إيران وباكستان.. الأصابع ليست على الزناد 

في المبدأ، لا تخلو علاقات دولتين جارتين من صعود وهبوط، أو برودة وسخونة، وهذا ما ينطبق بالإجمال على العلاقات الإيرانية ـ الباكستانية، إلا أن السؤال المطروح في هذه الأيام: هل يمكن أن تتوسع دائرة التوتر بين طهران وإسلام آباد لتصل إلى مواجهة او نصف مواجهة أو حتى إلى الربع؟

ليس في تاريخ العلاقات الإيرانية ـ الباكستانية مواطن لمرارات وصراعات حتى تستحضر لحظة التوتر الحالية “الذاكرة المشتعلة”، فمنذ استقلال باكستان عن الهند عام 1947، سارت عجلة العلاقة بين الطرفين على جادة شبه مستقيمة، كان يتخللها بطبيعة الحال متعرجات ونتوءات، سرعان ما كان يُصار إلى احتوائها، لتعود معادلة حُسن الجوار إلى جادتها المطلوبة.

حين استقلت باكستان، كانت إيران في طليعة الدول التي اعترفت بالدولة الوليدة المنفصلة عن الهند، وحين أسقط الإيرانيون نظام الشاه عام 1979، كانت باكستان من أوائل الدول التي اعترفت بالنظام الإسلامي الجديد.

هذان المفصلان التاريخيان، لا يمكن فصلهما عن مسار العلاقات بين طهران وإسلام أباد، كما لا يمكن فصل منعطفات الحروب الضروس التي تعرض لها البلدان عن سيروة العلاقة الثنائية بينهما، فإيران وقفت إلى جانب باكستان في الحربين اللتين خاضتهما الهند ضد “الدولة المنشقة” في عامي 1965 و1971، بحيث أدت الحرب الثانية إلى انفصال بنغلادش عن باكستان، ولولا الموقف الإيراني آنذاك، لكانت الهند تابعت مسيرة تفتيت باكستان من خلال محاولتها “تثوير” قومية البلوش ودفعها إلى الإنفصال عن الدولة الباكستانية كما كانت الحال مع إقليم البنغال المتحول إلى دولة بنغلادش.

وفي المقابل، كان الموقف الباكستاني أقرب إلى إيران خلال الحرب مع العراق، والتي امتدت ثماني سنوات (1980 ـ 1987)، فباكستان لم تغفر للعراق دوره في تمويل وتسليح أقلية البلوش مُنسقاً ومتفاعلاً مع عدوها اللدود الهند، ولذلك شكّلت باكستان مصدراً من مصادر إيصال العتاد والسلاح إلى إيران المحاصرة آنذاك، وأكثر من ذلك، ثمة من يرى في الدوائر الغربية أن العالم النووي الباكستاني عبد القدير خان (1935 ـ2021) اضطلع بأدوار محددة في تغذية روح التعاون العلمي بين الدولتين الجارتين.

من غير المرجح أن تتجه العلاقات الإيرانية ـ الباكستانية إلى موضع التفجير أو الإنفجار جراء الحادثتين الأخيرتين المتمثلتين بالقصف المتبادل، إذ ليس من مصلحة الطرفين الإندفاع نحو التفريط بأمنهما القومي، أو التهاون بتاريخ طويل من انضباط العلاقات بينهما، وأما قضية قومية البلوش، فمن مصلحة الطرفين احتواءها

وإذا كان من الثابت أن ايران الشاهنشاهية قد دخلت في أحلاف ومواثيق مع باكستان، كما كان الحال مع “حلف بغداد” عام 1955، وحلف “السانتو” عام 1959، فإيران الإسلامية اتخذت من توطيد العلاقة مع الجار الباكستاني قاعدة في سياستها الخارجية، خصوصاً وأن سنوات ما بعد إسقاط الشاه شهدت انفجار العلاقة مع العراق إثر الحرب المُعلنة عليها، فيما الحدود مع افغاستان كانت هي الأخرى ملتهبة بفعل الغزو السوفياتي وردة الفعل الأفغانية ـ الدولية على الغزو، وفي الوقت نفسه، تموضعت العلاقات الإيرانية ـ الخليجية في دائرة الإضطراب طوال عقد الثمانينيات وما بعده من القرن العشرين الماضي، لأسباب عدة من بينها الحرب العراقية على إيران.

إن الإجتياح السوفياتي عام 1979 لأفغانستان وحرب الخليج الأولى، دفعا ايران وباكستان للحفاظ على ثبات علاقاتهما واستقرارها، فإيران رأت أنه ليس في صالحها أن تقف عند كل واردة أو شاردة من باكستان فيما أحزمة النار تحاصرها على الحدود العراقية ـ الأفغانية ـ الخليجية، وبعد ذلك أطلت عليها الحدود الآذرية بعدما رفعت أذربيجان إثر انهيار الإتحاد السوفياتي شعار “أذربيجان الكبرى”، في حين ان باكستان رأت في الغزو الأحمر لجارها الأفغاني، حرباً ثالثة عليها يخوضها الروس المتحالفون مع الهند عدو باكستان الأبدي، فموسكو شاركت نيودلهي في حربيها المذكورتين سابقاً ضد إسلام آباد، وفي آليات التفكير الباكستانية حينذاك أن أي ترسيخ للنفوذ السوفياتي في أفغانستان، سيلحقه حتما ترسيخ للنفوذ الهندي في بلاد الأفغان، وهؤلاء ما انفكوا يطالبون بأراض وأقاليم باكستانية من ضمنها مناطق قبائل “البشتون” وفي صلبها مدينة بيشاور.

