البيئة المقاومة.. من أين تستمد قوتها؟

في سؤالي لأحد المنخرطين الفاعلين في المقاومة اللبنانية: ما هي أبرز عناصر قوة المقاومة؟ أجاب بمفردة واحدة من دون طول شرح أو تفصيل: "البيئة". وعندما سألت إحدى الإمهات، وهي سيدة أعمال جنوبية، عن أهم عناصر قوة بيئة المقاومة، كان جوابها "العاطفة".

منذ عصور مضت، دأب الإنسان على إعداد نفسه وتمكينها لتأمين قوته وحفظ بقائه. وبحسب البحوث الانثروبولوجيّة، فإن قبائل العصور القديمة كان فيها مرحلة عمرية انتقاليّة يتم فيها اعداد الفتية حيث يقام حفل طقسي من قبل جماعة القبيلة احتفاءً بمن بلغوا تلك المرحلة العمرية؛ أي الانتقال من مرحلة الرعاية الأبوية إلى مرحلة الرشد المتعارف عليها في ذلك الوقت، وهذه المرحلة كانت عبارة عن دخول هؤلاء الفتية ميدان التدّرب على القتال مباشرة (الحماية من أي اعتداء تقوم به القبائل المنافسة) بعد أن كانوا ينعمون بتلك الرعاية آنفة الذكر.

وبرغم الاختلاف الشاسع بين الحضارات، ومع امتلاك الدول العظمى كل المقدرات التكنولوجية والعسكرية والمُحلقات الفضائية على أنواعها وصولًا إلى عتاد وعديد جيوشها الكلاسيكية أو التكنولوجية، إلا أن عنصر القوة للفرد المنخرط داخل الجماعة المحاط بدفئها يتفوق على قوة الجيوش.

وبناءً على ذلك، يُمكن القول إن قوة المقاتل وعزيمته تُستمد من الجماعة المحيطة وبالتحديد “البيئة الحاضنة”.. وكلما كانت هذه البيئة التي خرج المقاتل من رحمها متماسكة، كان عَزَمه في المواجهة مع الخارج أشدّ وأقوى وإرادته مستدامة. في المقابل، تمتلك إسرائيل آلة حرب متكاملة والكثير من المقدرات العسكرية واللوجستّية ودعم الدول لها ولا سيما الولايات المتحدة إلا أنها بحسب، معظم المحللين العسكريين، لا تمتلك قوة العنصر البشري؛ وبناءً عليه، جيشها غير قادر على خوض مواجهة برية فعلية على أرض المعركة؛ ففي حرب دامت 66 يومًا على طول حدودنا الجنوبية عجز هذا الجيش عن احتلال معظم القرى الحدودية الأمامية، كما بات معروفًا.

إن بيئة المقاومة قد شيّدت نفسها وتوسمت وتقوّت بفعل عوامل عدة، ذاتية وموضوعية، ولعل أبرزها الخطر الوجودي الذي يطل برأسه من وقت إلى آخر من ناحية الحدود الجنوبية، وثمة شواهد تاريخية يرفدها القلق المقيم والصور الحقيقية أو المتخيلة، ما يجعل هذه البيئة حيّة ومتماسكة؛ برغم كل ما يصيبها

يأخذنا ذلك إلى مقارنة سريعة بين جيش إسرائيلي انبنى، كما الكيان، على عقدة الاضطهاد (جنون الارتياب أو البارانويا) وكيف اجتمعت القوميات اليهودية المبعثرة على أرض فلسطين؛ أي أنها طارئة على الأرض التي تحتلها على أساس إيديولوجي، ما أنتج بطبيعة الحال فكرًا اضطهاديًا راسخًا في الوجدان تستعين به هذه الجماعة لتبرير الإبادة والتدمير.

بالمقابل، فإن المقاومة نتاج تاريخ وعقيدة؛ تاريخ ممتد من كربلاء المدرسة التي أصبحت ولّادة فلسفة التضحية ونصرة المضطهدين والمظلومين وتقبل المُصاب أسوة بالسلف، والاستعداد لتقديم المزيد من القرابين. عقيدةٌ مستمدةٌ من ولاية الفقيه.. والأهم أن المقاومين هم أبناء الأرض.

ويقول عالم الاجتماع الألماني فرديناند تونيز إن العائلة هي جذر الجماعة وأصلها الأول؛ إذ يعمل عامل الوراثة في عملية الانسجام والانصهار الذي يعمد بأفراد الجماعة الواحدة إلى تكوين كتلة كليّة تستبعد عنصر التمييز بين الأجزاء بوصفها وحدة متراصة، الأمر الذي من شأنه أن يخلق جوًا ما من الألفة والعاطفة فيصبح الأفراد بذلك يجسدون كيانًا واحدًا وذاتًا واحدة يسعى كل واحد فيها إلى نصرتها وتمكينها وحمايتها من أي عدوان خارجي وخطر داهم من شأنه أن يزعزع استقرارها أو يُهدّد كيانها؛ فكلما واجهت هذه الجماعة تهديدات خارجية زاد الميل لحدوث هذه الروابط حيث تفرض الظروف حاجة البقاء معًا لمحاربة التهديدات الخارجية.

