الرطن بالإنكليزية.. زمن بابلي جديد

منذ بضعة عقود، يزداد إستخدام اللغة الإنكليزيّة بشكل واسع بين الناس العاديّين، وأصبحت من دون منازع لغة العالم أجمع. وجود لغة عالميّة مشتركة له حسناته من دون شكّ، ويقرّب بين الناس في أمور عديدة، ويجعل الكثير من الأشياء بمتناولهم وبسهولة. لكن ما نراه أيضاً هو أنّ الرطن المشترك بالإنكليزيّة يقود إلى حالات متزايدة من سوء التعبير وسوء الفهم والضياع. كيف؟

في الأسبوعين الفائتين، شاركت في عددٍ من المؤتمرات والمحاضرات، في ألمانيا وسويسرا، ولفت انتباهي فيها كيف أن الإنكليزيّة أصبحت اللغة الرسميّة المهيمنة على النشاط الفكري في أوروبّا. هذا مع العلم أنّ المنظّمين والمضيفين همّ فعاليات محليّة، ومعظم الحضور أيضاً. لم يكن الأمر بهذا الشيوع قبل جائحة كورونا. كان وجود المترجمين الفوريّين ظاهرة مشتركة في أغلب المؤتمرات والمحاضرات التي تُنظم على مستوى أكثر من محلي. لكن الآن، لا مترجمين ولا من يُترجمون؛ شيوع الإنكليزيّة أجبرهم على التقاعد، أو التفتيش عن كارٍ آخر.

نشاهد هذا أيضاً على مستوى الإتّحاد الأوروبّي، حيث يستخدم الأعضاء؛ من سياسيّين ومشرّعين؛ اللغة الإنكليزيّة في خطاباتهم، ونقاشاتهم، وحتى في “تغريداتهم” (وغيرها من وسائل التواصل الإجتماعي). كذلك الأمر بين الناس العاديّين، نجد الرطن بالإنكليزيّة شائعاً بينهم، بشكل أصبح معه المرء قادراً أن يُسيّر أموره كاملةً، وفي أيّ مكان، من دون الحاجة للتكلّم باللغة المحليّة.

مع ذلك، من الواضح أنّ درجة البراعة في اللغة الإنكليزيّة تختلف بشكل كبير بين مستخدميها، لكن سؤالي هو الآتي: هل استعمالنا للغة مشتركة يُساعدنا في التقدّم خطوة إلى الأمام، أم يتسبب في تراجعنا خطوة إلى الوراء، أم أنّه يُبقينا نراوح حيث نحن؟

يُستخدم الرطن لوصف جلبة الإبل عندما يكثر عددها ورعاتها… والإنكليزيّة أصبحت رطن برطن، بدأت تضيع معها المعاني ويلتبس معها الفهم، وها نحن ندخل في زمن بابلي جديد. لكن هذه المرّة، لا تفرّقنا اللغات، بل اللغة نفسها

* * *

أصبحت اللغة الإنكليزيّة من دون شكّ لغة “استعماريّة” بامتياز. فنحن لا نتكلّم فقط عنها كلغة يستخدمها الناس حول العالم للتواصل فيما بينهم، ويعرفون جيّداً أنّهم مجبرون على ذلك. يتجاوز الأمر ذلك إلى درجة أنّ الراطنين باللغات الأخرى بحاجة إلى إعادة هيكلة لغاتهم لتتأقلم مع الإنكليزيّة. فقد أصبحت كلّ لغة مُجتاحة بمفردات وتعابير من الإنكليزيّة، بالجملة والمفرّق، وهو أمرٌ يثيرُ؛ من دون شكّ؛ حفيظة وغضب الكثير من أهل الصفاء اللغوي.

في الماضي، لعبت لغاتٌ كثيرة دور اللغة “المستعمرة”. مثلاً، في العصور القديمة، شكّلت الآراميّة ما يُسمّى باللغة المشتركة (lingua franca) عند أهل الشرق الأدنى (من بلاد الشام وما بين النهرين إلى بلاد فارس)، وبعد ذلك جاء دور اللغتين الإغريقيّة واللاتينيّة. وفي العصر الحديث، أصبحت الفرنسيّة والإنكليزية لغات مشتركة. ويمكن أن نأخذ مثلاً عن ذلك في إفريقيا، ذلك أنّ الأفارقة – من قبائل مختلفة – لا يتخاطبون بين بعضهم البعض بلغاتهم المتفرّقة بل من خلال لغتي المستعمرين الكبيرين: فرنسا وبريطانيا.