هذه المنعطفات التاريخية المتفاعلة إيجابياً بين إيران وباكستان طوال أكثر من سبعة عقود، لم تمنع حدوث اختراقات سلبية في فضاء العلاقات، ففي منتصف الثمانينيات حين اشتدّت “حرب الناقلات” بين إيران والولايات المتحدة، أصابت “الحيرة” الموقف الباكستاني فانتهجت إسلام آباد “سياسة رمادية” فلم تقف مع طهران ولم تذهب مع واشنطن، وحين شاعت روائح الدعم الباكستاني ـ الأميركي لإنطلاقة حركة “طالبان” عام 1994، وراحت تنتشر قواتها في أنحاء افغانستان كانتشار النار في الهشيم، حافظت طهران على خطاب دبلوماسي معتدل تجاه باكستان، وحتى بعدما اغتالت “طالبان” طاقماً دبلوماسياً إيرانياً في مدينة مزار شريف الأفغانية في الثامن من آب/أغسطس 1998، وما أعقبه من حشود عسكرية إيرانية على الحدود مع أفغانستان قاربت 200 ألف ضابط وجندي، لم تذهب إيران إلى إطلاق خطاب تعبوي وصدامي ضد باكستان، على خلفية علاقة الأخيرة بحركة “طالبان”.

بصورة عامة، لا تنظر باكستان إلى إيران كدولة معادية، ولم يحصل في العقود السبعة الأخيرة أن اصطدمت باكستان مع إيران أو اقترب الطرفان من المواجهة، ولا تتنازع الدولتان حول حدود أو إقليم، كما أن العقل الإستراتيجي الباكستاني يعتبر الهند عدواً وجودياً، وهذا العقل ينظر إلى أفغانستان كمصدر تهديد أمني مستدام، وفي الجانب الموازي، لا ترى إيران في باكستان عدواً، فتحدياتها الأمنية تأتي من أفغانستان وأذربيجان، ومن الوجود الأميركي في الدول المحيطة بها، كما أنه لم يحدث منذ عام 1979 أن اتهمت إيران جارتها باكستان بالتدخل في شؤونها الداخلية، وهذا أمر ينطبق على باكستان أيضاً، وزيادة على ذلك، ففي مجمل المواجهات الهندية ـ الباكستانية في العقود الأربعة الفائتة، كان الخطاب السياسي والإعلامي الإيراني أقرب إلى باكستان، برغم العلاقات الإيرانية ـ الهندية الجيدة.

إقرأ على موقع 180  من دلتا إلى لامدا.. الموجة الفيروسية الرابعة آتية!

ووفق هذه الصورة، من غير المرجح أن تتجه العلاقات الإيرانية ـ الباكستانية إلى موضع التفجير أو الإنفجار جراء الحادثتين الأخيرتين المتمثلتين بالقصف المتبادل، إذ ليس من مصلحة الطرفين الإندفاع نحو التفريط بأمنهما القومي، أو التهاون بتاريخ طويل من انضباط العلاقات بينهما، وأما قضية قومية البلوش، فمن مصلحة الطرفين احتواءها، ففي الدولتين أقليات بلوشية ولهذا الملف ما له، على جاري حكايات الأقليات في العديد من بلدان العالم. كما أن المجموعات الإنفصالية تُشكّل تهديداً مشتركاً للبلدين.

وعلى هذه الحال، ثمة تقديرات بأن تتشكل على وجه السرعة، ملامح وبوادر “رأب الصدع” وبحسب تقديرات الضالعين في شؤون البلدين، ليس في مصلحة كليهما استمرار التصعيد أو توتير حدود مشتركة طولها حوالي 1000 كلم، أو أن يتواجه 340 مليون شخص (90 مليوناً في إيران و250 مليوناً في باكستان) فأية أرباح في ذلك وأية مكاسب؟

لا أرباح ولا مكاسب من التصعيد، ولذلك، فالمتوقع أن يكون “الإحتواء سيد الأحكام” بل سيد الحكمة.. ومن أجدر من الصينيين بهكذا دور ربطاً بمصالحهم الكبيرة في كل من باكستان وإيران.

ختاماً، يقول المثل الصيني: “ليس العطاء دائماً بالمنح، بل أحيانا يكون بالمنع، فكتمان الغضب، وستر أسرار الناس، وكفّ اللسان، من أحكم أنواع العطاء”..

Print Friendly, PDF & Email
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  حتى لبنان كان في انتظار لافروف في أبو ظبي