فرنسا 2022.. بانوراما البرامج والمرشحين والإحتمالات

كيف يبدو مشهد الاستحقاق الانتخابي الرئاسي الفرنسي مع اقتراب موعد دورته الأولى في نيسان/ابريل من السنة المقبلة؟ وهل بدأت ترتسم معالم السباق نحو قصر الاليزيه وتتضح هوية كل من المتسابقين؟

خمسة أشهر تفصل الناخب الفرنسي عن موعد توجهه الى صندوق الاقتراع لاختيار الشخصية التي ستتولى مقاليد الحكم لخمس سنوات جديدة. عملية الاقتراع التي ستتم على دورتين (أولى في 10 نيسان/أبريل وثانية في 24 نيسان/ابريل 2022)، بدأت تستأثر باهتمام الجهات السياسية والحزبية والاعلامية، وان كانت حماسة عامة الناس لا تزال فاترة بفعل إستمرار الانشغال بوباء كورونا وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية اضافة الى تزايد الهم الأمني.

وقبل الحديث عن ابرز المرشحين، لا بد من التوقف عند اولويات الإهتمامات لدى المواطن الفرنسي والتي على اساسها سيتوقف تحديد خياره للشخصية التي، وبحسب رأيه، تُحسّن الاستجابة لتطلعاته.

صحيح ان اكثر من دراسة نشرت في الأسابيع الأخيرة تشير الى أن الهجرة (موضوع انعدام الأمن في صلبها) تأتي في المرتبة الخامسة من اهتمامات الناخب الفرنسي بعد الصحة والبيئة والهجرة والقوة الشرائية والرفاه الاجتماعي وتوفير الاحتياجات اليومية. ولكن هذا الموضوع يحظى باهتمام لافت للإنتباه في وسائل الاعلام ويتصدر اخبار القنوات المتلفزة في وقت يتدافع فيه اركان اليمين المعتدل والوسطي واليمين المتطرف الى اثارته والدخول في مزايدات يطغى معها الخطاب المتشدد.

بالنسبة الى موضوع الهجرة سنعرض المواقف لاحقاً في سياق المقال بعد أن نتوقف عند موضوع القوة الشرائية. فقد أطلقت آن هيدالغو، المرشحة الاشتراكية، حملتها مع تزايد الرغبة في مضاعفة رواتب المعلمين، بينما يطالب مرشح حزب البيئة يانيك جادو بإجراء فحص إضافي للطاقة مخصّص لأكثر الحالات خطورة.

مرشحة “التجمع الوطني” اليميني المتطرّف مارين لوبن تقترح من جهتها خفض ضريبة القيمة المضافة على البنزين والغاز والكهرباء لاستقطاب شريحة المتضررين. أما فاليري بيكريس، المرشحة القريبة من حزب “الجمهوريون” اليميني المعتدل، فانها دعت الى زيادة الحد الأدنى للأجور، وإلتقت مع زميلها كزافيه برتران في المطالبة بـ”علاوة عمل” لمن يكسبون الحد الأدنى للأجور أي أقل من 1500 يورو شهرياً.

ووضع زعيم “فرنسا الأبية” جان لوك ميلونشون، نفسه في مواجهة الأغنياء وطبقة الأوليغارشية، بتقديمه القضايا الاجتماعية وتبنيه تجميد الضرائب ورفع الأجور ورفضه وإدانته استغلال قضية المهاجرين والأمن ومعاداة المسلمين.

ماذا عن شخصية المرشحين وعددهم واستراتيجيتهم؟صحيح ان عدد المرشحين تجاوز الثلاثين مرشحاً، وهم ينتمون الى مختلف الاتجاهات السياسية من اقصى اليسار الى اقصى اليمين مروراً بالوسط وانصار البيئة والمدافعين عن الطبيعة وعن الحيوان.. الا ان ابرز القوى تتمحور على الشكل الآتي:

أولاً؛ اليمين المتطرف:

إيريك زيمور “الشرس”:

برغم أنه لم يعلن بعد رسمياً ترشحه للانتخابات، يثير الصحافي والكاتب إيريك زيمور، صاحب الشخصية الجدلية، قلقاً وصخباً، خصوصاً بعد أن كشف آخر استطلاع للرأي بأن زيمور يتقدم على مارين لوبن زعيمة حزب “التجمع الوطني” (يمين متطرف) اذ انه جمع حوالي 17 بالمئة من نوايا التصويت، ما يعني أن لوبن لن تتمكن من مواجهة ماكرون الذي حلّ في المرتبة الأولى.

