“نيڤالياشكا روسيا”.. ترنُح الهوية والعرش (3)

تختلف تقييمات المؤرخين لفترات حكم إيفان الثالث، وخلفه فاسيلي الثالث، ثم إيفان الرابع. الذي انتقل في عهده نظام الحكم من الدوقية إلى القيصرية، فتحول هو ذاته من أمير دوقية موسكو إلى قيصر روسيا.

بين من ينطلق من دور إيڤان الثالث في توسعة رقعة الدوقية، إنهاء سيطرة الأورطة الذهبية للمغول على روسيا وتمكنه عبر انتصارات عسكرية وإصلاحات سياسية واقتصادية أن يعد واضح حجر الأساس للدولة الروسية.. وبين من يدفع بأن الفترة ذاتها كانت تعج بقمع للحريات، وبتصحر الحالة الروحية للدوقية، وزيادة نسبة انعزالية الهوية الروسية عن التجربة الأوروبية الغربية. لا بد وأن يُدرك القارىء أن في ذلك كل التقريع لروسيا ممثلة بأميرها إيڤان الثالث، على معاداته للكنيسة الكاثوليكية، لمصلحة الأرثوذكسية بنسختها الروسية. ويبدو أن هذه الأصوات، التي نبع كثير منها من مؤرخين بريطانيين، هي ذاتها التي تفضل إطلاق لقب إيڤان الرهيب Ivan the Terrible على حفيده، إيفان ڤاسيلي الرابع. بعد أن كان يطلق على جده إيڤان ڤاسيليڤيتش الثالث (إيڤان العظيم).

كما تختلف التقييمات لشخصية إيڤان الرابع ذاته، خاصة بعد تقدم العمر به وتحوله من دوق “أمير” إلى قيصر “Tsar”. على يده تم تحويل هوية روسيا من كيان ينتمي إلى العصور الوسطى، إلى دولة إمبراطورية تتسع وتزيد سطوتها وتتطور اقتصادياً، وتتحضر سياسياً، حتى لو ظلت عشوائية إجتماعياً، ومتخبطة زراعياً، ومتصادمة تجارياً وعسكرياً. وهي صدامات تراوحت ما بين نجاحات مثل السيطرة على خانات كانت تقع تحت سطوة إمبراطورية المغول المنقضية، وبين إخفاقات تتشعب تفاصيلها مثل خسارة الحرب الليفونية في مآل الأمر.

أما على الجانب الآخر من التقييم، وخاصة في ما يتعلق بالفترة القيصرية لحكم إيڤان الرابع. فقد تحوّل إلى ديكتاتور ورّط بلاده في صراعات كان من الممكن تفاديها وصولاً إلى قصص تتعلق بتسببه في إجهاض زوجة إبنه (وريث عرشه المنتظر)، بضربها لارتدائها زياً غير محتشم. وحين جاء إبنه ليواجهه، ضربه على رأسه بعصاه، فتسبب في مقتله. وهي القصة التي أثارت الكثير من الجدل حتى بعد حدوثها بقرون، بسبب تصويرها في لوحة زيتية رسمها على القماش الفنان الروسي إيليا ريبين عام 1885.

وهكذا تستمر القصة التاريخية، لحكام تكرست السلطات حول صولجانهم، بعد أن كانت تلتف حول نصل سيف المغول قبل ذلك. وكما توسعت وتطورت الدوقية إلى قيصرية، تضخمت سلطات الأسرة الحاكمة، وظهرت مفاسد تكريس السلطة، تزامناً مع إنجازات وإخفاقات. واستمرت الهوية الروسية تتماوج بين كل ذلك، مما يصعب تلخيصه. لكن الشاهد في القصة، هو أن الهوية استقلت، ويلومها الآن مؤرخون أوروبيون “غربيون” على عدم كاثوليكيتها، وعلى انعزالها عن ثقافتهم الغربية. غرب أصبح يركز على إخفاقاتها ومفاسد حكامها، ويحاول التحالف معها حينما يجد مصلحة في ذلك، ويتحارب معها إذا تعارضت مصلحته معها. أصبح هناك “روسيا”، صنعت هوية، يختلف على تحليل خصائصها المؤرخون.

