تتبنّى دمشق الجديدة سياسةً توصف بـ”السّيادة التّوافقيّة”، وهي مقاربةٌ صعبة ومتشابكة ومعقدة، تسعى من خلالها إلى موازنة العلاقات مع الدول الخليجية وتركيا والولايات المتّحدة وأوروبا وروسيا والصين، وتفادي الارتباط الحصريّ بأيّ محور. أولويّات الحكومة الانتقاليّة تتلخّص في استعادة وحدة الأراضي السّورية وضبط السلاح ودمج الفصائل المسلّحة في بنيةٍ أمنيّةٍ وعسكريّةٍ نظاميّة. إلا أنّ هذه الأهداف تصطدم بواقعٍ جغرافيِّ–سياسيٍّ معقّد: شمالٌ مرتبطٌ بتركيا بأشكالٍ متعدّدةٍ من النّفوذ، شمالٌ شرقيٌّ تديره قوات سوريا الدّيموقراطيّة (قسد) بدعمٍ أميركيّ، جنوبٌ ذو خصوصيّةٍ درزيّةٍ وتقاطعاتٍ أمنيّةٍ مع إسرائيل، ساحلٌ لم يغب عنه نفوذ النظام السابق كليًا، وبادية سورية يتموضع فيها نحو خمسة آلاف مقاتل “داعشي”. هذا الواقع يجعل بناء مؤسّساتٍ مركزيّةٍ قادرةٍ على فرض السّلطة عمليّةً تدريجيّةً ومحكومةً بسقوفٍ خارجيّةٍ واضحة.
في هذا الإطار، أعادت تركيا تعريف موقعها في سوريا من طرفٍ مواجهٍ إلى شريكٍ رئيسيٍّ في ملفات الأمن والاقتصاد وإعادة الإعمار في الشمال. بالنّسبة لأنقرة، تشكّل سوريا الجديدة عمقاً استراتيجيّاً أمنيّاً واقتصاديّا، مع ثبات موقفها الرّافض لأيّ وجودٍ كرديٍّ مسلّحٍ ذي طابعٍ مستقلٍّ على حدودها. تعمل تركيا وفق سياسةٍ يمكن وصفها بـ”الاحتواء النّاعم”، استثماراتٍ في البنية التّحتيّة والطّاقة والتّجارة في مناطق الشّمال، إلى جانب حضورٍ أمنيٍّ وعسكريٍّ غير مباشر، وتنسيقٍ مع واشنطن لتفادي الصّدام، وتفاهماتٍ مع دمشق تضمن استمرار نفوذها دون تحمّل كلفة احتلالٍ مباشر. هذه الصّيغة تجعل من تركيا فاعلًا لا يمكن تجاوزه في أيّ مقاربةٍ لمستقبل الشّمال السّوري.
إسرائيل، من جهتها، تتعامل مع السّاحة السّورية وفق مقاربةٍ يصفها بعض المحلّلين بـ”التّفكيك الذّكيّ”. الهدف المركزيّ هو منع تشكّل جيشٍ سوريٍّ موحّدٍ أو بنيةٍ عسكريّةٍ مرتبطةٍ بمحورٍ مناوئٍ قادر على تهديد حدودها الشّمالية. لذلك تركّز تل أبيب على استهداف أيٍ محاولاتٍ لتمدّد النّفوذ الإيرانيّ عسكريّاً أو لوجستيّا، وتراقب عن قربٍ أيّ تقاربٍ تركيٍّ–سوريٍّ قد يفضي إلى إعادة تماسكٍ استراتيجيٍّ للدّولة السّورية. كما تفضّل إسرائيل بقاء سوريا في حالة ضعفٍ بنيويٍّ نسبيّ، مع المحافظة في الوقت نفسه على حدٍّ أدنى من الاستقرار يمنع انهياراً شاملًا غير قابلٍ للضّبط.