صعود زيمور أحدث هزة في المشهد السياسي، وهو المعروف بمواقفه العنصرية والمعادية للمهاجرين، وخصوصاً “الملتزمين اسلامياً”، فيما أرجع مراقبون صعوده إلى الجدل الذي أثير حوله من قبل وسائل الإعلام، ولا سيما القنوات الإخبارية ذات الخط التحريري اليميني المتشدد التي سارعت إلى منح تغطية كبيرة للمرشح المفترض. وعلى الرغم من أنه ولد في مونتروي الضاحية الباريسية (1958)، لم يخفِ زيمور أبدا جذوره كيهودي “من الأقدام السوداء” ذات الاصول الجزائرية.

وقد استخدم زيمور جولة توقيع كتابه الجديد وظهوره المكثف في وسائل الاعلام ليقدم مواقف أكثر تطرفا من لوبن داعيا لإلزام الوالدين اعطاء اسماء اولى فرنسية لاطفالهم، وذاهباً ابعد من ذلك محذراً من أن فرنسا ستصبح في غضون قرن “جمهورية إسلامية” لو لم توقف الهجرة. مما دفع  بجيرالد دارمانان وزير الداخلية للرد قائلاً ان تصريحات زيمور “مخجلة وتستهدف المسلمين الذين خدموا الأمة وبخاصة في المجال العام والجيش”.

وحتى قبل ترشحه رسمياً، استغل زيمور المدان في قضايا “التحريض على العنصرية” ظهوره التلفزيوني المتكرر للادلاء بمواقف وصفت بانها “الاكثر شراسة وتطرفاُ وكراهية” مثل قوله إن “الإسلام كدين لا يتماشى مع الثقافة الفرنسية ونمط العيش بالنسبة للفرنسيين”. وقد ردّ المتعاطفون معه على منتقديه بالتبرير الآتي: “يقول بصوت عال ما يفكر فيه الكثيرون بصوت خافت”!

هذا الصعود المفاجئ لزيمور جعل بقية المرشحين، ليس فقط داخل صفوف اليمين بل تعداه الى اليسار، يلتزمون سلوك هذا الطريق المتشدد حيال هذا الموضوع وان لم يستخدموا نفس العبارات الاستفزازية التحريضية أو يتبنون نفس المواقف الراديكالية. واكثر المرشحين المنزعجين من بروز زيمور هي مارين لوبن التي تشعر بأنه يسحب البساط اليميني المتطرف من تحت قدميها بتبنيه شعارات ومواقف على أقصى يمينها!

مارين لوبن “اللينة”:

زعيمة حزب “التجمع الوطني” المتطرف مارين لوبن تواجه منذ اسابيع وضعاً إنتخابياً غير مريح. من جهة، تحاول تفادي أخطاء حملتها الرئاسية السابقة في منافستها مع ايمانويل ماكرون وتبني خطاب اكثر وسطية (خصوصاً على صعيد التوجهات الاقتصادية والتعامل مع موضوع اليورو)، ومن جهة ثانية، تحاول التعايش مع مستجدات الحملة الرئاسية الحالية وبروز منافس لها داخل البيت اليميني المتشدد الواحد المتمثل بخطر إيريك زيمور، ما أدى إلى فتح الباب أمام مرشح اكثر تطرفاً منها وبات يهدد مكانتها عبر ظهورها وكأنها “لينة كثيراً”، بتخليها عن مواقفها المتصلبة والراديكالية، كما وصفها بتهكم وزير الداخلية جيرالد دارمانان.

