انفصلت عُرى العملتين السوريّة واللبنانيّة فعليّاً بعيد استقلال البلدين، لكنّ التعاملات النقديّة لم تنقطع بينهما في أيّ يوم. ففي فترة التأميمات السوريّة، تمّ صرف نقود سوريّة إلى الليرة اللبنانيّة أو إلى العملات الصعبة كي تتموضع في المصارف اللبنانيّة أو تستثمر في عقارات وغيرها. ولم يصدر قانون السرية المصرفية اللبناني حينها، بل قبل تلك الفترة في عام 1956 إبّان العدوان الثلاثي على مصر وتأميم الأصول الفرنسيّة والبريطانيّة في سوريا، ومنها “مصرف سوريا ولبنان” التاريخيّ.
في الفترات اللاحقة ومع تحوّل سوريا إلى اقتصاد “رأسماليّة دولة”، دُعيَ “اشتراكيّاً”، استمرّ صرف النقود السوريّة في لبنان خاصّة لحاجات استيراد القطاع الخاص السوري. إذ تعوّد هذا القطاع الخاص على التهرّب الضريبي وكان يُقلّص من مبلغ الاستيراد الرسمي ويُكمِل مستوجبات الدفع للمورّدين بتحويلات من لبنان. وقد استمرّت هذه الممارسات بوتائر مختلفة منذ الستينيات، حتّى أثناء الحرب الأهليّة اللبنانيّة. لكنّها ازدادت بشكلٍ كبير بُعيدَ انطلاق الاضطرابات في سوريا عام 2011 ومع الإجراءات الأحاديّة الجانب (العقوبات) التي فرضتها الولايات المتحدة ومعها الاتحاد الأوروبي، خاصّة على المصرف المركزي السوري. فأضحى جزءٌ كبيرٌ من الاستيراد السوري يستنِد على الاعتمادات والتحويلات من المصارف اللبنانيّة. هذا عدا عن بيع كثيرٍ من أبناء الطبقة الوسطى السوريّة لأصولهم في سوريا، بدافع فقدان الأمل في مستقبلها، ليضعوا أموالهم أيضاً في لبنان.
أين الليرات السورية؟
بالطبع هناك سجالات واسعة حول حصّة ودائع السوريين التي ضاعت مع ودائع اللبنانيين من جرّاء الانهيار المالي. لكنّ السؤال الذي لا يتمّ طرحه في كلّ هذا هو ما مصير الليرات السوريّة التي كانت تأتي إلى لبنان، وتُحوّل إلى الليرة اللبنانيّة أو إلى العملات الصعبة عند صرّافي بلدة شتورة البقاعيّة أو غيرها؟ هذا خاصّةً أنّ مصرف لبنان لا يتعامل رسميّاً مع الليرة السوريّة.
بالطبع كان العمّال السوريّون في لبنان يقومون بتحويل أجورهم الزهيدة لإعالة أسرهم في سوريا، حيث كان عددهم يقدّر بثلاثمئة ألف على الأقلّ. ولكنّ هذا توقّف غالباً منذ بداية الصراع السوري في 2011 بعد أن جلب العمّال السوريون عائلاتهم كلاجئين إلى لبنان وبالتالي أنفقوا أجورهم مباشرةً في هذا البلد. وكذلك كانت الطائرات في الماضي تحمل الليرات السوريّة إلى دول الخليج لخدمة العاملين السوريين هناك لصرفها لدى زيارة الاصطياف في بلدهم. هذا أيضاً تقلّص كثيراً منذ انطلاق الصراع. إلاّ أنّ هاتين الوسيلتين كما حجم التجارة الرسميّة بين لبنان وسوريا، لا تكفي كلّها للإجابة على سؤال مصير الليرات السوريّة؟
صحيحٌ أنّ اقتصادي البلدين وماليتيّهما يختلفان كثيراً. وصحيحٌ أيضاً أنّ سياستي البلدين النقديّتين تختلفان أيضاً كثيراً. إلاّ أنّ هناك رابطاً نقديّاً غير رسميّ بين البلدين، بفعل العمالة السوريّة في لبنان والتجارة والتحويلات. وهذا الرابط النقديّ يظهر جليّاً في مراحل الأزمات.
