ديفيد هيل: حاكم “المركزي” بأهمية رئيس الجمهورية!

النُخب اللبنانية منغمسة في تجاذب سياسات القوة لانتخاب رئيس للجمهورية، في حين تتهرب من خطة إصلاح يضعها صندوق النقد الدولي. في غضون ذلك، يكافح المواطنون للبقاء واقفين على أقدامهم وسط إفلاس دولتهم. وبالتالي، ما يجب أن تفعله أميركا من أجل تحقيق تقدم في هذا البلد هو إعطاء الأولوية لتعزيز مؤسسات الدولة، بحسب ديفيد هيل(*).

إن الإنقسام الواقع في لبنان، بين النخب السياسية من جهة والمواطنين من جهة أخرى، واضح جداً. فالنُخب تركز جُل اهتمامها على إثبات سياسات القوة لديها أكثر من اهتمامها بموضوع انتخاب رئيس للبلاد، وفي الوقت نفسه تعمل المستحيل لكي تتهرب من خطة الإصلاح- المؤلمة والضرورية- التي يفرضها صندوق النقد الدولي. أما المواطنون فهم في حالة غضب من “الإفلاس الحرفي والمجازي” الذي أصاب دولتهم. ففي تقرير معهد “غالوب” نشره في عام 2022، عن حالة المزاج والعاطفة في العالم، تبين أن اللبنانيين هم ثاني أكثر الشعوب شعوراً بالغضب من بين 122 دولة شملهم الإستطلاع، وبفارق نقطة واحدة فقط عن الأفغان. ومع ذلك، لم يتحول هذا الغضب الشعبي بعد إلى ضغط سياسي ذي مغذى، لأنه مزاج مقيد بنظام طائفي يجعل تحقيق الوحدة الشعبية مهمة صعبة.

 شغور منصب رئاسة الجمهورية يضاعف من الشلل الذي يصيب البلد.. رئيس الوزراء السني هو الرئيس بالنيابة، ولكن مع وضع رمزي فقط

في أفضل الأوقات، بالكاد نرى هياكل الحكم في لبنان تمارس عملها. وهذا الوضع عن سابق قصد وتصميم، لضمان عدم تمكن أي فصيل أو مجموعة طائفية من السيطرة على الآخرين. لكن لبنان الآن يمر بأسوأ الأوقات. منذ أن غادر الرئيس ميشال عون منصبه، في 30 تشرين الأول/أكتوبر 2022، وحكومة الرئيس نجيب ميقاتي في وضع تصريف أعمال مع قيود قانونية على عملها. وما يضاعف من هذا الشلل شغور منصب رئاسة الجمهورية. رئيس الوزراء السني هو الرئيس بالنيابة، ولكن “رمزياً” فقط. حتى أن أحد الأشخاص المقربين من ميقاتي وصف دوره بـ”بوَّاب البناية”، الذي يستطيع تغيير مصباح أو إصلاح نافذة، ولكن لا شيء أكثر من ذلك أبداً.

لعبة انتظار الرئاسة

كل ست سنوات، يخوض اللاعبون السياسيون اللبنانيون الرئيسيون معركة لانتخاب رئيس ماروني، وهي سلطة منوطة بالبرلمان. يتطلب النصر في هذه المعركة الحصول على أصوات ثلثي أعضاء البرلمان؛ الحد الأدنى للنصاب القانوني. البرلمان الحالي مجزأ. ولا يوجد مرشح واحد في هذه المرحلة لديه الدعم الكافي للوصول إلى سدة الرئاسة، أو حتى للحصول على الأغلبية. إذا كانت هناك لحظة للنُخب السياسية اللبنانية لكي تلعب دورها وفقاً لقواعد جديدة، فستكون هذه اللحظة هي الآن.

