وبعد انتهاء “حرب السنتين” وهزيمة “الحركة الوطنيّة” التي كانت مَدَد الزعيم كمال جنبلاط في مشروعه السياسي، دخلت قوات الردع السوريّة إلى لبنان. أعقب هذا الدخول الاغتيال الكبير لكمال جنبلاط وما مثّله من اساس عميق في واقع “الدرزية السياسية” ومساراتها (رابط مقال، كمال جنبلاط: الدور، العشيرة، والزعامة). العلمانية المُقنّعة التي كان يعيشها كمال جنبلاط لم تدعه يبارح عقدة الاقلوي الذي لا يحق له أن يكون رئيساً للجمهورية، وهو ابن طائفة مؤسِّسة للكيان. ويُنقَل في هذا الإطار عن الراحل جورج حاوي أنّه قال لكمال جنبلاط في عزّ أيّام الحركة الوطنية “على الرغم من كلّ قوتك ولكنك يا كمال بيك ستبقى في هذه التركيبة اللبنانية زعيم طائفة صغيرة غير مؤثّرة ومهدّدة، ولكن من خلال الحركة الوطنية ستستطيع أن تلعب دوراً على امتداد الوطن يحميك ويحمي الطائفة الدرزية”. ولحماية هذه الطائفة، اتبع جنبلاط الأبّ (كما جنبلاط الإبن من بعده) تكتيكاً يقول بـ”التسلّح” بالموقف الوطني والقومي لتغطية وحماية موقعه الطائفي.
ربّما الأكثر مدعاةً للتفكّر، هو دور الزعامة الذي اضطلع به وليد جنبلاط في صيانة المذهبية السياسية لـ”بني معروف” وحمايتها من التقلبات و”لعبة الأمم” التي يتحسّسها بشدة، وتؤثر في تبدل مواقفه وتحالفاته التي يتفهّمها الجميع، لكنه قلّما تفهّم، هو، موقف أحد
تلقت الطائفة الدرزية ضربات عديدة منذ حرب العام 1860 حتى “حرب السنتين” (1975ـ 1976)، إلى أن أتت الرياح مع وليد جنبلاط في “حرب الجبل” عام 1983.
ولئن ربح الدروز عسكرياً عام 1860، إلا أن القناصل بددوا هذا “النصر” وحوّلوه هزيمة سياسية من خلال نفي أربعة آلاف إلى بلغراد من “المنتصرين” وإجبارهم على بيع أملاكهم وجعل بدلاتها تعويضات للقتلى والجرحى. هذا غيّر في طبيعة الجبل الإجتماعية والطبقية: صار المسيحيون حاكمين وأثرياء، وتحول جلّ “بني معروف” إلى العمل، حتى في ما كان أرزاقهم سابقاً، بعدما حلّ الفقر بمعظمهم.
صعود وئام وهّاب
بعد رحيل المير مجيد ارسلان واغتيال الزعيم كمال جنبلاط و”زعامتهما” التي كانت اقرب الى المناصفة في ما بينهما، سترتكز “الدرزية السياسية”، من الآن وصاعداً، على زعامتين مختلفتين حجماً وتأثيراً وشكلاً ومضموناً؛ هما وليد جنبلاط الآتي من مزاج خاص، وطلال ارسلان الباقي في أطوار قديمة، مع صعود لافت لشخصية درزية قادمة من رحم الجنبلاطية والحزب التقدمي الاشتراكي هي وئام وهّاب. برز هذا الأخير كقيادي درزي ثالث تكفّل بصياغة حضوره ثنائيُّ النظام السوري من خلال حقبة الوصاية التي حكمت لبنان، ومن ثمّ حزب الله من خلاله الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ولا يمكن هنا إغفال “قدرات” وئام وهّاب وحضوره السياسي الاعلامي وفي أحيان كثيرة حريته في تناول القضايا الشائكة ونبرته واندفاع محطات التلفزة الدائم لاستقباله. واستطاع القيادي الثالث، الآتي من عالم الصحافة (دشّن تجربته في إذاعة صوت الجبل) والحياة العادية، أن يفرض نفسه منافساً “وازناً” للقياديّيْن التقليديّيْن وليد جنبلاط وطلال أرسلان، على حدٍّ سواء. قرر الرجل أن يصعد من الصفر لتكوين حيثيته الخاصة، إلى درجة أن جنبلاط توجّس منه وبات يحسب له ألف حساب، بينما كان يتعاطى مع خصمه اللدود طلال ارسلان كمجرد نائب “نترك له مقعداً شاغرا”، أو عبر مطالبته جنبلاطياً “بأن يكبر حتى نخاصمه”!
