سأبدأ أوّلاً بنبذة سريعة عن هذه الرحلة. في يوم الخميس 24 شباط/فبراير من سنة 1183 ميلادية، أبحر ابن جبير مع جمع من الحجّاج الأندلسيّين من مدينة سبتة على متن مركب جنوي (من مدينة جنوى Genoa) متوجّهاً إلى ميناء الإسكندريّة، واستغرقت الرحلة في البحر شهراً كاملاً (30 يوماً). بعدها أخذ الطريق البرّي عبر الصعيد المصري إلى عيذاب، حيث قطع منها البحر الأحمر إلى مدينة جدّة، وأكمل طريقه من هناك برّاً إلى مكّة التي وصلها “في الساعة الأولى من يوم الخميس” 4 آب/أغسطس. وللتوضيح: “الساعة الأولى من يوم الخميس” تعني في تقويمنا المعاصر مساء الأربعاء، أي قبل انتشار التقويم الغربي الحديث، كانت العادة أنّ يُبدَأ بحساب اليوم عند غروب الشمس، وليس عند منتصف الليل كما هو الآن.
بعد أدائه مناسك العمرة ثمّ الحجّ، قرّر ابن جبير أن يمرّ في رحلة عودته إلى الأندلس عبر الحجاز، العراق، الجزيرة، بلاد الشام، وأخيراً فلسطين حيث استقلّ مركبّاً من مدينة عكّا في 18 تشرين الأوّل/أكتوبر 1184 متوجّهاً ناحية الغرب. أخذته رحلة العودة في البحر ثلاثة أشهر (توقّف بعض الوقت في مدن صقلّية)، ووصل أخيراً إلى ميناء مدينة قرطاجة (Cartagena) في 19 كانون الثاني/يناير 1185.
ما أورده ابن جبير عن معاملة المسلمين لبعضهم البعض فيه الكثير من الفائدة لمؤرّخي فترة الحروب الصليبيّة تحديداً والتاريخ الإسلامي عامّةً. نبدأ بوصف ما حدث له ولجمع من الحجّاج والمسافرين عند وصولهم إلى الإسكندريّة:
“وأُمِر المسلمون بتنزيل أسبابهم وما فَضَل من ازودتهم وعلى ساحل البحر أعوان يتوكّلون بهم وبحمل جميع ما أنزلوه إلى الديوان. فاستدعوا واحداً واحداً واحضر ما لكل واحد من الأسباب والديوان قد غص بالزحام. فوقع التفتيش لجميع الأسباب، ما دقّ منها وما جلّ، واختلط بعضها ببعض وأدخلت الايدي إلى اوساطهم بحثاً عمّا عسى أن يكون فيها، ثم استُحْلِفوا بعد ذلك هل عندهم غير ما وجدوا لهم أم لا. وفي أثناء ذلك ذهب كثير من أسباب الناس لاختلاط الأيدي وتكاثر الزحام. ثم اطلقوا بعد موقف من الذلّ والخزي عظيم. نسأل الله أن يعظّم الأجر بذلك. وهذه لا محالة من الأمور الملبس فيها على السلطان الكبير المعروف بصلاح الدين، ولو علم بذلك على ما يؤثر عنه من العدل وايثار الرفق لأزال ذلك”.
خلاصة هذا المقطع أنّ المشرفين على ميناء الإسكندريّة أساءوا معاملة الحجّاج وفتّشوهم بشكل مهين (بما في ذلك الملابس التي ارتدوها) ونهبوا بعض متاعهم، وأنّه لو علم السلطان صلاح الدين الأيّوبي بذلك، لما رضي به ولأمر بوقفه.