ومع ذلك، ووفقاً للممارسات السابقة، فإن معظم المرشحين قد وضعوا أنفسهم في لعبة انتظار أفعال وردود فعل أصحاب النفوذ المتصورين، طويلة الأجل. وبما أن اللاعبين المسيحيين الرئيسيين يتنافسون بشكل مباشر أو غير مباشر على المنصب، فإن القادة المسلمين يلعبون دوراً حاسماً في هذا الأمر. فالسُنة في لبنان ضعفاء في الوقت الحالي وبلا قيادة. ومع غياب سعد الحريري، جاءت مشاركتهم في الانتخابات البرلمانية الأخيرة (عام 2022) ضعيفة جداً.

من خلال عملية الإقصاء، يبدو أن حزب الله يستعد لأن يكون “صانع الملوك” مرة أخرى. ومع ذلك، يجب عليه أن يدير منافسة شرسة بين حلفائه الموارنة، سليمان فرنجية، ورئيس حزب التيار الوطني الحر جبران باسيل، وذلك على الرغم من أن تعريفهما من خلال علاقتهما مع حزب الله هو تشويه للسياسة اللبنانية.

في المرحلة الراهنة، لا توجد علامة حقيقية على تدخل خارجي مباشر بخلاف البيانات المبدئية التقليدية

اللبنانيون، على اختلافهم، يتوقعون أو يخشون، أو ينادون بتدخل أجنبي من دول لها مصالح خاصة في لبنان؛ مثل السعودية وقطر وفرنسا وإيران والولايات المتحدة وسوريا. قد يسخر الغرباء من هكذا موقف، لكن لا يمكن إنكار أن أكثر من نصف رؤساء الجمهورية اللبنانية- الثلاثة عشر- قد تم اختيارهم في عمليات انتخابية توسطت فيها دول أجنبية أو أثّرت عليها. في المرحلة الراهنة، لا توجد علامة حقيقية على تدخل خارجي مباشر بخلاف البيانات المبدئية التقليدية، وذلك على الرغم من أن اللبنانيين يراقبون عن كثب.

على أي حال، أياً كان من سيحصل على الأغلبية ويصل إلى الرئاسة، فسوف يتولى المنصب كجزء من “حزمة” تشمل: اختيار رئيس الوزراء السني، وتشكيل حكومة متوازنة طائفياً، ويمضي في تنفيذ استراتيجية صندوق النقد الدولي، ويضع خطة لصياغة قانون انتخابي لعام 2026. وسيكون لجميع زعماء الطوائف الرئيسية في لبنان رأي في هذه “الرزمة”.

الإصلاح والنمو.. أو الإنهيار

المشكلة ليست فقط أنه لا يوجد محرك يدفع هذه العملية الإنتخابية المعقدة إلى الأمام، بل وأيضاً لا يوجد جدول زمني لوضع حد للفراغ الرئاسي. في نهاية حزيران/يونيو 2023 موعد نهائي غير رسمي ومحتمل لانتهاء ولاية حاكم البنك المركزي رياض سلامة. ويُعد سلامة واحداً من أبرز أربع شخصيات مارونية في البلاد. واختيار خليفة لسلامة مهمة مستحيلة من دون وجود رئيس جمهورية، كما أن التجديد له أمرٌ مستبعدٌ سياسياً. وفي حالة شغور منصب الولاية، يتولى نائب المحافظ؛ الشيعي؛ مهام إدارة أمور البنك المركزي، الأمر الذي من شأنه أن يخلق اختلالا في التوازن الطائفي. موضوع البنك المركزي بالنسبة لواشنطن هو بأهمية اختيار رئيس للجمهورية. إن وجود محافظ جديد، يحظى بالإحترام أمر بالغ الأهمية إذا كان لأجندة الإصلاح أن تستعيد الثقة في المؤسسات المالية والعملة اللبنانية. وتتطلب الثقة وجود حاكم مصرف مركزي قادراً على التصرف وفق خطة صندوق النقد الدولي، وفي الوقت نفسه يلتزم بشراكة قوية مع المجتمع المالي الدولي من أجل مكافحة تمويل الإرهاب وتبييض الأموال.

