رفيق الحريري الأول.. نجيب ميقاتي الأخير  
A handout picture released by the Lebanese photo agency Dalati and Nohra shows former prime minister Najib Mikati (L) speaking with MP and opposition leader General Michel Aoun during an "iftar" meal at the presidential palace in Baabda on September 9, 2008. Lebanon's political leaders will begin a national dialogue on September 16 in a bid to resolve their political differences, President Michel Sleiman announced today at the meal he hosted for political and religious leaders to break the day's Ramadan fast. AFP PHOTO/HO == RESTRICTED TO EDITORIAL USE ==

عندما وقف  أعضاء نادي رؤساء الحكومات السابقين في بيت الوسط مُعلنين دعمهم لنجيب ميقاتي مرشحاً لرئاسة الحكومة، كان المشهد سوريالياً بإمتياز ويستحق وقفة، ولو متأخرة، لما يحمله في طياته من دلالات آنية ومستقبلية.

أثناء تولي فؤاد السنيورة تلاوة بيان ترشيح النائب الوسطي نجيب ميقاتي لرئاسة الحكومة، بدا التجهم واضحاً على محيا الأول. تجهم لم تخفه نظاراته الطبية ولا تركيز نظره باستمرار على الأوراق الماثلة أمامه، فيما وقف تمام سلام الى يساره وفوق رأسه اضاءة قوية اخفت معالم وجهه لتبقي جسده في الصورة حتى منتصف تلاوة البيان عندما استدرك احد الصحافيين الامر وأطفأ الإضاءة لتظهر معالم وجه بلا تعبيرات سوى حضوره الذي بدا لزوم ما لا يلزم، اما سعد الحريري، فقد وقف خلف السنيورة مكتوف اليدين، متجهم الوجه كمن خرج لتوه من صدمة أو فاجعة كبيرة وباتت نظراته هائمة في اللامكان واللازمان. أما ميقاتي فقد وقف الى يمين السنيورة وهو يتابع بحماسة تلاوة الأخير بيان الترشيح ملاحقاً بعيونه الأسطر والكلمات، وكأنه يقرأها في سره أو يحفظها عن ظهر قلب، مستعجلاً الوصول الى الخاتمة التي تعلن تكليفه.. من بيت الوسط وبلسان السنيورة أبرز الصقور في فريقه السياسي!

في هذا المشهد، كان من الواضح ان تكليف ميقاتي يحمل قوة دفع خفية مع آليات ازالة الغام ليس من السهل مواجهتها من صقور الداخل. جاءت الاستشارات النيابية الملزمة التي اجراها رئيس الجمهورية ميشال عون وغير الملزمة التي أجراها ميقاتي بالسرعة نفسها، فما سر هذه القوة الدافعة للتكليف؟

تعود القصة الى الثالث عشر من ابريل/نيسان الماضي عندما قام وكيل وزارة الخارجية الامريكية ديفيد هيل بآخر زيارة له الى لبنان، وارتأى ان يتناول طعام الافطار الرمضاني على مائدة ميقاتي وحده من بين كل السياسيين اللبنانيين الذين تربطهم علاقات قديمة بالديبلوماسي الأمريكي تعود لاكثر من ربع قرن من الزمن، عندما كان الاخير مسؤولاً سياسياً في السفارة الامريكية في لبنان قبل ان يتولى منصباً ديبلوماسياً أرفع (رتبة السفير). خلال ذلك الافطار، سأل هيل مُضيفه عن أسباب تمنعه عن تولي رئاسة الحكومة بعد إستقالة حسان دياب وقبل تكليف مصطفى أديب. ما لم يقله ميقاتي لضيفه أنه كان راغباً بعد إعتذار مصطفى أديب بتولي “حكومة المهمة”، لا سيما وأنه يملك رؤية إقتصادية تخص قطاعات محددة أبرزها الكهرباء، لكن الحريري قطع الطريق عليه عندما أبدى حماسة لتولي رئاسة الحكومة.

واللافت للإنتباه أن حماسة ديفيد هيل ومثله وربما أكثر برنار إيمييه (سفير فرنسا الأسبق في لبنان) لا يوازيها بأهميتها إلا اعلان رئيس “كتلة الوفاء للمقاومة” (حزب الله) محمد رعد عن تسمية ميقاتي، في خطوة تحمل في طياتها رسائل متعددة الاتجاهات، أولها إلى حليف حزب الله “التيار الوطني الحر” ورئيسه النائب جبران باسيل الذي كان قد سرّب إلى الاعلام خبراً عن رغبة تكتله النيابي بترشيح الدبلوماسي السابق نواف سلام، لكنه عاد واحجم عن ذلك الامر بعد موقف “كتلة الوفاء”، وربما خشية كسر الجرة مع حزب الله بعد ان كسر جراره مع كل الاطراف السياسية في البلاد من “القوات اللبنانية” و “الكتائب” و”المردة” مسيحياً، الى “تيار المستقبل” و”حركة امل” اسلامياً، فيما بقيت الجرة الوحيدة غير المكسورة ولكنها مترنحة هي تلك التي تربطه بـ”الحزب التقدمي الاشتراكي” درزياً.