إنهيار سعر الصرف
قبل الأزمة الحالية، كانت هناك أزمة الثمانينيات التي تسبّبت فيها أساساً “الفورة النفطيّة المضادة” التي تفاقمت عام 1985، أي انهيار أسعار النفط العالميّة وقتها إلى مستويات ما قبل “الفورتين النفطيّتين” لعامي 1973 (حرب تشرين) و1979 (الثورة الإيرانيّة). آنذاك، وفي خضم الحرب الأهليّة اللبنانيّة، انهارت العملتان السوريّة واللبنانيّة مقابل الدولار بشكلٍ متوازٍ في البداية انطلاقاً من عام 1983 (من مستويات كانت 4 إلى 6 ليرات مقابل الدولار) لتستقرّ الليرة السورية على حوالي 45 ل. س. للدولار الواحد في حين حلّق سعر صرف الدولار حتّى 2500 ل. ل.
تمّ ربط انهيار سعر صرف الليرة اللبنانيّة بتوقّف تدفّق التمويل الخارجي لفرقاء الحرب الأهليّة، ومن ثمّ بالتلاعبات المالية التي جرّت بُعيد اتفاق الطائف، كي يتمّ عام 1993 تثبيت سعر الصرف للـ26 سنة القادمة. أمّا الليرة السوريّة فقد تمّ تثبيتها نوعاً ما بحدود 45 إلى 50 ل س للدولار الواحد.
مخاطر انهيار سعر الصرف المتزامن في البلدين إلى أدنى من المستويات الحالية ما زال كبيراً. ومخاطر مزيد من تحوّل اقتصادي البلدين نحو اقتصادات غير نظاميّة، بل جُرميّة (مخدّرات، إلخ..)، كبيرة أيضاً. ما يعني ضرورة إصلاح النظام النقديّ، وليس فقط المصرفي، في كلا البلدين وإرساء تعاون نقديّ بينهما يؤسّس لمسار التعافي الاقتصادي الذي لا يُمكِن إلاّ أن يكون متوازياً ومتداخلاً
أمّا انهيار سعر صرف العملة السوريّة في الثمانينيات فكان له أسبابه الخاصّة، من جرّاء انخفاض واردات النفط وسياسات حكوميّة غير رصينة، أفلتت من يدها الرقابة الرسميّة على القطع. لقد تعدّدت أسعار الصرف الرسميّة، وسُمِحَ للمنشآت السياحيّة بالاحتفاظ بقطعها الأجنبي وتسجيل أرباحها بسعرٍ منخفض، وأُفلِتَ الاستيراد لمن يقدِر على تمويل احتياجاته من القطع دون الرجوع إلى المصرف المركزي. كلّ هذا أدّى إلى “إفلاس” الدولة السورية حينها، أي توقفها عن دفع ديونها الخارجيّة (بحجم 20 مليار دولار). أمام هذا “الإفلاس”، رفضت سوريا جدولة ديونها عبر “نادي باريس” على أساس أنّ أغلبها كانت ديوناً عسكريّة للاتحاد السوفياتي. ولم يتمّ التفاوض على جدولة الديون إلّا ثنائيّاً. وكان البنك الدولي من أوّل من قّبِلَ بهذا التفاوض الثنائي. إلاّ أنّ حلّ مشكلة الديون الخارجيّة السوريّة استغرق عشر سنوات ونيّف، طَبَّقت خلالها سوريا بشكلٍ أحاديّ، أي دون اتفاقٍ مع صندوق النقد الدولي، سياسة “إصلاح هيكليّ”، أي تقشّف كبير في الإنفاق الحكومي.
معالجات مختلفة
هكذا خرجت سوريا في بداية الألفيّة الثالثة بفضل صرامة السياسات الماليّة، لكن أيضاً بفضل الانفتاح على القطاع الخاص “لاستبدال الاستيراد” ودعم الإنتاج الزراعي، كما وأيضاً اكتشاف موارد نفطيّة جديدة، بحيث تخلّصت معه من أغلب ديونها الخارجيّة ومع موجودات صافية في المصرف المركزي تفوق 18 مليار دولار (عدا الذهب). في حين بدأت بالتزامن أوّل أزمة ماليّة لبنانيّة نتيجة الإنفاق الحكومي غير المنضبِط وانخفاض تدفّقات العملات الصعبة. ولم تتمّ “معالجتها” إلاّ عبر مؤتمري باريس 1 و2 لتؤجّل استحقاق “الإصلاح الاقتصادي والمالي” لعقدين من الزمن.