ها هي الهوية تترنح مرة أخرى، وتصيبها ضربات سياسية استمرت تقريباً منذ تولي فيودور الأول في 1584، ومن خلفه الوصي بوريس حتى عام 1605، مروراً بالمجاعة التي تفشت في عهده عام 1601، وصولاً إلى تاريخ غطى أول خمس سنوات من عهد مايكل رومانوف

لكن يجدر أن نلفت الإنتباه هنا، إلى أن الهوية التي يناقشها كثير من المؤرخين، انتقلت عملية استخلاص خصائصها شيئاً فشيئاً، من خصائص شعب أو قبائل وإثنيات، إلى خصائص سلالات حاكمة ونظم حكم دولة، وفروقات بين أمير وآخر. وزادت تلك الاستضاقة في التحليل للهوية الروسية، بازدياد تكرس السلطة في أيدى السلالات الحاكمة، خاصة بعد انتقالها من الدوقية إلى القيصرية، ثم بعد ذلك بما يراوح القرنين، إلى الإمبراطورية الروسية. فتوارت برغم وفرتها، أهمية كتابات “وصف روسيا” كقوم، لصالح “وصف سياسات روسيا” متمثلة في صورة حاكم يجلس على عرشها. أيختلف ذلك كثيراً عما يحدث في تقييم هوية الإتحاد الروسي The Russian Federation الآن؟! أترك الإجابة للقارىء.

يتجلى ذلك التوجه بشكل واضح، خاصة أثناء فترة حكم سلالة روريك، التي انتهت كما يقال، بسبب قتل إيڤان الرابع لوريث عرشه القادر على الحكم، فورث عرشه بعد وفاته، ابنه فيودور الضعيف، مما أدى لأن تحكم القيصرية الروسية من وراء فيودور الأول كحاكم إسمي فقط، على يدي الحاكم الفعلي بوريس غودونوف، الذي حكم تحت لقب الوصي أو المؤتمن على العرش Regent.

وقد اعتبر الوصي غودونوف، الذي ينتمي لأصول تترية، أول حاكم للقيصرية الروسية، ممن لا ينتمون لسلالة روريك الروسية. حيث تم تنصيبه قيصراً لروسيا، بعد وفاة فيودور الأول، الذي لم ينجب أولاداً يرثون عرشه. وقد كانت فترة حكم فيودور الأول (1584 – 1598) ومن بعده الوصي الذي تحول للقيصر بوريس غودونوف (1598 – 1605)، وكذلك عهود متخبطة تحت حكم ابنه ووريثه الذي لم يجلس على كرسي عرشه إلا حوالي الشهرين فقط، فيودور الثاني، ومن بعده ديميتري الأول (المزيف) الذي نصبته القوات البولندية-الليتوانية على عرش روسيا. تبعه ڤاسيلي الرابع لأربع سنوات، ثم أقل من ثلاث سنوات تولى الحكم خلالها وسط التخبط ملك بولندا ودوق ليتوانيا ڤلاديسلاڤ الرابع نفسه. كانت كل هذه التخبطات هي السبب في دخول روسيا في فترة سميت بـ”زمن المحن” (Time of the troubles)، وهي محن مختلف على تاريخ بدايتها، لكن المتفق عليه هو أحداثها التي شملت أزمات بيئية انخفضت خلالها درجة حرارة الطقس بشكل كبير، ما أدى إلى فساد المحاصيل وفشل الاستزراع ونقصان المنتوج الزراعي ما بين 1601-1603. نتج عن ذلك تفشي مجاعة خطيرة أثرت على صحة الروس، وتوحدهم من الناحية الاجتماعية بطبيعة الحال. وقد تسبب ذلك التشتت الإجتماعي وهجر المناطق الريفية التي جدبت، إلى نشوب الحروب الأهلية وبدء موجات التدخلات الخارجية من جانب الكومنولث البولندي-الليتواني، إلى أن وصل الأمر إلى نشوب الحرب الروسية-البولندية، التي دامت من 1605 إلى 1618.

إقرأ على موقع 180  أوكرانيا من حرب المنهكين إلى سلام المنهكين!