واللغة العربيّة هي أيضاً من الأمثلة على ذلك؛ هذه اللغة نشرت هيمنتها في العصور الوسطى على الشعوب القاطنة بين وسط آسيا والأندلس، وكانت أيضاً اللغة المشتركة في البحر المتوسّط. والربط بين الإسلام واللغة العربيّة ليس بالصدفة، فهو كان الركيزة التي مكّنت اللغة العربيّة لأن تصبح لغة العالم الإسلامي؛ مع الأخذ في الإعتبار أنّ دورها كلغة الإسلام تراجع تدريجيّاً منذ القرن الرابع عشر لمصلحة لغات أخرى مثل الفارسيّة (والتي أصبحت حتّى أوائل القرن العشرين اللغة المشتركة، من إيران ووسط آسيا إلى بلاد الهند)، وبعد ذلك العثمانيّة والأُرديّة و.. إلخ.

لكن أياً من هذه اللغات المشتركة القديمة لم تتمكّن من تحقق هذه الدرجة من الشيوع التي حققتها الإنكليزية بين عامّة الناس، وفي كلّ أنحاء المعمورة.

* * *

يستوقفنا هنا عامل ربط اللغة  المشتركة بالدين، وهذا ليس فقط محصور بالإسلام. فاللغة اللاتينيّة بقيّت لغة المسيحيّة حتّى زمن قريب، مع أنّه لا يتكلّم بها أحد منذ أوائل العصور الوسطى. وكذلك الأمر مع السريانيّة بين كثير من مسيحيّي بلاد الشام. وليس بالمخفي أنّ اللغتين الإنكليزيّة والفرنسيّة تشابكتا مع تيّار تبشيري مسيحي أراد عبر فرضهما على العالم فرض الدين المسيحي عليه أيضاً (تحديداً، الكاثوليكيّة مع الفرنسيّة، والبروتستانتيّة مع الإنكليزيّة).

لكن المُلفت للانتباه في كلّ هذا، هو أنّ الدين سبب المشكلة أساساً. مثلاً، تقول لنا التوراة – وهو تفسيرها للإختلاف اللغوي على الأرض – أنّ الله دَخَلَهُ الشكّ من البشر ومشاريعهم، فقرّر أن يضع حاجزاً بينهم، ليفصلهم عن بعضهم البعض، ويُعْجِزهم بذلك عن التآمر عليه. فخلق لكلّ فريقٍ لساناً يتكلّم به ولا يفهمه غيره، بعد أن كانوا يتكلّمون لغة واحدة. فأصبحت اللغات حاجزاً بين البشر. وهنا النصّ التوراتي الذي نتحدث عنه لمن يريد مطالعته:

كانت الأرض كلّها لساناً واحداً ولغةً واحدةً. وحدث في ارْتِحالهم شرقاً أنّهم وجدوا بقعةً في أرض شِنْعار وسكنوا هناك، وقال بعضهم لبعض: “هلمّ نصنع لِبْناً ونشويه شَيّاً”. فكان لهم اللِبْن مكان الحجر، وكان لهم القار مكان الطين. وقالوا: “هلُمَّ نَبْنِ لأنفسنا مدينةً وبرجاً رأسه بالسماء، ونصنع لأنفسنا إسماً لئلاَّ نتبدّد على وجه كلّ الأرض”. فنزل الربّ لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما، وقال الربّ: “هذا شعبٌ واحدٌ ولسانٌ واحدٌ لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل، والآن لا يمتنع عليهم كلّ ما ينوون أن يعملوه، هلمّ ننزل ونُبلْبِل هناك لسانهم حتّى لا يسمع بعضهم لسان بعض”. فبدّدَهم الربّ من هناك على وجه كلّ الأرض، فكفّوا عن بُنْيان المدينة، لذلك دُعي اسمها بابل لأنّ الربّ هناك بَلْبَلَ لسان كلّ الأرض. ومن هناك بدّدهم الربّ على وجه كلّ الأرض (الإصحاح الحادي عشر، الآيات 1-9).