بدورها، الولايات المتّحدة لم تنسحب كليّاً من المشهد السّوري، لكنّها أعادت تعريف أهدافها وأدواتها. الحضور الأميركيّ المحدود في الشّمال الشّرقي يهدف إلى منع عودة تنظيماتٍ متطرّفة، والحدّ من نفوذ إيران، وموازنة الدّور التّركيّ، مع الإبقاء على الملفّ السّوري في حالة “إدارة أزمة” لا ضمن تسويةٍ نهائيّةٍ مكتملة. تستخدم واشنطن دعمها لتنظيم “قسد” والملفّ الإنسانيّ والعقوبات كأدوات تأثير ٍعلى دمشق وعلى الأطراف الإقليميّة الأخرى، وتطرح في المقابل فكرة “استقرارٍ مشروطٍ” يرتبط بضماناتٍ أمنيّةٍ لإسرائيل وبتحديد أدوار روسيا والصّين في مرحلة ما بعد الحرب، فضلاً عن أن سوريا ستكون جزءاً من رؤية دونالد ترامب الإستثمارية (معادن، نفط، زراعة إلخ..
يتوقّف شكل الدّولة السّورية في السّنوات المقبلة على عاملين رئيسيين: قدرة الحكومة الانتقاليّة على بناء مؤسّساتٍ أمنيّةٍ وعسكريّةٍ موحَّدةٍ تتجاوز الانقسامات المناطقيّة والفصائليّة، ونجاحها في صياغة ترتيباتٍ سياسيّةٍ ودستوريّةٍ تمنح الأكراد والدّروز وسكّان الشّمال والشّرق شعوراً واضحاً بالشّراكة في السّلطة والموارد، ضمن إطار دولةٍ واحدةٍ متعدّدة المراكز والدّوائر.. ويبقى السؤال الكبير: هل هناك قرار دولي بالحفاظ على سوريا دولة مركزية موحدة ومستقرة أم لا بد من الذهاب نحو فيدرالية تفتح الباب أمام تقسيم سوريا؟
بالمقابل، تعيد روسيا، التي دخلت سوريا عسكريًا عام 2015 لدعم النّظام السّابق، تموضعها بعد تغيّر المعطيات الدّاخليّة في دمشق وانشغالها بالحرب في أوكرانيا. حافظت موسكو على وجودِ عسكريٍّ في مواقع استراتيجيّة مثل حميميم وطرطوس، لكنّها خفّضت مستوى انخراطها المباشر في تفاصيل الحقل السّوريّ، معتمدةً بدرجةٍ أكبر على شركاء محلّيّين ومرتزقة لتقليل الكلفة. تركّز روسيا على تثبيت مكاسبها في مجالات الطّاقة والموانئ، وعلى التّنسيق الميدانيّ مع واشنطن وتل أبيب لتجنّب الاحتكاك، ساعيةً إلى حماية نفوذها بأقل انخراطٍ ممكنٍ في صراعاتٍ جديدة.
وفي هذا السّياق، تلقت إيران ضربة كبيرة بعد سقوط حليفها الأساسيّ في دمشق ولم يقتصر الأمر على تراجع نفوذها في الساحة السورية، بل قطع حبل الصرة بينها وبين حليفها اللبناني حزب الله من خلال “الرئة السورية”. الضّغوط الاقتصاديّة والعقوبات الدّوليّة، إلى جانب المنافسة التّركيّة–الرّوسيّة في سوريا والعراق، حدّت وتحد من قدرة إيران على التّأثير المباشر. مع ذلك، ما زالت طهران حاضرةً عبر شبكاتٍ اقتصاديّةٍ وعلاقاتٍ مع فصائل محلّيّة، لكنّها انتقلت من موقع الطّرف المقرّر إلى موقع الفاعل الثّانويّ ضمن مشهدٍ أكثر تعدّديّة وتعقيداً.