وقد دفعت التطورات الاخيرة لوبن، خصوصاً مع تقدم زيمور امامها في استطلاعات الرأي وامكان اقصائها عن خوض الدورة الثانية، الى اخذ هذا “الخطر” على محمل الجد وبالتالي التشبث بمواقفها الصلبة حيال قضايا الهجرة وانعدام الأمن والهوية الفرنسية.

فقد أبدت لوبن التزامها بـ”استئصال الإسلاميين” من الأحياء الفرنسية كما وعدت بـ”وضع الجانحين الفرنسيين منهم في السجن، والأجانب في الطائرة”، متعهدة بتعزيز هيبة الدولة في “مدن المخدرات أو المناطق التي باتت أشبه بمناطق طالبان”، على حد وصفها.

وترى لوبن التي اتهمها خصومها بعدم الكفاءة بعد مناظرتها مع ماكرون بين جولتي 2017، أن ترشُح زيمور قد يُساعد ماكرون في تصدر نتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة، ويُقسّم اصوات “المعسكر الوطني” الذي ينتمي إليه، وطالبته بالاستمرار في عمله الإعلامي من دون خوضه في عالم السياسة!

ثانياً؛ اليمين المعتدل والمتشرذم:

بعد جدال طويل واختلاف في المواقف، توصل حزب “الجمهوريون” (اليمين التقليدي المعتدل) إلى اتفاق يقضي باختيار المرشح الذي سيخوض غمار الانتخابات الرئاسية المقبلة عبر تصويت الأعضاء المنخرطين في الحزب فقط، وذلك في 4 كانون الأول/ديسمبر المقبل.

وما تم التوصل اليه هدف الى تغيير النظام الداخلي للحزب الذي كان ينص منذ 2015 بأن اختيار مرشح الحزب للانتخابات الرئاسية يجب أن يمر عبر تنظيم انتخابات تمهيدية يُسمح فيها لغير المنتسبين للحزب بالتصويت. لكن تجربة 2016 تركت ذكرى أليمة في صفوف الحزب، إذ تم إقصاء الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في الجولة الأولى من الانتخابات التمهيدية، إضافة إلى أنها تسببت في توسيع حدة التباعد داخل الحزب الواحد، وانتهى الأمر إلى فشل المرشح فرانسوا فيون.

صراع “الأخوة الأعداء” يتمثل بمنافسة حادة بين خمسة مرشحين في هذا الحزب ابرزهم ثلاثة وهم:

كزافييه برتران “المتمكن”:

كزافييه برتران، وزير الصحة في عهدي الرئيسين السابقين جاك شيراك ونيكولا ساركوزي، سياسي متمرس يتمتع، حسب الكثير من المراقبين، “بعزيمة وخبرة مميزتين” تجعلان منه الاكثر تأهيلاً لخوض السباق الرئاسي.

يقول برتران، الذي يرأس منطقة “هوت-دو-فرانس” في شمال فرنسا “من واجبي أن أتغلب على مارين لوبن وبذل كل الجهود لتوحيد صفوف الفرنسيين”.

ويعرض برتران رؤيته لفرنسا “فخورة متعافية ومتصالحة” التي يسعى لتحقيقها من خلال مشروع “واضح يقوم على ترميم سلطة الدولة، وطي صفحة المركزية الباريسية وإعادة جعل العمل حجر زاوية في مشروعنا الوطني”، على حد قوله.

ووفقاً لآخر استطلاع، يحتل برتران حالياً المركز الرابع  في الاقتراع خلف ماكرون وزيمور ولوبن بنسبة 14 في المائة من نوايا التصويت في الجولة الأولى، وذلك في حال فوزه بالانتخابات الداخلية لحزب “الجمهوريون”.

فاليري بيكريس “الناشطة”:  

دخلت الوزيرة السابقة ورئيسة منطقة ايل-دو-فرانس فاليري بيكريس المعترك الرئاسي تحت شعار “من أجل استعادة مشاعر الفخر بفرنسا”، داعية “الى قطع نمط الخيارات السيئة التي دامت 10 سنوات وأنصاف الحلول والتردد وتدهور البلاد في نهاية الأمر”.