اللافت للإنتباه في هذه الأزمة الأولى، هو توازي انهيار أسعار الصرف في بداياته بين البلدين، ما يعني أنّ كميّات العملات الصعبة المتوفّرة في “السوق” هي.. واحدة. واللافت للإنتباه أيضاً هو اختلاف كيفيّة معالجة كلا البلدين لأزمتيهما.
قطيعة ولكن سياسات واحدة
فترة 2000-2011 كانت حافلة بالاضطرابات، من غزو العراق واغتيال رفيق الحريري ورفاقه وخروج الجيش السوري من لبنان إلى العدوان الإسرائيلي على لبنان. إلاّ أنّ البلدين لم يستفِدا من الفرص المتاحة، خاصّة في أواخر الفترة. تدفّقت الأموال على لبنان إبّان الأزمة المالية العالميّة في 2008، ونشط الاقتصاد السوري بشكلٍ لافت للإنتباه وانفتح على الجوار والعالم. إلاّ أنّ السياسات العامّة تشابهت في هذه الفترة بين البلدين، برغم القطيعة الظاهريّة بينهما. إذ انتقلت سوريا من “رأسماليّة الدولة” إلى “رأسماليّة الأقرباء والأصدقاء” الشبيهة بالنموذج اللبنانيّ. وثبّت مصرف سوريا المركزي أسعار الصرف، وتمّت “دولرة” الاقتصاد، بحيث تمّ تقدير أنّ كتلة النقد بالعملة الصعبة المتداولة في البلاد يوازي تلك بالليرة السوريّة، برغم عدم السماح بالدفع بها صراحةً، على عكس لبنان.
ثمّ تفجّرت أحداث سوريا 2011، علماً أنّه كانت لدى الدولة السوريّة الوسائل السياسيّة والمالية لتدارك تداعياتها. ومع تطوّر الصراع والعقوبات الأحادية الجانب التي فرضتها الولايات المتحدة ومعها الاتحاد الأوروبي، خاصّة على المصرف المركزي، انهارت أسعار صرف الليرة السورية بشكلٍ كبير، من حوالى 47 ل س للدولار حتّى 500 ل س في بداية 2016. واللافت للإنتباه هو أنّ لبنان شهد في الفترة ذاتها بداية تناقص مجموع موجوداته بالعملة الصعبة (مصرف لبنان والمصارف) وزوال آثار تدفقات 2008. وهذا بالرغم من الهندسات الماليّة لمصرف لبنان. وذلك مع أنّ جزءاً من تمويل الصراع السوري قد جرى عبر لبنان وبرغم تدفّق المساعدات على لبنان لاحتواء موجة اللجوء من سوريا. إلاّ أنّ لبنان أضحى أيضاً حينها الوسيلة الأساسيّة لتمويل الواردات السوريّة، برغم انخفاضها الملحوظ.
فصل الإنهيار!
استقرّت أسعار صرف الليرة السوريّة نوعاً ما منذ التدخّل الروسي في سوريا في نهاية العام 2015 وحتّى تفجّر الأزمة المالية اللبنانيّة في 2019. هنا عاد سعرا صرف العملتين للانهيار من جديد وبالتوازي، كما في الثمانينيات. واستمرّ انهيار الليرة السوريّة حتّى حوالى نيسان (أبريل) 2021 حيث تمّ إصدار مراسيم تعاقِب بشدّة حيازة الدولار الأمريكي والعملات الصعبة. بالتوازي، دقّقت وزارتا الاقتصاد والماليّة بصرامة في مصدر البضاعات الموجودة في الأسواق وأسعارها. وتوقّفت الدولة السورية عن شراء المنتجات النفطيّة، تهريباً من مناطق سيطرة “قوّات سوريا الديموقراطيّة” (قسد) وغيرها ورفعت الدعم عن كثيرٍ من المواد.