اما الرسالة الثانية فكانت موجهة الى عون (ضمناً باسيل) ومفادها أن الأزمة الوطنية تحتاج إلى سلطة تنفيذية فاعلة في مواجهة حالة الهريان والانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي والصحي ولا يجوز تثبيت أعراف مثل تحويل مجلس الدفاع الأعلى إلى مجلس رئاسي شبيه بزمن حكومات ما قبل إتفاق الطائف.

والرسالة الثالثة الى باقي المكونات السياسية بالدعوة إلى تسهيل مهمة الرئيس المكلف والتعالي عن كل المطالب الخاصة.

السعودية آثرت حتى الان الا تستعجل رفع البطاقة الحمراء بوجه الرئيس المكلف، وإكتفت بإزالة مؤقتة لـ”الفيتو” الذي كانت تفرضه على الحريري بانتظار ان ترى التشكيلة الحكومية التي سيتقدم بها ميقاتي والبرنامج الذي سيطرحه لتبني على الشيء مقتضاه

خارجياً، تتماهى رسالة “كتلة الوفاء” مع حالة ربط النزاع إقليمياً في ضوء ما يجري من حراك دولي ـ إقليمي على جبهات عدة من فيينا (التفاوض النووي) إلى سلطنة عُمان وقبلها بغداد (الحوار السعودي الإيراني)، وصولاً إلى قرار المملكة العربية السعودية إرسال ممثل إلى طهران للمشاركة في حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي في الخامس من آب/ أغسطس المقبل.

السؤال الذي يطرح نفسه ما هو الموقف السعودي من تكليف ميقاتي؟

للاجابة على هذا السؤال لا بد من التوقف امام موقف حزب “القوات اللبنانية” الذي آثر عدم تسمية احد لرئاسة الحكومة، وبات من المعروف ان “القوات” تجسد حقيقة موقف السعودية على المسرح اللبناني ولا يتردد أهل المملكة في مصارحة من يراجعهم بأن حزب “القوات اللبنانية” ورئيسه سمير جعجع، هو الممر الإلزامي لمن يريد طرق أبواب المملكة والحصول على دعمها، ويسري ذلك حتى على من يريد تأشيرة لأداء فريضة الحج!

بهذا المعنى، يبدو إستقبال السفير السعودي وليد البخاري للوزير الأسبق محمد الصفدي (خصم ميقاتي الطرابلسي)، نوعاً من الحرتقة السياسية وربما “خفة سياسية” من الجانبين إستوجبت إستدعاء البخاري إلى بلاده. يعني ذلك أن ليس البخاري أو الصفدي من يُعبر عن موقف الرياض بل جعجع نفسه، وبالتالي، لا بد من التوقف عند قرار “القوات” بعدم تسمية اي مرشح لرئاسة الحكومة في الوقت الذي سبق لها ان رشحت نواف سلام في مواجهة تسمية الحريري، وهذا الأمر يصب ايجاباً لمصلحة ميقاتي اذ انه يعني ان السعودية آثرت حتى الان الا تستعجل رفع البطاقة الحمراء بوجه الرئيس المكلف، وإكتفت بإزالة مؤقتة لـ”الفيتو” الذي كانت تفرضه على الحريري بانتظار ان ترى التشكيلة الحكومية التي سيتقدم بها ميقاتي والبرنامج الذي سيطرحه لتبني على الشيء مقتضاه (لوحظ أن الزميل مرسيل غانم لم يوجه أي سؤال إلى ميقاتي في ما يخص موقف السعودية).

إقرأ على موقع 180  حكومة الحريري.. بلا ثلث معطل للجميع!

وما يعزز نظرية التساهل السعودي هو ان احداً من انصار السعودية في لبنان لم يسجل اي موقف ولو اعلامي ضد ميقاتي فيما كلنا نتذكر انه عند تكليف ميقاتي عام 2011 انطلقت التظاهرات “السنية” ضده في كل معاقل السنية السياسية من صيدا جنوباً تحت هتاف “يا صيدا قومي قومي سرقوا منا الحكومة” الى بيروت التي الهبت شوارعها نيران الدواليب المشتعلة وهجوم السرايا الحكومية بقيادة أحد نواب تيار المستقبل تحت هتاف “يا شباب ويا صبايا يلا نهجم عالسرايا” الى طرابلس حيث التهبت فيها جبهات القتال على محور جبل محسن باب التبانة في اكثر من عشرين جولة قتال مرورا بالبقاعين الاوسط والغربي.