وهّاب، الطارىء على التركيبة السياسية اللبنانية، برز أيضاً بفضل شخصيته الخدماتية ونسجه مروحة متشابكة من العلاقات، تبدأ ولا تنتهي. فهو مع الإمارات العربية المتحدة ويخاصم قطر وتركيا ومن خلالهما “الإخوان المسلمين”. لم يترك كبيرة ولا صغيرة تُعنى بالدروز، أهلاً وجماعةً، إلاّ وتناوله؛ بدءًا من الشويفات وصولاً إلى السويداء. وهكذا راحت تتوسع بقعة زيت وئام وهّاب، وبات رقماً صعباً في الجبل، فهذا ما بيّنته نتائج الإنتخابات النيابية الأخيرة، لكنّ السؤال يبقى عن قدرته على الإستمرار في السنوات المقبلة؟
ربّما الأكثر مدعاةً للتفكّر، هو دور الزعامة الذي اضطلع به وليد جنبلاط في صيانة المذهبية السياسية لـ”بني معروف” وحمايتها من التقلبات و”لعبة الأمم” التي يتحسّسها بشدة، وتؤثر في تبدل مواقفه وتحالفاته التي يتفهّمها الجميع، لكنه قلّما تفهّم، هو، موقف أحد. في الشهور الفائتة، بدا جنبلاط وكأنه يستعمل حزب الله للتحشيد الطائفي وإشعار الدروز بأنهم مهدَّدون وجودياً، وسرعان ما وظّف “قطاف التحشيد” في خدمة انفتاحه على حزب الله وطمأنته. وحزب الله بدا، هو الآخر، وكأنه صار يحفظ جنبلاط عن ظهر قلب، سواء في المخاصمة أو المهادنة أو الالتفاف أو حتى التحالف. لم يعد حزب الله يحتاج إلى عرّافة أو بصّارة ليفهم تقلبات جنبلاط الذي يبدأ الحديث عن صراع بين الولايات المتحدة والصين لينتهي عند مشكلة انمائية في قرية ما بالشوف أو عاليه (وهذه إحدى الخصال التي ورثها من والده). يبرر وليد جنبلاط لمواقفه دائماً بـ”الخوف” على “الموحدين”. لكنّ القلق الأكبر الذي “يسكنه” ثلاثي الأبعاد: التوريث الآمن لتيمور؛ الموت اغتيالاً كما سيرة عائلته؛ سطوة الديموغرافيا التي تطوّق الدروز، من لبنان الى فلسطين المحتلة، وبينهما الجحيم في سوريا ومآلاته غير الواضحة.
في مقابل جنبلاط، يطل طلال ارسلان بكلاسيكية رهيبة رتيبة هشة. ومن يستمع لـ”المير” اليوم يشعر أنه يستمع إلى حديث مكرور يعود من التاريخ. يبدو زعيماً على قليل القليل الذي يتركه جنبلاط طوعاً، حيناً، وخشيةً من تسرب التصدعات إلى الطائفة، أحياناً. أما وهّاب فقد خطّ صعوده بتوزيرٍ قررته الوصاية السورية على لبنان بعد خلافها مع جنبلاط. لينطلق بعدها، في الحياة السياسية اللبنانية، بقياس قيمة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان على “صرمايته”، ويتعامل مع الحياة السياسية من دون سقف. لديه ملفاته، ولديه طرقه في تناول القضايا، ولديه تغريداته، ولديه الكاريزما على الشاشة وشعبيته “وهضامته” (بعيون البعض)، ولديه زكزكاته. فهو الذي يقدّس المقاومة، نراه يصطدم في “لحظة ما” مع جمهورها، ويعرف كيف يجيب على تعليقات الجمهور، بنبرته العالية الساخطة والجبلية.. وبعد؟
الأكثر إنعطافاً
في هذه الأيام، وعند الحديث عن “الدرزية السياسية”، يذهب التفكير تلقائياً إلى زعامة وليد جنبلاط. يجرّب الأخير التموضع في الوسط: التلاقي مع حزب الله وذمّ الحياد؛ وبالتوازي، يثني نجله تيمور على النواب “التغييريين”، أو يسرّب الى الاعلام أنه على خطٍّ مختلف مع والده في قضايا عديدة، ويذهب الى البطريرك بشارة الراعي شارحاً ومُبرراً. هدوء تيمور يوحي بالرتابة والقلق للجمهور الدرزي الذي اعتاد على دينامية وليد جنبلاط وسرعته