هكذا قلّصت الدولة السورية مستويات الاستهلاك المحليّ والاستيراد بغية فصل تطوّرات أسعار صرف الليرة السورية عن أسعار صرف الليرة اللبنانيّة التي تابعت انهيارها. وفعلاً حدث ذلك ولكن على حساب تدنّي مستويات المعيشة في مناطق سيطرة الدولة إلى حدودٍ أدنى بكثير من تلك في فترات احتدام الصراع المسلّح وكذلك انتشار الفقر بشكلٍ كبير. كما أدّت التطوّرات إلى زيادة كبيرة في انعدام المساواة بين “الأقرباء والأصدقاء” وبين عامّة المواطنين.
لم تؤدِّ الإجراءات الرسميّة السوريّة وفقدان ودائع القطاع الخاص السوري في المصارف اللبنانيّة، كما للبنانيين، إلى تضاؤل الواردات الرسميّة وغير الرسميّة من لبنان نحو سوريا فحسب، بل أيضاً إلى تضاؤل الواردات من تركيا عبر مناطق الشمال الغربي التي تسيطر عليها تهريباً نحو مناطق سيطرة الدولة. إذ أنّ حجم الصادرات التركيّة إلى سوريا كان قد عاد منذ 2016 إلى مستويات ما قبل الصراع.
وفي حين تُثار سجالات كثيرة حول تهريب المواد المدعومة من لبنان إلى سوريا، ويتمّ تضخيم حجمها وأثرها في ظلّ الفاقة التي يعيشها المواطنون في مناطق سيطرة الدولة، لا يتمّ كثيراً السؤال عن العملة التي تُستَخدم لدفع قيمة هذه المواد. ما يتمّ تهريبه من لبنان إلى سوريا يُدفَع بالعملة الصعبة أو بالليرات السوريّة لقاء بضائع تُهرّب بالمقابل من سوريا إلى لبنان. وكذلك هو الأمر بين شمال غرب سوريا ومناطق سيطرة الدولة.
إصلاح النظام النقدي
الخروج من أزمتي لبنان وسوريا على الصعيد النقديّ ليس سهلاً. إذ أنّ الأزمة الماليّة اللبنانيّة قد أدّت إلى تحويل الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد نقديّ (cash)، ولن تعود المصارف تلعب دوراً “اقتصاديّاً” فيه لسنوات طويلة، بسبب فقدان الثقة بها. هذا حتّى لو تمّ إقرار وتنفيذ برنامج إصلاحي. واللافت للإنتباه أنّ النقد المتداول (cash) بالقطع في “السوق” اللبنانيّ يقدّر بين 7 و10 مليار دولار، أي بين 4 أو 6 أضعاف قيمة النقد المتداول بالليرة اللبنانيّة. في حين لا يرصُد مصرف لبنان (ولا ينشُر) فعليّاً حجم هذا القطع المتداول خارج المصارف وتطوّراته، وهو يفقُد رويداً رويداً موجوداته الخاصّة من القطع الأجنبيّ. كذلك لا يرصُد مصرف لبنان (ولا ينشُر) التداولات بالليرة السوريّة. أمّا في سوريا، فلا يُمكِن الاستمرار بسياسات التقشّف القاسية التي تمّ فرضها إلى ما لا نهاية.
بالتالي مخاطر انهيار سعر الصرف المتزامن في البلدين إلى أدنى من المستويات الحالية ما زال كبيراً. ومخاطر مزيد من تحوّل اقتصادي البلدين نحو اقتصادات غير نظاميّة، بل جُرميّة (مخدّرات، إلخ..)، كبيرة أيضاً. ما يعني ضرورة إصلاح النظام النقديّ، وليس فقط المصرفي، في كلا البلدين وإرساء تعاون نقديّ بينهما يؤسّس لمسار التعافي الاقتصادي الذي لا يُمكِن إلاّ أن يكون متوازياً ومتداخلاً. هذا إذا ما كان لهذين البلدين إدارتان تهتمّان بمستقبل شعبيهما.