وانتقدت بيكريس فترة رئاسة ماكرون معتبرة أنها تريد “الإنجاز قبل البحث عن إرضاء الآخرين من خلال إعادة ترتيب الوضع في البلاد بعد فترة رئاسية من خمس سنوات لم يحقق فيها الشيء الكثير”. ويبدو حسب الاستطلاعات انها منافسة جدية لبرتران في الفوز بالانتخابات الداخلية لحزب “الجمهوريون” بعد انضمامها إلى صفوفه.

ميشال بارنييه “الديغولي”:

ميشال بارنييه الديغولي الهوى والانتماء، نائب ووزير خارجية سابق والمفاوض الأوروبي في اطار “البريكسيت” حول خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي، بدأت اسهمه تتقدم داخل صفوف الحزب وقياداته التقليدية مما يُعزز موقعه ويضاعف حظوظه. أدخل ضمن برنامجه شقاً يتناول فيه موضوع المهاجرين، واعداً بـ”الإيقاف المؤقت” للهجرة إلى حين “إصلاح جميع الإجراءات” المتعلقة بها. وأضاف أنه سيتفق مع البلدان الأصل للمهاجرين كي “تساهم في السيطرة على تدفّقات الهجرة مقابل حصولها على مساعداتنا التنموية”، وتعهَّد كذلك بـ”تعزيز مكافحة التيار الجهادي في كل مكان” وزيادة الإنفاق على الدفاع والبحث إلى ما نسبته “3% من الناتج المحلّي الإجمالي”، مؤكداً أن برنامجه الانتخابي هو “الحد من الهجرة والسيطرة عليها” و”إعادة وضع العمل والكفاءة في قلب مجتمعنا”، كون فرنسا تمر “بأوقات عصيبة. العالم من حولنا خطر وغير مستقر وهش. بلادنا تسير بشكل سيّئ”، على حد تعبيره.

ثالثاً؛ اليسار المتعدد والمنقسم:

آن هيدالغو “الباريسية”:

فازت عمدة باريس آن هيدالغو بترشيح الحزب الاشتراكي لخوض انتخابات الرئاسة في وقت تظهر فيه الاستطلاعات أنها لن تحصل إلا على ما بين 4% و7% من نوايا التصويت في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية. وسيتعيّن عليها توسيع حضورها على الصعيد الوطني إذا كانت تتطلع لتصبح أول رئيسة لفرنسا. ودخلت هيدالغو المعركة الانتخابية كشخصية تثير الاستقطاب، إذ أحدثت حملتها للتخفيف من انتشار السيارات في باريس وجعل المدينة صديقة أكثر للبيئة انقساماً في أوساط سكان العاصمة.

إقرأ على موقع 180  عقوبات أميركا و"ثقب" مرفأ بيروت.. والمصارف!

وتشغل هيدالغو، البالغة من العمر 62 عاماً، منصب عمدة باريس منذ 2014، وهي من مواليد الأندلس في جنوب إسبانيا، وهاجرت إلى فرنسا مع والديها في سن الثانية، وحصلت على الجنسية الفرنسية في سن الرابعة عشرة.

خلال الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة الفرنسية في 2017، حصل مرشح الحزب الاشتراكي، بونو آمون على 6.4 في المائة من الأصوات. ثم خسر الحزب 250 مقعداً برلمانياً في الانتخابات التشريعية التي تلت الرئاسية ليحتفظ بـ 30 مقعداً فقط. استمرت سلسلة خسارة الإشتراكيين المتتالية في عام 2019 عندما تمكنوا بالكاد من الحصول على أصوات كافية للظفر ببعض مقاعد البرلمان الأوروبي.

ويرى المراقبون أن “التحدي الرئيسي بالنسبة لليسار هو أنه منقسم للغاية، ولكي تكون هيدالغو منافساً واقعياً عليها أن تحصل على قدر كبير من اصوات الاحزاب اليسارية الاخرى (الحزب الشيوعي وحزب “فرنسا الأبية”)، طالما أنه من الصعب للغاية تأهل أحد مرشحي هذه الاحزاب الثلاثة إلى الدورة الثانية”.