في الالتفاف والمكيافيلية المفرطة. إذْ مارس السياسة إلى حدودها القصوى: لا قداسة أو مقدسين في السياسة. وأبعد من ذلك. فلقد اسبغ على السياسة ما يمكن تسميته بـ”الجنبلاطية” التي باتت تعني نهجاً سياسياً جامعاً للتناقضات. فجنبلاط هو “الزعيم” الأكثر انعطافاً في السياسة اللبنانية؛ فمرّةً يسخر من التقوقع ويتهكم على الآخرين، ومرّةً أخرى تراه يعود إلى طائفته مُستنجداً بـ”الخصوصية” التي تبيح له أن يستخدم الأفكار والنظريّات “انتقائيّاً”. وجنبلاط المُعتبَر من أكثر السياسيّين ثراء في لبنان والمُتَّهم بأنّه من أوائل مَن هرّبوا مئات ملايين الدولارات إلى الخارج، لا يتردّد في أن يقدّم نفسه، في الوقت عينه، ناطقاً بلسان الفقراء. وهو الأكثر تقليدية، أيضاً، ولا يتورّع عن إعطاء دروس في الثورات. تحالف مع سوريا وهو يتهمها باغتيال أبيه، ثم ناوأها قبل أن يُكاسرها ويصطف مع خصومها في “ثورة” 14 آذار/مارس إثر اغتيال رفيق الحريري، ثم ما لبث أن تخلّى عن حلفاء “ثورة الأرز” ويمّم وجهه شطر حزب الله وحركة أمل. لكنّ علاقته مع الثنائي الشيعي ظلّت غريبة بغرابة مواقفه، وبغرابة وطأة تاريخ “بني معروف” وما كابدوه منذ زوال الحكم الفاطمي. فالرجل يهاب حزب الله، بينما هو أكثر من حليف باطني لنبيه بري، بل يصعب أن ينفصل الرجلان منذ ما بعد انتفاضة 6 شباط/فبراير 1984.
جنبلاط هو “الزعيم” الأكثر انعطافاً في السياسة اللبنانية؛ فمرّةً يسخر من التقوقع ويتهكم على الآخرين، ومرّةً أخرى تراه يعود إلى طائفته مُستنجداً بـ”الخصوصية” التي تبيح له أن يستخدم الأفكار والنظريّات “انتقائيّاً”
قد يكون أبلغ بورتريه يُكتَب عن وليد جنبلاط، هو ذلك الذي خطّه الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا خلال زيارته إلى لبنان إذْ قال: “حياة زعيم الأقلية الدرزية (جنبلاط) المحاطة بالموت، لم تحرمه من السخرية. إنه شخصية مثيرة للفضول. يبدو كما لو امتزج فيه سيد إقطاعي، ومثقف متهور وكزموبوليتي، ونبي وmetrosexual. إنه متزوج من نورا، امرأة باهرة الجمال ومضيفة تستقبل ضيوفها كإمبراطورات الأساطير، يعيش في ذلك القصرـ الحصن، بحماية عشرات رجال الميليشيا المسلحين، ويملك مكتبة بأربع أو خمس لغات. وقد كانت هوايته الغريبة هي جمع فظاعات قبيحة من الرسم الواقعي الاشتراكي السوفييتي: لينين يخطب محرضاً الرفاق في اللجنة المركزية، وستالين يبتسم بأبوية للجماهير، والماريشال جوكوف يمتطي صهوة حصان أبيض وثّاب، وغيرها. وقد استحال عليّ، على امتداد الأحاديث المسلية التي تبادلناها، أن أتقصى إذا ما كانت تلك اللوحات موجودة هناك كسخرية ما بعد حداثية تكريماً لكيتش kitch غير إرادي ـ أم لأنها تروقه حقاً. إنه سر غامض آخر، بين الأسرار الكثيرة الغامضة التي تخبّئها بلاد التناقضات تلك (لبنان)، والتي قطعت شوطاً طويلاً، دون شك، في التحديث، مستبقة الشرق الأوسط بأسره وأحد أجمل البلدان التي حظيتُ بالتعرف إليها وأكثرها تحفيزاً. ولكنها أيضاً، وفي الوقت نفسه، بلاد وفيّة بصورة لا يمكن تفسيرها للإرث القبلي، هذا يعني أنه بلد خائف من هذا العالم الذي بلا حدود، والذي كان لبنان نفسه، بطريقة ما، متقدماً عليه في التاريخ”.
(*) الجزء الأول بعنوان: “الدرزية السياسية”.. طائفة العصاة