الخيبة التي حصدها الجمهوريون في الإنتخابات النصفية في 8 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، عندما أخفقوا في إنتزاع مجلس الشيوخ من الديموقراطيين وبالكاد حصلوا على غالبية ضئيلة في مجلس النواب، هذه الخيبة عكست نفسها على الطريقة المذلة التي إنتخب بها كيفن مكارثي رئيساً للمجلس. إذ إستمرت جلسات الإنتخاب أربعة أيام تخللتها 15 دورة إقتراع، في سابقة لم تحدث منذ قرن. ولولا تدخل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب شخصياً مع النواب الجمهوريين المتمردين على مكارثي، لما كان في الإمكان إنتخابه، ولربما وقع الجمهوريون في ورطة أكبر. النواب المتمردون كانوا يشكّون في ولاء مكارثي لترامب.
الصراع بين الجمهوريين إزداد حدة منذ لحظة إعلان ترامب رسمياً بعد أسبوع من الإنتخابات النصفية، أنه سيترشح للمرة الثالثة للرئاسة منذ 2016. هناك جمهوريون أخذوا على ترامب تسرعه في الإعلان عن ترشيحه، بعدما أخفق في إحداث “موجة حمراء” كان وعد بها بينما مرشحون كثيرون مدعومون منه، لم يفوزوا في عدد من الولايات. يُعزى الأداء السيء للجمهوريين إلى حماستهم الشديدة لقرار المحكمة العليا بحظر الإجهاض في مقابل معارضة شرسة من الحزب الديموقراطي للقرار، مما أكسبه شعبية عوّضت ما خسره بسبب إرتفاع التضخم.
ولم يكن هذا كل شيء. فالفوز الساحق الذي حققه حاكم ولاية فلوريدا الجمهوري رون ديسانتس، والمكروه من ترامب، قد أعتبر بمثابة مؤشر إلى تراجع في شعبية الرئيس السابق وبداية صعود شخصية جمهورية يمكن أن تشكل منافساً جدياً للديموقراطيين في 2024، وأنه آن الآوان، بعد سنوات الصخب الشعبوي الذي مثّله ترامب، من العودة بالحزب الجمهوري إلى مسار اليمين التقليدي.
إلا أن ترامب تنبه إلى ما يجري، فسارع إلى إعلان ترشيحه ليقطع الطريق على رون ديسانتس، وعلى مرشحين محتملين آخرين مثل نائب الرئيس السابق مايك بنس أو وزير الخارجية السابق مايك بومبيو أو المندوبة الأميركية السابقة في الأمم المتحدة نيكي هايلي.
الأجواء الدراماتيكية التي رافقت إنتخاب كيفن مكارثي رئيساً لمجلس النواب، كانت درساً لمشرعين جمهوريين آخرين كي يحاذروا الذهاب بعيداً في التفكير بمرشح رئاسي غير ترامب. وأكبر مشكلة يواجهها الجمهوريون اليوم هي أنهم يدركون أن ترامب بات مشكلة بالنسبة إليهم، لكنهم في الوقت نفسه يخشون الخسارة من دونه.
ترامب هو الآن رجل محاصر بدعاوى قضائية تتعلق بتهرب مؤسسته من الضرائب، فضلاً عن مصادرة مئة من الوثائق السرية من منزله الخاص في منتجع مارالاغو بولاية فلوريدا وتعيين وزير العدل الأميركي مستشاراً خاصاً للتحقيق في أسباب إحتفاظه بهذه الوثائق وبعضها يتعلق بقضايا حساسة تخص الصين وإيران والأمن النووي الأميركي. هناك أيضاً إتهام اللجنة النيابية للتحقيق في أحداث 6 كانون الثاني/يناير 2021، لترامب بتحريض أنصاره على عملية إقتحام الكونغرس يومذاك، ومن أنه لم يفعل شيئاً للحؤول دونها. لكن هذا الإتهام غير ملزم ويعود لوزير العدل التقرير في المسألة.
بعد الإنتخابات النصفية والأداء المشجع للحزب الديموقرطي، رأى بايدن أنه الديموقراطي الوحيد القادر على هزيمة ترامب في 2024 وأن الإنتخابات المقبلة ستكون بمثابة جولة إعادة لإنتخابات 2020. أما الان فقد أصبح الوضع مختلفاً. فهل يمضي بايدن في إعلان ترشحه لولاية ثانية، أم يرجئه إلى وقت تهدأ فيه عاصفة الوثائق، أم يصرف النظر عنه؟
وإذا كانت هذه العوامل أضعفت ترامب، لكنه يبقى الأكثر تأثيراً في الحزب الجمهوري. وخير دليل على ذلك كان إمساكه بخيوط إنتخاب كيفن مكارثي.