ويعتبر المراقبون ان “المخرج الوحيد” للحزب الاشتراكي هو التحالف مع حزب “الخضر”. ومع أن الحزبين قدما قوائم مشتركة في عدة انتخابات محلية وبلدية العام الماضي، الا ان تحالفهما في المعركة الرئاسية المقبلة يبدو امراً مستبعداً واحتمالاً صعباً ذلك ان لكل حزب مرشحه.

جان- لوك ميلونشون “المتقلب”:

في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، فاجأ زعيم حزب “فرنسا الأبية” جان- لوك ميلونشون الجميع بإعلان ترشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2022، إذ جرت العادة أن يختار اليسار مرشحه بالتوافق بين الأحزاب، وهو ما لم يحصل هذه المرة.

ميلونشون، ترشح مرتين سابقاً للانتخابات الرئاسية عامي 2012 و2017 وحقق في الانتخابات الأخيرة أرقاماً كادت تؤهله لخوض الدورة الثانية. ولكن هذه المرة يبدو ان حظوظه في تراجع ملحوظ وان طروحاته لا تلقى تجاوباً شعبياً أكان على صعيد المطالب الاقتصادية او الاجتماعية او صيانة الحريات او الحياة الديموقراطية.

يانيك جادو “الأخضر”:

منذ نشأة الجمهورية الخامسة الفرنسية، قوربت مشاركة “حزب الخضر” في الانتخابات الرئاسية من زاوية إثبات الوجود لا أكثر. طوال عقود كان يُحسب “حزب الخضر” (الذي بات حزب “أوروبا-البيئة” منذ العام 2010) على الوسط اليساري، كما كان يُنظر إليه من زاوية التبعية للحزب الاشتراكي، لشعبيته المحدودة. واقع لم يحل دون خوض هذا الحزب غمار الاستحقاق الرئاسي مرات عديدة، أقله لقرع “جرس الإنذار البيئي.

حالٌ تبدلت تدريجياً منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة العام 2017 حينما فقد الحزب الاشتراكي هيمنته على أحزاب اليسار، ما وفر لحزب أوروبا-البيئة هامشاً أكبر من الاستقلالية. استقلالية تضاعف حجمها مع بروز مؤشرات تدل على اهتمام الفرنسيين المتزايد بالمسائل البيئية، وهذه المؤشرات تُرجمت على صعيد الاستحقاقات الانتخابية، حيث احتل حزب “أوروبا-البيئة”، المرتبة الثالثة في انتخابات البرلمان الأوروبي عام 2019، ليتعزز حضوره في العام التالي خلال الاستحقاق البلَدي، ما أتاح له ترؤس بلديات وازنة.

وقد تمكن النائب في البرلمان الأوروبي يانيك جادو (49 عاماً) من الفوز في الانتخابات الداخلية للحزب واختياره مرشحاً وحيداً له في الاستحقاق الرئاسي. ويعد جادو من أنصار الاتجاه الأوروبي، وله قناعات يسارية راسخة قريبة من اليسار الراديكالي الفرنسي، غير أنّه من المناهضين لمرشح اليسار الراديكالي، جان- لوك ميلونشون، الذي يعيب عليه معاداته الاتحاد الأوروبي. كما أنّ الزعيم الشاب له عقلية براغماتية منفتحة على مكونات اليسار.

وأعلن أن هدفه الأساسي ليس الرئاسة فقط بل “بناء انتصارات قادمة” في الاستحقاقات المقبلة خاصة الانتخابات التشريعية، في يونيو/حزيران المقبل. كما أنه قدم برنامجاً متكاملاً، خلال حملته الانتخابية داخل الحزب فصل فيه خطة طموحة للخروج بحزب الخضر من تهميش سياسي يتخبط فيه منذ عقدين من الزمن.