فهل يمكن أن نستشعر من هذا أنّ بعض الويلات التي نواجهها في هذا الزمن يمكن أن تكون من صنع الله لأنّه مرتاب من حالة الرطن المشترك بالإنكيزيّة؟ وهل سنشهد زمن بابلي جديد؟

إقرأ على موقع 180  مقتلة غزة.. الإبادة الجماعية الأكثر رعباً في التاريخ (2/1)

* * *

نحن أمام واقع أليم: إضمحلال وموت تدريجي للعربية الفُصحى (واللغات العالميّة الأخرى) على حساب الإنكليزيّة التي تنتشر في العالم كالنار في الهشيم، ولا يبدو أنّنا قادرون على إيقاف هذه النار أو حتّى تخفيف وتيرتها. فهل نستسلم لهذا القدر المحتوم، المشؤوم؟

في ما يخصّ تحديداً وضع اللغة العربيّة الفُصحى، مشكلتها مع الإنكليزيّة مستعصية على الحلّ. فمن جهة، لم يؤدّ استخدامها لا إلى وحدة سياسيّة ولا إلى وحدة فكريّة (إلاّ عند القليل). ومن جهة أخرى، نحن نعيش حالة إنفصام لغوي، لأنّ العربيّة الفُصحى التي نتعلّمها في المدارس تختلف عن اللهجات العاميّة التي نتكلّمها، بشكل أنّ بعض اللهجات أصبحت أقرب إلى لغات أخرى منها إلى الفُصحى. فنحن للأسف أمام واقع أليم: إضمحلال وموت تدريجي للعربية الفُصحى (واللغات العالميّة الأخرى) على حساب الإنكليزيّة التي تنتشر في العالم كالنار في الهشيم، ولا يبدو أنّنا قادرون على إيقاف هذه النار أو حتّى تخفيف وتيرتها. فهل نستسلم لهذا القدر المحتوم، المشؤوم؟

* * *

للإيضاح، أنّا لست في وارد تقييّم ما إذا كان الفكر العالمي الحالي الذي يتمّ التعبير عنه بالرطن بأنواع مختلفة من الإنكليزيّة هو جدير بعقولنا، خصوصاً أنه نتاج مرحلة انحطاط بشري هائل على جميع الصعد (إنسانيّاً، مفهاميّاً، بيئيّاً، وإجتماعيّاً، و..). ولن أخوض أيضاً في أرجحيّة أنّ هذه اللغة المشتركة ستكون من دون شكّ عرضة لظهور لهجات مختلفة بين متكلّميها، تُصبح معها عاجزة عن أن تكون شاملة وجامعة! فالتفرقة بين البشر (مع أو من دون تدخّل إلهي) تحصل الآن على صعيد إيديولوجي سيقود حتماً إلى تكوّن مجتمعات تعيش بالقرب من بعضها البعض وتستخدم اللغة نفسها، لكن لا يفهم هذا البعض ما يتكلّم به البعض الآخر. وخيرُ مثال على ذلك ما يحصل في الجامعات اليوم. فمن يتخصّص في علم الإقتصاد لا يُفهم شيئاً من كلامه إلاّ إذا كنّا من المتخصّصين في مجاله. والشيء ذاته ينطبق على الفلسفة والفلاسفة، والرياضيّات، والطب، إلخ. ولا أريد أن أدخل بتاتاً في متاهة اللغة التي يرطن بها الجيل التيك توكي.

* * *

في الختام، سأترك القارئ الكريم يتصفّح ما يقوله ابن منظور (ت. 1311م) في معجمه “لسان العرب” عن معنى كلمة “الرطن”:

رَطَنَ العجمي يَرْطُنُ رَطْناً: تكلّم بلُغته، والرَطانة والرِطانة والمُراطنة: التكلّم بالعجميّة، … وهو كلامٌ لا يفهمه العرب. وتقول: رَطَنْتُ له رَطانة ورَاطَنْته، إذا كلمته بالعجميّة، … وقال طرفة بن العبد: فأَثارَ فارِطُهم غَطَاطاً جُثَّماً / أَصواتُهم كتَراطُنِ الفُرْسِ. قَالَ (ابن منظور): الرطانة، بفتح الراء أو كسرها، والتَراطن: كلامٌ لا يفهمه الجمهور، وإنما هو مواضعة بين اثنين أو جماعة، والعرب تخُصّ بها غالباً كلام العجم.

ويختم ابن منظور حديثه عن الرطن بهذا المقطع: “والرَطّانة والرَطُون، بالفتح: الإِبل إذا كانت رفاقاً ومعها أهلوها، زاد الأصمعي: إذا كانت كثيرة”.

إذاً، في نظر ابن منظور، الرطن أساساً كلام لا يفهمه الناس، ويُستخدم لوصف جلبة الإبل عندما يكثر عددها ورعاتها. من هنا، يمكن أنّ نُعمّم هذا الرأي ونقول إنّ الإنكليزيّة أصبحت رطناً برطن، بدأت تضيع معها المعاني ويلتبس معها الفهم، وها نحن ندخل في زمن بابلي جديد. لكن هذه المرّة، لا تفرّقنا اللغات، بل اللغة نفسها.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  فلسطين في الوجدان العربي