الموقف السعودي المترقب ليس امراً تفصيلياً، فالمملكة التي شكلت على مدى عمر الجمهورية اللبنانية الرافعة الاقليمية لموقع رئاسة الحكومة، الا في ما ندر ابان عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وجدت نفسها بلا سند لبناني، بدليل أنها لم تجد مكوناً سياسياً أو روحياً في البيئة السنية يساندها لحظة إعتقال سعد الحريري في المملكة في خريف العام 2017. صحيح ان هذا الواقع يشكل نقطة ضعف لـ”السنية السياسية” في لبنان ولكنه ايضاً يشكل نقطة ضعف اكبر للسعودية، فالطائفة المسلمة السنية في لبنان هي من اكبر الطوائف، وثمة من يراهن على ضرب الإعتدال التاريخي لهذه الطائفة وصولاً إلى أخذها إلى مطارح خطرة، وها هي تركيا، على سبيل المثال لا الحصر، تنتظر “على الكوع” لملء الفراغ السعودي في لبنان، وهي وان كانت لا تملك القدرات السعودية، لكن إمكانياتها ليست بسيطة وثمة محاولة تركية لإنشاء بنى تحتية للدور التركي بدءاً من شمال لبنان.

وتقول شخصية لبنانية تعمل في المملكة إن ميقاتي استثمر عشرات ملايين الدولارات في مشروع “مدينة نيوم” السعودية، فان صحت هذه المعلومة، يكون ميقاتي قد عمل بصمت وتصميم على ازالة اللبس الذي ساد علاقته مع السعودية منذ عام 2011 (تاريخ تشكيل حكومة “القمصان السود” كما اسماها فريق 14 آذار)، واعاد الامور الى مجاريها مستعيناً ليس فقط بخبرته السياسية وعلاقاته الدولية بل ايضا بقدراته المالية التي لا يستهان بها.

استناداً الى ما سبق، يشي المشهد بأن يستطيع ميقاتي تشكيل الحكومة بعد ان عملت جرافات القوى المتخاصمة اقليمياً وداخلياً على ازالة الكثير من الالغام في طريق تشكيلها، ولم يبق الا التفاصيل التي بالامكان تجاوزها، ولكن كي لا نغرق في التفاؤل، فان شيطان التفاصيل حاضرٌ دائمٌ، وعليه لن يقبل ميقاتي باطالة امد التكليف من دون التأليف، وهو لن يقع في مطب سلفه الحريري الذي استهلك تسعة اشهر ققبل أن يعتذر، فورقة الاعتذار عند ميقاتي هي ورقة ضغط وقوة بيده الآن، بعكس الحريري.

بالمقابل، اذا نجح ميقاتي في تشكيل حكومة، فهذا الأمر يعيدنا  الى العام 1992 عندما كان لبنان خارجاً للتو من حرب أهلية مدمرة استمرت خمسة عشر عاما ليتولى رئاسة الحكومة الملياردير رفيق الحريري فيطلق ورشة اعادة اعمار، بدعم دولي وعربي واسع نجم عن شهر عسل طويل بين السعودية وسوريا صاحبة النفوذ الكبير في لبنان في ذلك الحين مع وجود اكثر من ثلاثين الف من جنودها على اراضيه.

باختصار، إن كانت الامور الاقليمية تتجه الى اطفاء نيران الحرائق المشتعلة في الاقليم، ومنها ما نشهد من نيران عسكرية في اليمن وسوريا ومنها ما هي نيران اقتصادية وإجتماعية كالحال في لبنان والعراق، فان وجود المياردير نجيب ميقاتي على رأس حكومة لبنانية مُعترف بها دولياً واقليمياً يشبه الى حد كبير الوضع عام 1992، وهو امر قد يغري السعودية بقيادة ولي العهد محمد بن سلمان بتحويل ميقاتي الى النسخة رقم اثنين من رفيق الحريري بعد ان اعلنت مراراً وتكراراً أنها قررت الطلاق البائن مع الحريرية السياسية.

لا بد من ترقب مسارات فيينا وطهران والرياض بدءاً من الخامس من آب/أغسطس المقبل. على الأرجح، لن يمر الخامس من أيلول/سبتمبر المقبل إلا ويكون للبنان حكومة أو يرمي ميقاتي كرة نار الإعتذار في أحضان ميشال عون وجبران باسيل!

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  "نيويوركر" تسأل وتجيب: كيف فشلت أميركا في أفغانستان؟