ها هي الهوية تترنح مرة أخرى، وتصيبها ضربات سياسية استمرت تقريباً منذ تولي فيودور الأول في 1584، ومن خلفه الوصي بوريس حتى عام 1605، مروراً بالمجاعة التي تفشت في عهده عام 1601، وصولاً إلى تاريخ غطى أول خمس سنوات من عهد مايكل رومانوف. ذات العهد الذي ورث مع بدايته الحرب الإنجارية، التي يمكن أن تعد رابع الحروب الروسية-السويدية في زمنها (1610-1617). وقد كان سبب تلك الحرب هو طمع تشارلز التاسع ملك السويد، في السيطرة على عرش القيصرية الروسية، أثناء أزمة ڤاسيلي الرابع مع بولندا، التي كانت تحاول بدورها تنصيب ديميتري المزيف على عرش روسيا!

وقد بدأ تولي القيصر مايكل رومانوف حكم روسيا في 1613، باختيار من جانب كيان سياسي اسمه “زيمسكي سوبور”. وهو الكيان الذي نشأ في عهد الدوقية تحت حكم إيڤان الرهيب عام 1549، كممثل عن الطبقات الإقطاعية المختلفة للشعب الروسي. كيان جمع ممثلين عن طبقات الشعب، من طبقة النبلاء والطبقة البيروقراطية العليا، المجمع المقدس لرجال الدين الأرثوذكس، وصولاً إلى طبقة العوام الشاملة للتجار وسكان المدن.

هذا “البرلمان” المسمى زيمسكي سوبور، كانت تنعقد جلساته بدعوة إما من القيصر، البابا أو المجلس الاستشاري “بويار دوما” صاحب التاريخ الأقدم، الذي بدأ يؤدي وظيفة المجلس الاستشاري للحاكم منذ القرن العاشر الميلادي، في عهد الهوية السياسية الروسية الأسبق “روس الكييڤية” (Kievan Rus). أترى اتصال التجربة السياسية للهوية الروسية الآن؟ برغم تحور الكيان الروسي، بين إمارات، دوقيات، خانات مغولية، ثم دوقية مرة أخرى، إلى أن تحورت إلى طورها القيصري Tsardom.

للمناسبة، زيمسكي سوبور، هو الكيان ذاته الذي تدخل في أزمة توريث الحكم بعد وفاة فيودور الأول، باتخاذ قرار انتخاب الوصي بوريس غودونوف لمنصب قيصر روسيا.

لا تتخلى نيڤالياشكا روسيا عما سبق بناءه عبر تجربة صنع وتشكيل الهوية، برغم الضربات والترنحات التي أصابتها. وقد نجت هوية الدولة الروسية من الإنحلال عبر “زمن المحن”، وعهود حكام ضعاف، فاسدين، أو غرباء مزيفين. ويرجع العديد من المؤرخين حفظ هوية الدولة، إلى وجود طبقة من البيروقراطية الروسية المتنفذة في جنبات جهاز الحكم المركزي، من الذين استمروا في حفاظهم على أداء مهامهم في إدارة الدولة قدر ما يستطيعون، بغض النظر عما يدور حول العرش من صراعات وتدخلات أجنبية. لكن ذلك الصمود المجتمعي، لم يمنع الحروب الأهلية، ولم يحافظ على كامل أراضي القيصرية الروسية التي فقدت في زمن المحن أجزاء من أراضيها لصالح كل من الكومنولث البولندي-الليتواني ومملكة السويد.

وصلنا الآن إلى حكم أسرة جديدة، هي سلالة رومانوف. وريثة زمن المحن، المختارة من قبل الزيمسكي سوبور. لتحكم دولة فقدت أجزاء من أراضيها، وترنح عرشها مع تهاوي حكام أسرة روريك، وقرارات وصي تتري تحول إلى قيصر، وأطماع غرباء في العرش الروسي، وحروب ومجاعات، نهشت في جسد نيڤالياشكا.

نستكمل سردية الهوية الروسية، لنرى كيف استمرت في النجاة في أجزاء قادمة.

(*) الجزء الأول؛ “نيڤالياشكا روسيا”.. منبع الهوية ونشأة الدولة (1)
(**) الجزء الثاني؛ “نيڤالياشكا روسيا”.. نير التتار وارتدادية الهوية (2)  

Print Friendly, PDF & Email
تامر منصور

مصمم وكاتب مصري

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  لاح الحلم: أيها التشرينيون اكملوا