من المقرر إجراء الانتخابات البلدية في أيار/مايو 2023. ولا يوجد أي سبب قانوني أو غير قانوني يحول دون إتمام العملية على المستوى الوطني، فهذه فرصة للمواطنين للتعبير عن مطالبهم. ومع ذلك، فإن هذه النقطة بالذات قد تُحفزّ المتنافسين الرئاسيين على تأجيل الانتخابات المحلية. وبالنظر إلى العداء العام تجاه المصالح الخاصة، قد يفضل المرشحون المحتملون للرئاسة وحلفاؤهم تجنب أي اختبارات شعبية محلية محفوفة بالمخاطر.

إقرأ على موقع 180  الدين يتحرر من الرأسمالية.. بانتصاره للإنسان

إن استقرار لبنان وقدرته على البقاء على المحك. لقد أدَّى الشلل والتشتت الناجم عن الشغور الرئاسي الطويل إلى تعليق العمل المطلوب لتنفيذ حزمة وضعها صندوق النقد الدولي، كخطوة أولى لاستعادة الإستقرار الاقتصادي والمالي في البلاد. فمن دون وجود رئيس في سُدة رئاسة الجمهورية لن يكون هناك أي إمكانية لإعتماد قوانين الإصلاح المطلوبة لإطلاق برنامج صندوق النقد الدولي. كما أن البيئة الشعبية مسيَّسة بشدة لدرجة تجعلها غير قادرة على إنجاز أي تغيير في أي حال. أضف إلى ذلك أن دعم النُخبة لحزمة صندوق النقد الدولي بدأ يتراجع. ويُشار إلى التحويلات الواردة الثابتة، والاحتياطيات الأجنبية المستقرة، والآفاق التي لا تزال بعيدة المنال لإيرادات الغاز البحري كلها أسباب لتفادي الاستسلام لشروط صندوق النقد الدولي، ولتمكين الفاسدين- الذين يعملون لمصالحهم الشخصية فقط- من الحصول على أدوار إضافية. وهذا منطق وهمي وخطير. الخيار الحقيقي أمام اللبنانيين هو: الإصلاح والنمو أو إبقاء الأمور كما هي، وبالتالي الإنهيار.

السياسة الأميركية

لا يزال الدعم الأميركي لمؤسستي الجيش والدرك يحظى بشعبية، وهو حجر الزاوية في استراتيجية الولايات المتحدة، على الرغم من أن القيود السياسية الداخلية منعت لبنان من التحرك نحو تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1701، الذي دعا الجيش لفرض كامل سيطرته على الجنوب اللبناني. والواقع أن موقف “الحب القاسي” الذي تتبناه أميركا تجاه لبنان، والذي يربط مساعداتها بتنفيذ الإصلاحات الهيكلية يحظى بالإحترام. لقد تولت أميركا قيادة مشاريع الإغاثة الإنسانية منذ انفجار مرفأ بيروت في صيف العام 2020، وقدمت مساعدات بقيمة 800 مليون دولار لشركاء من خارج الحكومة.

كثيرون رحبوا باتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل في تشرين الأول/أكتوبر 2022، الذي توسطت فيه الولايات المتحدة، والذي يتيح استكشاف واستخراج الغاز. بمرور الوقت سيجلب هذا الإتفاق منافع اقتصادية، وسيتعارض مع منطق “مقاومة” إسرائيل. “الصفقة” دليل على أن الحلول الدبلوماسية يمكن أن تنجح، وأنه يمكن تغيير الوضع الراهن في الجنوب، والذي يخدم إيران وحدها حالياً. لكن أي تعزيز للدخل سيحدث في وقت لاحق، ولا يزال يتعين علينا رؤية استراتيجية تتعامل بفعالية مع حزب الله وأسلحته الإيرانية.

بالنسبة للدبلوماسية الأميركية، تشكل الانتخابات الرئاسية اللبنانية مشكلة وفرصة في آن واحد. فقد أصدرت أميركا وفرنسا والسعودية بياناً مشتركاً غير عادي في جلسة افتتاح الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر 2022 يدعو إلى إجراء انتخابات في الوقت المناسب حتى يصير بالإمكان الدفع بملف الإصلاحات نحو الأمام. وقد أظهر ثلاثة من الحلفاء الرئيسيين حسن النية وصدق التصميم أمام الشعب والدولة، مما يوفر منصة لإنقاذ الوضع المالي والإقتصادي.