وعلى المستوى الدّاخلي، تمثّل قوات سوريا الدّيموقراطيّة (قسد) في الشّمال الشّرقيّ أحد أكثر عناصر المشهد تعقيداً. نشأت “قسد” بدعمٍ أميركيٍّ لمواجهة تنظيم “داعش”، وتطوّرت إلى كيانٍ ذي إدارةٍ ذاتيّةٍ يسيطر على منطقةٍ غنيّةْ بالموارد. اليوم، تجد هذه القوّة نفسها بين ضغوطٍ متعارضة: واشنطن تنظر إليها كأداة نفوذ؛ أنقرة تعتبرها تهديداً أمنيّاً؛ دمشق تراها عائقًاً أمام استعادة وحدة السلطة. النتيجة حتى الآن هي وضعٌ انتقاليٌّ غير محسوم، لا استقلال رسميّاً، ولا عودة كاملة لسلطة الحكومة المركزيّة، بل إدارةٌ ذاتيّةٌ موسَّعةٌ محكومةٌ بتفاهماتٍ أميركيّةٍ تركيّةٍ سوريّةٍ غير مستقرّة.
أمّا في الجنوب، فيُشكّل الدّروز حالةً خاصّة. يسعى الفاعلون المحلّيّون هناك إلى تثبيت موقعهم كقوةٍ محلّيّةٍ ذات وزن، تحافظ على قدرٍ من الاستقلاليّة عن المحاور الإقليميّة، مستفيدين من موقعٍ جغرافيٍّ حسّاس بين دمشق والجولان المحتل. الحكومة الانتقاليّة تعمل على استيعاب هذه المنطقة سياسيّا، بينما تراقب إسرائيل تطوّراتها عن كثب، مفضّلةً نموذجًا من “الاستقرار المحكوم” الذي يمنع تحوّل الجنوب السوري إلى نقطة نفوذٍ حصريّةٍ لأيّ طرف، سواءٌ دمشق أو طهران أو غيرهما.
وانطلاقًا من هذه المعطيات، يمكن رسم ملامح أوّليّةٍ لمستقبل سوريا في ظل هذا التّوازن المعقّد. الاحتمال الأعلى في المدى المنظور هو قيام “دولةٍ مقيّدة السّيادة”، حكومةٌ مركزيّةٌ معترفٌ بها دوليّا، تمنحها شرعيّة تمثيل البلاد، لكنّها تخضع لخطوط حُمر ترسمها قوى خارجيّة، وتدير واقعاً داخليّاً يقوم على لا مركزيّةٍ واسعةٍ تحت الأمر الواقع في الشّمال والشّرق والجنوب. السيناريو الآخر هو ترسّخ “فيدراليّةٍ غير معلنة”، بحيث تتحوّل البنى المحليّة في مناطق مثل الشّمال المرتبط بتركيا، والشّمال الشّرقي تحت نفوذ “قسد”، والجنوب الدّرزيّ، إلى كياناتٍ شبه مستقلّةٍ مرتبطةٍ اسميّاً بالدّولة وفعليّاً بشبكات نفوذٍ خارجيّة.
غير أنّ إمكانيّة التوصل إلى تسويةٍ إقليميّة أوسع تشمل تفاهماتٍ تركيّةً سوريّةً أميركيّةً روسيّة، وضماناتٍ لإسرائيل، وإطلاق عمليّة إعادة إعمارٍ واسعةٍ كلها مشروطةٌ بتحولاتٍ أوسع في البيئتين الدّوليّة والإقليميّة. في جميع الأحوال، سيتوقّف شكل الدّولة السّورية في السّنوات المقبلة على عاملين رئيسيين: قدرة الحكومة الانتقاليّة على بناء مؤسّساتٍ أمنيّةٍ وعسكريّةٍ موحَّدةٍ تتجاوز الانقسامات المناطقيّة والفصائليّة، ونجاحها في صياغة ترتيباتٍ سياسيّةٍ ودستوريّةٍ تمنح الأكراد والدّروز وسكّان الشّمال والشّرق شعوراً واضحاً بالشّراكة في السّلطة والموارد، ضمن إطار دولةٍ واحدةٍ متعدّدة المراكز والدّوائر.. ويبقى السؤال الكبير: هل هناك قرار دولي بالحفاظ على سوريا دولة مركزية موحدة ومستقرة أم لا بد من الذهاب نحو فيدرالية تفتح الباب أمام تقسيم سوريا؟