ويدخل جادو المنافسة مراهناً على عدد من أوراق القوة. بداية، ما زال الشارع الفرنسي تواقاً إلى تجديد الحياة السياسية بعد “خيبة أمله” من ماكرون. في وسع جادو الاستثمار في هذه النقطة، بعدما عُرف بنشاطه داخل المجتمع المدني إبان توليه إدارة منظمة “غرين بيس” في  فرنسا.  علاوة على ذلك، خاض جادو الانتخابات التمهيدية تحت عنوان “البراغماتية”، ما أشار إلى نبذه أي نهج صِدامي إذا ما تولى الحكم. من ناحية أخرى، مطالبة “أوروبا-البيئة” باتخاذ خطوات عملانية لوقف التدهور البيئي تعني، وبشكل تلقائي، تطلعه الدائم إلى المستقبل بغرض توفير أفضل مقومات الحياة للأجيال المقبلة، مسألة جوهرية في أي دعاية انتخابية.

في المقابل، يدرك “أوروبا-البيئة” خبرته المتواضعة في شؤون الحكم: فمشاركته في الحكومات الاشتراكية انحصرت في وزارة البيئة. أضف إلى ذلك ارتباطه بالحزب الاشتراكي وطغيان هويته البيئية على مواقفه السياسية. في هذا الإطار سيستمر جادو في محاولات فتح أبواب الحوار والتعاون مع مرشحي اليسار رغم محاولات ميلونشون تزعم المجموعة اليسارية المعتدلة.

وبرغم الرسائل الإيجابية المتبادلة بين الاشتراكي وأوروبا–البيئة، لم تنجح مساعي التقارب ومحاولات التوصل الى مرشح موحد، ولكن لم يفقد البعض الامل مع اقتراب موعد الدورة الاولى خصوصاً مع عدم تمكن المرشحة الاشتراكية هيدالغو من تحقيق الخرق المطلوب وحصولها حتى الآن على نسبة متواضعة من أصوات الفرنسيين حسب استطلاعات الرأي الاخيرة.

رابعاً؛ اليمين الوسط الثابت:

ايمانويل ماكرون “المرتاح”

يبقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المرشّح الأوفر حظّاً للفوز في انتخابات السنة المقبلة (استطلاعات الرأي تضعه في مرتبة المتقدم الاول في الدورة الاولى وفي المركز الرابح في الدورة الثانية)، صحيح انه مرتاح لوضعه الا ان ما يقلقه هو عدم معرفة هوية منافسه الرئيسي قبل خمسة أشهر من موعد الاقتراع.

 وفي حال فوز ماكرون، الذي تسلّق السلم السياسي بسرعة قياسية ليصبح في 2017 أصغر رئيس جمهورية فرنسي، فسيكون أول رئيس ينتخب لولاية ثانية منذ عهد جاك شيراك، إذ أنّ سلَفَيه نيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند حكما لولاية واحدة فقط.

وكان ماكرون قد فاز في الانتخابات الرئاسية في 2017 من خلال حزبه “الجمهورية إلى الأمام” الذي أسّسه قبل عام من الاستحقاق الرئاسي الماضي. وعرفت ولايته أزمات داخلية أولها اندلاع أعمال العنف غير المسبوقة والفوضى التي شهدتها باريس في 2018 في إطار تحرك “السترات الصفراء”، حيث كانت مطالب المحتجين تقتصر على إلغاء زيادة أسعار الوقود.

الأزمة الثانية تمثلت في حصول فجوة في ميزانية فرنسا لعام 2018 بمقدار 10.5 مليارات دولار، ما يشكل نحو 39 في المائة من إجمالي الضرائب التي تم تحصيلها عام 2017. في المقابل، زادت الضرائب المفروضة على المواطنين العاديين بهدف سد هذه الثغرة، مثل الضرائب على مصادر الطاقة، وعلى القيمة المضافة، وعلى الدخل.

الأزمة الثالثة التي واجهتها الحكومة الفرنسية كانت مع جائحة كورونا والمشاكل المتعددة التي رافقتها على الصعد الصحية والاقتصادية والاجتماعية. الا ان ماكرون جهد على مدى السنتين الماضيتين لإبراز “نجاحاته” و”انجازاته” في حماية المجتمع الفرنسي وضبط تداعيات الوباء من خلال مساعدات طارئة وخطة مالية استثنائية اقرها الاتحاد الاوروبي مكّنت حكومته من اعادة اطلاق الدورة الاقتصادية والحد من أزمة البطالة وتعزيز الاستثمارات المستقبلية.