ابتعاد أميركا عن الساحة اللبنانية يعني تنازلاً للآخرين ذوي المصالح غير الحميدة.. كذلك الضغوط لملء الشغور الرئاسي بأي ثمن قد يؤدي إلى نتيجة مؤسفة

حتى الآن، ليس هناك ما يوضح ما هي الخطوة الأميركية التالية. صحيح أنه لا يوجد سبب يدعو الدول الأجنبية إلى التوسط مرة أخرى في اختيار رئيس للبنان، لكن غياب أميركا سيضمن تقريباً تمكين الدول الأخرى ووكلائها من القيام بذلك. علاوة على ذلك، فإن التلويح المستمر بالأصابع حول مخاطر شغور رئاسة الجمهورية يمكن أن يكون له عواقب غير مقصودة. شغور المنصب الرئاسي أمرٌ سيء، لكن التدافع نحو انتخاب الرئيس الخطأ سيكون أسوأ. وبطبيعة الحال، فإن اللبنانيين يحكمون على من هو الأنسب ليعكس إرادتهم، وعليهم أن يعملوا مع مجلسي النواب والوزراء للمضي قدماً في الإصلاحات. لكن إبتعاد أميركا المفرط عن الميدان من شأنه أن يترك المجال مباحاً لمن لديهم مصالح غير حميدة، في حين أن الضغوط لملء المنصب الشاغر بأي ثمن قد يؤدي إلى نتيجة مؤسفة.

فن الحكم الناجح

يتطلب فن الحكم الأميركي الناجح في هذا المنعطف جهداً نشطاً وعلى مستويات متعددة. يجب أن لا يبدو المسؤولون الأميركيون وكأنهم يقومون بفحص المرشحين للرئاسة، ولكن يجب أن يظلوا على تواصل محترم ومستمر مع جميع الطوائف وقادتها؛ بما في ذلك المرشحين للرئاسة؛ باستثناء أولئك الذين لديهم سجل في الدعوة إلى الإرهاب أو إدارته وتمويله. الوقت ليس مناسباً لفرض عقوبات على من نختلف معهم، كما انه ليس وقت إتباع نهج “عدم التدخل” بحجة الحياد.

هذا هو الوقت المناسب لبناء توافق في الآراء، والطريقة الوحيدة لإنجاح عملية انتخاب رئيس للجمهورية. والأمر يتطلب العمل عبر خطوط الصدع اللبنانية. في قضية إصلاح الدولة واستعادة لبنان إستقراره، على أميركا أن لا تكون محايدة. الإكتفاء بالحديث عن لبّ المعضلة لن يؤدي إلى نتائج، ولا إلقاء اللوم على الآخرين، مثل تحميل حزب الله مسؤولية الفساد. وحده العمل على بناء قاعدة من اللاعبين الأقوياء المتنوعين الذين لديهم مصلحة في التغيير، هو ما سيحقق الإنجازات المطلوبة.

الدور الأميركي يجب أن ينصب على تقوية الدولة ومؤسساتها الضعيفة. فكل خطوة ممكن أن تساعد في إعادة بناء الدولة هي خطوة في إتجاه تقويض حزب الله، حتى تلك التي يتم اتخاذها مع شركاء غير مثاليين. ومن دون وجود دولة قوية وفاعلة، فإن أي طموح طويل الأمد لإحتواء حزب الله وغيره من مصادر العنف وعدم الاستقرار سوف يفشل في لبنان.

– النص بالإنكليزية على موقع “ويلسون سنتر

(*) ديفيد هيل: وكيل وزارة الخارجية الأميركية السابق للشؤون السياسية. وسفير سابق في باكستان ولبنان والأردن.

Print Friendly, PDF & Email
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  طرابلس "عروس الثورة" وشرارة الإنفجار الآتي