يتردّد هذا النوع من الكلام عن سوء معاملة الحجّاج في كثير من المحطّات التي مرّ بها ابن جبير. يقول مثلاً عمّا شهده في مدينة عيذاب:
“ولأهل عيذاب في الحجّاج أحكام الطواغيت وذلك أنّهم يشحنون بهم الجلاب حتى يجلس بعضهم على بعض وتعود بهم كأنّهم أقفاص الدجاج المملوءة يحمل أهلها على ذلك الحرص والرغبة في الكراء حتى يستوفى صاحب الجلبة منهم ثمنها في طريق.. فأحق بلاد الله بحسبة يكون السيف درتها هذه البلدة”.
حبّ الربح (وتحصيل ثمن المركب من رحلة واحدة) قاد أهل عيذاب إلى حشد الحجّاج كالدجاج في مراكبهم، من دون أي اعتبار إلى سلامتهم.
وهناك وصف مماثل لما حصل له أثناء عبوره من جدّة إلى مكّة:
“وأكثر أهل هذه الجهات الحجازية وسواها فرق وشيع لا دين لهم قد تفرقّوا على مذاهب شتّى وهم يعتقدون في الحاج ما لا يعتقد في أهل الذمّة، قد صيّروهم من أعظم غلّاتهم التي يستغلّونها: ينتهبونهم انتهاباً ويسببون لاستجلاب ما بأيديهم استجلاباً. فالحاجّ معهم لا يزال في غرامة ومؤنة إلى أن ييسّر الله رجوعه إلى وطنه.. واتفق لنا من ذلك أن وصلنا جدّة فأُمْسِكنا بها خلال ما خوطب مكثر (بن عيسى) الأمير المذكور (أمير مكّة). فورد أمره بأن يضمن الحاجّ بعضهم بعضاً ويدخلوا إلى حرم الله فإن ورد المال والطعام اللذان برسمه من قبل صلاح الدين، وإلاّ فهو لا يترك ماله قِبَل الحاجّ. هذا لفظه كأن حرم الله ميراث بيده، محلّل له اكتراؤه من الحاجّ”.
“رحلة ابن جبير” تُذكّرنا بأنّ معاملة المسلمين لبعضهم البعض عبر التاريح الإسلامي شابها ويشوبها الكثير من العورات والمصائب والسلوكيات الخاطئة، فالمنفعة كانت وما تزال حتى يومنا هذا تطغى على المبادىء والقيم والمُسلّمات، إلى الحد الذي لم تعد تنفع فيه الإستشهادات بنصوص القرآن أو الأحاديث أو الأنبياء
القضية هنا هي ليست فقط سوء معاملة المسلمين لبعضهم البعض ونهبهم لبعضهم البعض من الإسكندية إلى مكة. كلام ابن جبير هو عن مسلمين يسافرون بقصد أداء فريضة دينيّة مهمّة مثل الحجّ، فيجدون في أماكن كثيرة الذلّ والهوان والسلب بوسائل شتّى. ومن دون شكّ، هذا النوع من المعاملة تكرر ذكره في فترات مختلفة من التاريخ الإسلامي (قبل زمن ابن جبير وبعده، وبقي إلى أوائل القرن العشرين). لكن شيوع هذا النوع من التعامل في فترة “الحروب الصليبيّة” يشي بأن العقل الربحي يتقدم على كل حسّ وحدوي أو تضامن إسلامي، ويتّفق هذا مع الحقائق التاريخيّة الكثيرة (بعكس الخرافات الرائجة أو الشعارات الفارغة). وإذا ما وجد هذا الحس أو المنطق، فلا يتعدى الأطر الضيّقة جدّاً.