الهم الأمني لم يكن غائباً، على العكس فقد سجل حضوراً ثقيلاً في النصف الثاني من الولاية وتجلى ذلك بالحملة المتشددة التي اطلقتها حكومته من خلال طرح القانون المناهض لـ”الانفصالية الإسلاموية” ودعمها حرية التعبير عبر الرسومات المسيئة للدين الاسلامي. وقد فسّر المراقبون خطواته بانها مزايدة سياسية انتخابية سابقة لاوانها ومحاولة لقطع الطريق امام اليمين المتطرف المتمثل بلوبن أولاً ومن بعدها زيمور.

هذا التوجه للتقرب من الناخبين المتعاطفين مع طروحات اليمين المتطرف دفع صحيفة بريطانية (الغارديان) الى عنونة مقالة لها خصّصتها للوضع الداخلي الفرنسي كالآتي:كلما اقتربت انتخابات الرئاسة الفرنسية أصبح ماكرون أكثر تطرفاً من لوبن”. وقد تحدثت فيه عن الخلاف بين فرنسا ودول المغرب العربي (الجزائر، المغرب، تونس) حول تخفيض عدد التأشيرات الممنوحة لمواطني هذه الدول لدخول الاراضي الفرنسية كرد فرنسي على امتناع هذه الدول من اعادة مواطنيها المهاجرين المبعدين غير المرغوب بهم والمقيمين بطريقة غير مشروعة.

ماكرون لم يعلن نيته الترشح حتى الآن، ويبدو انه عازم على الاستفادة من موقعه الرئاسي الى أبعد حد مع كل الوسائل المتوفرة له كرئيس ولن ينزل الى حلبة المعركة الانتخابية الا في الاسابيع الاخيرة. كما انه يرغب في ابقاء رئاسة فرنسا للاتحاد الاوروبي التي ستتسلمها في الاول من كانون الثاني/يناير 2022 بعيداً عن اجواء الحملات الانتخابية الداخلية الفرنسية.

ماذا عن مسار هذه الانتخابات الرئاسية وما هي شروط تبلور صورة المواجهات السياسية المقبلة في فرنسا؟

هناك شبه اجماع لدى المراقبين والخبراء في الشؤون السياسية الفرنسية بانه من السابق لاوانه اعطاء رسم واضح ونهائي لمجرى المعركة الرئاسية المقبلة، وقد أثبتت التجارب الماضية ان الامور قد تتبدل بين ليلة وضحاها مع ما قد تحمله من مفاجآت وتطورات مرتبطة بالظروف العامة في البلاد (البعض يتخوف من اضطرابات او حوادث أمنية) من جهة والتصرفات الشخصية لكل من المرشحين المعلنين من جهة ثانية.

وترى الاوساط المتابعة ان المشهد الإنتخابي سيتبلور خلال شهرين بعد معرفة عدد من العناصر: اولها، نتيجة الانتخابات الداخلية لحزب “الجمهوريون” والشخصية التي سيقع الاختيار عليها، ثانيها، كيفية تبلور “ظاهرة” زيمور المثيرة للجدل، ثالثها، تعامل اليسار المعتدل المنقسم على نفسه مع تراجع التأييد لمرشحيه في استطلاعات الرأي.

الا ان الثابت الوحيد حتى الآن، وما تؤكد عليه استطلاعات الرأي وآراء المحللين، ان المزاج الانتخابي العام في البلاد متجه نحو اليمين. ولكن علامة الاستفهام الكبيرة تبقى هل من مفاجآت ممكنة ومعها الى أي يمين ستكون الغلبة في نهاية المعركة: المتشدد أم الوسطي؟

Print Friendly, PDF & Email
باريس ـ بشارة غانم البون

صحافي وكاتب لبناني مقيم في باريس

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  "سويفت".. سلاح الغرب للإطاحة ببوتين!