والباحث عن المرأة غالباً ما سيخرج مهزومًا لقصوره في تناول كلّ ما يلزم، فهي كائن شاسع المساحات إن جاز التعبير، كثير الطاقات والإمكانات، وغوره أشبه بدهاليز متشعبة، مترامية وعميقة. المرأة كالطبيعة، متقلبة بفصولها، ثابتة في عطائها، متغيّرة على الدوام. ويقابل كل ذلك أنها كائنٌ حساس يسهل كسره.
كثيرةٌ هي الرموز والإشارات التي أحاطت بماهية المرأة، ولكن كثيرة هي الصور التي شوّهتها أيضاً، وألبستها كسوة لم تغيرها تحولات العصور، على الرغم من ارتباط صورة المرأة في بعض المجتمعات القديمة بالآلهة الأنثى لإعتقاد سائد بأنها مصدر الخلق والقوة والحب والشجاعة والحرب، حتى انتشرت المسميات، وفقًا للمعتقدات السائدة، من قبيل آلهة السماء وآلهة الخصوبة وآلهة الحب إلخ..
غير أن ما بين الأمس الضارب في القدم، واليوم الضارب في التحديث والتجدد المستمرّين فرق، ولا سيّما بلحاظ عالمٍ متشابكٍ وقائم بذاته من شبكات التواصل الاجتماعي، وما يعنيه ذلك من أثر مباشر على تكريس هوية نسائية معولمة، لكنها هوية أصابت صورة المرأة بالكثير من التشوهات والندوب، كما حطّت من مكانتها؛ إذ أبرزت لنا المرأة عبر تقنيات عالية الجودة تقوم بإعادة رسم صورتها، ومنها تقنية المرشحات الالكترونية (Electronic digital filter)، وهي عبارة عن دوائر تؤدي وظائف معالجة الإشارات لإزالة مكونات التردد غير المرغوب فيها وتعزيز مكونات منمّطة أخرى. وعمليًا، سنجد أنفسنا أمام رسم إفتراضي يفوق قوة الرسم الواقعي، وأمام صور مركبة أو معدّلة تحتل خيالنا، وتُخزّن في ذاكرتنا ما قد يحاكي لاوعي الفرد، خصوصاً وأنّ غالبية الصور مرمّزة بطابع جنسي إغوائي. ومن الجدير ذكره هنا أننا بتنا نلاحظ من النساء من تخشى التواجد الواقعي في غياب أي من تقنيات الفلترة الرقمية، كأن البعض قرر الانسلاخ عن كل المعايير الإنسانية والثقافية والقيمية.
صحيحٌ أن العالم الرقمي أسهم مساهمة كبيرة في تمكين المرأة، إلا أنه كان في المقابل وسيلة في اختلال الموازين القيمية المتعلقة بمكانة المرأة، من خلال التركيز الأحادي الجانب على الجسد.
كلّ تلك الصفات الخرافية والتبخيس المستتر جعل من الخرافة حقيقة عبر “آلية التكرار”، ما قد يدفع المرأة إلى التصديق والإستسلام لهذا الواقع ويجعلها تبدو بخلاف ما هي عليه، حتى أنها تخدع نفسها؛ لأن في مبالغتها إبتعاد عن هويتها الحقيقية وعن ذاتها الأصلية
نحن إذاً أمام ما يمكن تسميته بـ”المجزرة الرقمية”، والتي تتسع يوماً بعد يوم مساحتها، ويمكن التماس ذلك حتى من النكات والمحتويات الصورية التي تهزأ من شكل المرأة أو من علاقتها بالرجل، وتسعى إلى تفريغ صورتها عبر تصويرها “نموذجًا” للفتنة والغيرة والخيانة، وأنها لا تهتم سوى بالتسوق والإسراف والتلاعب والمواقف المتذبذبة، وهي إشارات ستترك بطبيعة الحال انطباعات واضحة، لنجد أنفسنا أمام جيل متنمّر على قيمه ومعادٍ لأي تطور حقيقيّ يخص المرأة، بل جلّ همه صورة لا تصلح إلا للاستعراض الجسدي المادي أو لكلُّ ما يخصّه، في حين أنه بإمكان إلصاق صورة المرأة بصفات رائدة، حتى أنه قيل من ضمن ما قيل عنها: “لا تقع في حب امرأة تحس بمشاعرها أكثر، ولا تقع في حب امرأة مثقفة، ساحرة، ذكية، مجنونة بالتفاصيل، امرأة تفكر وتعرف، تهوى الفنون، والموسيقى، أو مهتمة في السياسة، متمردة، تحس بالرعب عندما يغيب العدل، مندفعة مليئة بالبهجة، غير خاضعة، عديمة الانحناء”.