من هنا، يستوقفنا ما يقوله ابن جبير عن النقاش بين فقهاء الأندلس في ذلك الوقت حول فريضة الحجّ وضرورة إسقاطها عن أهل الأندلس لما يجدونه من الذلّ، فيقول:
“فمن يعتقد من فقهاء أهل الأندلس إسقاط هذه الفريضة عنهم فاعتقاده صحيح لهذا السبب وبما يصنع بالحاجّ مما لا يرتضيه الله عز وجل. فراكب هذا السبيل راكب خطر ومعتسف غرر. والله قد أوجد الرخصة فيه على غير هذه الحال فكيف وبيت الله الآن بأيدي أقوام قد اتخذوه معيشة حرام وجعلوه سبباً إلى استلاب الأموال واستحقاقها من غير حل ومصادرة الحجاج عليها وضرب الذلة والمسكنة الدنية عليهم تلافاها الله عن قريب بتطيهر يرفع هذه البدع المجحفة عن المسلمين بسيوف الموحّدين أنصار الدين وحزب الله أولي الحق والصدق والذابين عن حرم الله عز وجل والغائرون على محارمه والجادين في اعلاء كلمته واظهار دعوته ونصر ملّته، إنّه على ما يشاء قدير وهو نعم المولى ونعم النصير”.
لا ندري ما إذا كان صحيحاً أنّ فقهاء الأندلس ناقشوا ضرورة إلغاء فريضة الحجّ أو إسقاطها عن أهل الأندلس للصعاب والمهانات التي واجهوها عند تأديتهم لها. لكن الأكيد أنّ كلام ابن جير يشير إلى اعتقادهم أنّهم الوحيدون الذي واجهوا هكذا صعاب وإهانات. من هنا تلفتنا أمنيته من رؤساء دولة الموحّدين لكي يعملوا على إنهاء هذه المعاناة بالقضاء على من يُسبّبها.
الكلام عن هذه الأمنية يقودنا إلى جانب آخر في ما نجده في “رحلة ابن جبير” عن معاملة المسلمين بعضهم البعض. هنا أعني تحديداً كلام ابن جبير الجارح وقدحه المفرط في كلّ من يجده مخالفاً لمفهومه عن الإسلام. مثل كلامه عن أهل الحجاز:
“فاحقّ بلاد الله بأن يطهّرها السيف ويغسل أرجاسها وأدناسها بالدماء المسفوكة في سبيل الله هذه البلاد الحجازيّة”.
أو كلامه العنصري عن أهل عيذاب:
“وهذه الفرقة من السودان المذكورين فرقة أضل من الأنعام سبيلاً وأقل عقولاً، لا دين لهم سوى كلمة التوحيد التي ينطقون بها إظهاراً للإسلام ووراء ذلك من مذاهبهم الفاسدة وسيرهم ما لا يرضى ولا يحلّ. ورجالهم ونساؤهم يتصرّفون عراة إلا خرقاً يسترون بها عوراتهم وأكثرهم لا يستترون. وبالجملة فهم أمّة لا خلاق لهم ولا جناح على لاعنهم”.
يمكن أن نقول إنّ المهانة التي واجهها ابن جبير قادته إلى كتابة هذا القدح بحقّ مسلمين قاموا بها. لكن هذا ليس صحيحاً، على الأقلّ، لا نجده يقول الشيء نفسه عن دولة صلاح الدين التي بناها على كثير من الخيانة والنهب. فالمعاملة التي شهدها ابن جبير عند وصوله إلى الإسكندريّة، كما ذكرنا في أوّل هذه المقالة، لم يلم عليها السلطان أو دولة السلطان، بل أفراداً تصرّفوا برأيه خارج علمه. بينما نراه يذهب بالحديث عن الآخرين، حد لعنتهم عن بكرة أبيهم وأمّهم. إذاً، هو يكيل بمكيالين، مُتأرجحاً بين الاعتبارات السياسيّة والتطرّف الديني.
في الخلاصة، “رحلة ابن جبير” تُذكّرنا بأنّ معاملة المسلمين لبعضهم البعض عبر التاريح الإسلامي شابها ويشوبها الكثير من العورات والمصائب والسلوكيات الخاطئة، فالمنفعة كانت وما تزال حتى يومنا هذا تطغى على المبادىء والقيم والمُسلّمات، إلى الحد الذي لم تعد تنفع فيه الإستشهادات بنصوص القرآن أو الأحاديث أو الأنبياء.