وثمة عنصر لا يمكن الاستهانة به وهو قسمة العاطفة الموجودة في بيئة المقاومة والتي تجلّت في كل المراحل الصعبة، تضامنًا وتعاضدًا وشد أوزار، وقد أشار عالم النفس الإجتماعي جان ميزونوف إلى أهمية عنصر العاطفة في حياة الجماعات سواء في ما يختص بالتكافل الضمني أو بالتلاحم في المواقف حيال التغيرات. وأشار أيضًا الطبيب والمحلل النفسي سيغموند فرويد إلى ما أسماه “التوظيف العاطفي” وهو حاجة ملّحة لدى الأفراد المحيطين بعضهم ببعض.

ثمة عناصر أخرى مشتركة قد فرضت قسرًا على هذه البيئة ومنها عامل “القلق المشترك”؛ فوجود إسرائيل كفوّهة من الأطماع التي لا تهدأ مع كل حين، يدفع بالضرورة إلى حالة من القلق الجماعي الذي يجعل الناس في حالة من اليقظة والاستعداد الدائم، وهذه اليقظة وهذا القلق الجماعي كانا من بين عناصر القوة ولو كان البعض منهما متخيلًا. المحلّل النفسي الفرنسي ديديه أنزيو الذي وجّه أبحاثه عن الواقع النفسي للجماعات الإنسانية وجد في الجماعة مكانًا لتوليد الصدى وترفيد الصور فيما بينها، ما يعني المشاركة في القلق والمشاعر والتمثلات والإدراكات الحسيّة والأفكار بين أفرادها.

وعندما نسأل عينة من المواطنين عن سر ثقة الناس بالمقاومة، يأتي الجواب واحداً: “السيد”. برغم استشهاده ما تزال صورته وصوته محفورين في الذاكرة الجمعية وهو الذي ما قصّر في التعبير بكل المفردات العاطفية عن تقديره لجمهوره، فأصبح أيقونة بكل معنى الكلمة ولا سيما بخطابه المتقن، قوة وشجاعة ووعدًا بالنصر.

إقرأ على موقع 180  لبنان ينتفض من أجل مقاضاة جلاد معتقل الخيام

ويرى الطبيب والمؤرخ والفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون، في كتابه الشهير “سيكولوجيا الجماهير” أن هناك فئة من القادة “ينشرون أفكارهم بين الجماهير عن طريق التأكيد العاري والمجرد من كل مُحاجَّة عقلانية، مع تكراره باستمرار وبنفس الصياغات والكلمات؛ فينتهي به الأمر إلى الانغراس في تلك الزوايا العميقة من اللاوَعْي، حيث تُصنع كل دوافع أعمالنا، ومن ثَمّ تنتقل هذه الأفكار والعواطف والانفعالات بين الجماهير عن طريق العدوى الفكرية، وهذه الأفكار لا بد أن تمتلك قوة سِرِّية ندعوها الهيبة أو الاحترام، وهي نوع من الجاذبية التي يمارسها فرد ما على روحنا وتملأها بالدهشة والاحترام، وقد تكون هذه الهيبة مُكتَسَبة إما عن طريق الاسم أو الثروة أو الشهرة، وقد تكون ذاتية أو شخصية وتشكل مَلَكة مستقلة عن كل لَقَب أو كل سُلطة، وتجعل مَن حوله يطيعونه طاعة عمياء”.

إن بيئة المقاومة قد شيّدت نفسها وتوسمت وتقوّت بفعل عوامل عدة، ذاتية وموضوعية، ولعل أبرزها الخطر الوجودي الذي يطل برأسه من وقت إلى آخر من ناحية الحدود الجنوبية، وثمة شواهد تاريخية يرفدها القلق المقيم والصور الحقيقية أو المتخيلة، ما يجعل هذه البيئة حيّة ومتماسكة؛ برغم كل ما يصيبها، إذ لا يمكن لأي جماعة أن تحمي نفسها مهما كانت التأثيرات إلا ببناء جهاز نفسي جماعي كلّيَ يحتضن عناصر الجزء ولو كان بعض البنيان متخيّلًا.

Print Friendly, PDF & Email
سلوى الحاج

أخصائية نفسية، لبنان

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  مفاوضات لبنان.. هل يجوز مقارنتها بصلحي الحديبية وبريست ليتوفسك؟