مكارثي وإن كان خرج ضعيفاً من معركة رئاسة المجلس، لكنه سارع إلى التصويب على بايدن، وبدأ الحديث عن إحتمال فتح تحقيقات في إتهامات لهنتر بايدن نجل الرئيس الأميركي في ما يتعلق بسجل أعماله في أوكرانيا والصين، مضافاً إليها مسألة الإنسحاب الفوضوي من أفغانستان. كان هذا قبل الإعلان عن العثور على “عدد صغير من الوثائق المصنّفة سرية” في “خزانة مُقفلة” في مركز بن بايدن، للأبحاث والمرتبط بجامعة بنسلفانيا حيث كان لدى بايدن مكتب سابقاً إبان ولايتي باراك أوباما.. وبعدها بيومين الإعلان عن العثور على وثائق سرية أخرى في منزل بايدن الخاص في مدينة ويلمنغتون بولاية ديلاوير.
هذا التطور، أوقع بايدن في إرباك موازٍ لإرباك ترامب. وزاد من تشويش المشهد السياسي الأميركي وإستعداد كلا الحزبين لبدء معركة الرئاسة.
الآن تساوى بايدن مع ترامب في مسألة الإحتفاظ بوثائق سرية. وكما عُيّنَ وزير العدل مستشاراً خاصاً للتحقيق في وثائق عُثرَ عليها في منزل ترامب، كذلك عُيّنَ مستشار خاص للتحقيق في أسباب إحتفاظ بايدن هو الاخر بوثائق سرية.
بعد الإنتخابات النصفية والأداء المشجع للحزب الديموقرطي، رأى بايدن أنه الديموقراطي الوحيد القادر على هزيمة ترامب في 2024 وأن الإنتخابات المقبلة ستكون بمثابة جولة إعادة لإنتخابات 2020. أما الان فقد أصبح الوضع مختلفاً. فهل يمضي بايدن في إعلان ترشحه لولاية ثانية، أم يرجئه إلى وقت تهدأ فيه عاصفة الوثائق، أم يصرف النظر عنه؟ سؤالان ليس من السهل أن يحظيا بإجابة قطعية.
ترامب والجمهوريون سيتخذون من هذا الحدث رافعة لتعزيز حظوظهم الرئاسية ونزع صورة النزاهة التي يحرص بايدن على الظهور بها. وإذا ما فتح مجلس النواب الجمهوري تحقيقاً في القضية أو حتى في قضية نجل الرئيس، فإن ذلك من شأنه يؤثر على فرص بايدن للفوز بولاية رئاسية ثانية. وحتى لو مضى الجمهوريون في عرقلة التمويل الفيديرالي، فإن ذلك من شأنه إضافة عقبة أخرى في وجه بايدن.
الأمور لا تقف عند هذا الحد. وحتى المسألة الوحيدة التي كانت توحد الحزبين وهي أوكرانيا، قد يجد بايدن أمامه بعد الآن مجلس نواب لا يمنحه شيكاً على بياض بالنسبة للحرب وللمساعدات التي تجاوزت المئة مليار دولار في غضون 11 شهراً.
الأحداث الجديدة على الساحة الداخلية الأميركية في العامين المقبلين، تزيد في حدة إنقسام تجلى في إنتخابات 2020، إلى درجة أن رئيساً يزعم سرقة الإنتخابات منه من دون إقامة الدليل على ذلك، ولا يحضر مراسم التسلم والتسليم. والأدهى أن غالبية الجمهوريين وبينهم مُشرّعون يؤيدون سردية ترامب.
وهذه عدوى شعبوية ترامب إنتقلت إلى البرازيل التي شهدت قبل أيام إقتحاماً للقصر الجمهوري والبرلمان والمحكمة العليا من قبل أنصار الرئيس السابق جايير بولسونارو صديق ترامب، بدعوى تزوير الرئيس اليساري لويس إيناسيو لولا دا سلفا للإنتخابات التي أجريت في الخريف.. وأيضاً من دون تقديم الدليل.
الولايات المتحدة التي تظهر متماسكة وقوية في الخارج وتقود النظام الدولي منذ ثلاثة عقود بلا منازع، تتبدى في داخلها مظاهر معاكسة ويغلب على الكثير منها حالة من عدم اليقين.