في كتابه “المرأة: بحث في سيكولوجية الأعماق”، يجد بيار داكو (Pierre Daco) أن الاختزالات السالبة أو التبخيس الذي تعرضت له المرأة إتخذ أشكالا عدة منها: المرأة القاصر – الانفعالية – الماكرة – الخادمة – القاهرة – الطفلة – العاجزة – الغانية والغاوية إلخ.. وعلى الرغم من كونها صانعة الحياة، غير أن الرمز أحالها إلى درجة الجنيّة أو الساحرة.
لا مناص من القول، إن كلّ تلك الصفات الخرافية والتبخيس المستتر جعل من الخرافة حقيقة عبر “آلية التكرار”، ما قد يدفع المرأة إلى التصديق والإستسلام لهذا الواقع ويجعلها تبدو بخلاف ما هي عليه، حتى أنها تخدع نفسها؛ لأن في مبالغتها إبتعاد عن هويتها الحقيقية وعن ذاتها الأصلية، فيسود ما صنعته تلك الوسائل التي سوّغت صورة المرأة الآنفة الذكر بمسوغات ذات أبعاد حداثوية، وأدمجت الجسد بكل ما هو تجاري مصطنع.
ولعل عوامل أخرى ساهمت في تعزيز تقمّص المرأة لتلك الرموز، سواء عبر إيعاز من الرجل المُريد والمنتقد في آن، أو رغبة من المرأة في إرضائه وجذب انتباهه، ولأنها في تكوينها النفسي والجسدي أكثر ليونة من الرجل، ما قد يدفعها إلى محاكاة تلك الرموز بالشكل المطلوب، أو لأنها اعتادت أن تكون أيقونة له، أو مضحية لأجله كما هي في الحالة اللبنانية بحسب الطبيب والمحلل النفسي عدنان حب الله، الذي يصف في كتابه “جرثومة العنف” دور المرأة ومكانتها في “السلم والحروب”، بحيث كانت تؤدي برأيه وظيفة تضحويَّة؛ فبينما مثّلَ الرجل أدوار العنف والحروب، وبينما كان يرابط وراء المتاريس، كانت النساء في الخطوط الخلفيّة؛ وظيفتهنّ العناية بالأطفال في المنازل أو في المخيمات، وكان الأمر دائمًا على هذا النحو ولم يتغير دأب التاريخ؛ إذ تقع على كاهلها مهمة محو آثار الدمار ودفن الموتى التي خلفها الرجل المتأجج بالعنف؛ لتقوم هي بإعادة البناء وحمل شارات الحداد التي كانت هذه الأخيرة “مسؤولية نسائية بامتياز”.
لا شك أن المسؤولين عن التطبيقات الرقمية ومن يتناقلون تلك المحتويات لا يكترثون للآثار النفسية والمجتمعية لها، لكن مما لا شك فيه ايضاً أنه ليس من السهل محاربة تلك الإساءات الرقمية في هذا الفضاء المشاع.. لذا، على المرأة أن تعي ما يتمّ تداوله بقصد أو غير قصد، وأن تعي دورها الريادي “المقدّس” في الحياة، فتثبت هويتها الإنسانية بالتزام أهداف مستقلة إلى جانب دورها النبيل، وتكون أدوارها الأنثوية نتاجًا جانبيًّا لحياتها لا هدفًا رئيسيًا، بل تسعى لأن تصنع أهدافًا تناظر روح العصر مع التمسّك “بالأصالة” بالثوابت الحضارية الموروثة كونها قوة تمدّ الأجيال، وخاصة في ظل المستجدات الرقمية القابلة للتدحرج أسرع فأسرع والتدفق أكثر فأكثر، لكأننا نتجه للعيش في عالم إفتراضي بكل معنى الكلمة.