تعرف القارئة أو القارئ المصرى والعربى الكثير عن عملية صنع السياسة الخارجية فى الولايات المتحدة، والتى يقوم بها جهاز ضخم يلعب فيه الرئيس الأمريكى دورا أساسيا. يساعد الرئيس مجلس الأمن القومى بالأساس، والذى يتواجد مكتب رئيسه على بعد عدة خطوات فقط من مكتب الرئيس البيضاوى فى الجناح الغربى بالبيت الأبيض. تشمل عملية صنع سياسة واشنطن الخارجية أدوارا مركبة ومتطابقة ومتشابهة تقوم بها بيروقراطية وزارة الخارجية، وأجهزة الاستخبارات المختلفة، ومجلسا الكونجرس، كما تلعب مراكز الأبحاث والجامعات وشركات اللوبى ووسائل الإعلام أدوارا مختلفة تساهم بصور عديدة ــ تختلف باختلاف القضية ــ فى تشكيل سياسة واشنطن الخارجية.
***
خلال الحرب الباردة، لم تكن الولايات المتحدة بحاجة إلى وزارة خارجية قوية للانخراط فى الدبلوماسية التقليدية التى تركز على الدور الرسمى للدولة فحسب، بل احتاجت أيضا إلى شبكات متطورة لجمع المعلومات الاستخباراتية، وإلى أدوات تُنشأ من خلالها قوة ناعمة طويلة الأجل.
واليوم تعمل الصين وتستعد لمواجهة ومنافسة الولايات المتحدة، وتعد سياسة الصين الخارجية أحد أهم ساحات المواجهة الكونية التى يراها البعض حربا باردة جديدة بين واشنطن وبكين.
تصنع الصين سياستها الخارجية معتمدة على ثلاث دعائم هى وزارة الخارجية، وإدارة الاتصال الدولى، وإدارة عمل الجبهة المتحدة. ويلعب كل من هذه المؤسسات دورا مساندا لقيادة الحزب الشيوعى الصينى، وعلى رأسها الرئيس شى جين بينج، الذى تعود إليه فى النهاية سلطة اتخاذ القرار، وتحديد موقف بكين تجاه القضايا العالمية المختلفة.
***
تُعد وزارة الخارجية الجهة التقليدية الأبرز لصنع السياسة الخارجية الصينية، فهى مسئولة عن إدارة العلاقات الدبلوماسية اليومية مع دول العالم المختلفة، والمنظمات الدولية والإقليمية. إلا أن دورها انحسر وتراجع خلال العقد الأخير لصالح لجنة الشئون الخارجية المركزية فى الحزب الشيوعى الصينى. وأصبح دور وزارة الخارجية الصينية مقتصرا على الوظائف البروتوكولية والقنصلية.
منذ تأسيس الرئيس شى جين بينج للجنة الشئون الخارجية المركزية بالحزب الشيوعى عام 2018، أصبح للحزب الشيوعى وللرئيس جين بينج دور متضخم فى التأثير الشخصى والحزبى على صنع السياسة الخارجية. وترك التضخم دور اللجنة وزارة الخارجية معزولة إلى حد كبير عن عملية صنع السياسات الخارجية، وأصبحت تعمل كذراع مكمل للحزب الشيوعى الصينى.
ادعاء الصين أن سياستها الخارجية تهدف إلى «تحقيق السلام العالمى» و«التنمية المشتركة»، تحت عنوان عريض هو «مجتمع إنسانى مصير مشترك» يصبح فقط ادعاء لا وجود له على أرض الواقع. فعلاقات الصين المتوترة مع كل جيرانها باستثناء روسيا، يدفع بشكوك فى الأهداف الفعلية لبكين من وراء سياساتها الخارجية
فى الوقت ذاته، يمتلك الحزب الشيوعى الصينى إدارته الخاصة لتعزيز أجندة منفصلة للسياسة الخارجية، وهى «إدارة الاتصال الدولى» (ILD)، والتى لا تحظى إلا باهتمام ضئيل جدا فى وسائل الإعلام الأجنبية، على الرغم من دورها الحاسم فى دعم الحزب الشيوعى الصينى. وبينما تقوم وزارة الخارجية بدبلوماسية تقليدية كممثلة رسمية للصين مع دول العالم، تقوم «إدارة الاتصال الدولى» بمهام التواصل مع الأحزاب السياسية حول العالم للترويج لدبلوماسية الحزب الشيوعى الصينى.
كما لم يعد دور ILD مقتصرا على تعزيز العلاقات مع الأحزاب الشيوعية والاشتراكية الأخرى فقط، بل يزداد دورها فى مختلف دول العالم حيث أصبحت تركز على تحديد هوية السياسيين الطموحين والنافذين والإعلاميين داخل الأحزاب المختلفة حول العالم من أجل ضمان دعمهم لأهداف السياسة الخارجية الصينية. وتلجأ ILD إلى استخدام آلية التدريب (تدريب الكوادر) كعنصر مركزى فى منهجها، وتدعم وتنظم الرحلات المجانية إلى الصين، كما تمول ILD برامج التدريب المهنية للكثير من ساسة وإعلاميى العديد من الدول خاصة فى النصف الجنوبى من الكرة الأرضية.
أخيرا، تؤمن ILD أن المنافسة بين الولايات المتحدة والصين متعددة الأبعاد وطويلة الأجل، من هنا تركز استراتيجيتها على تحقيق مكاسب طويلة الأجل.
***
يملك الحزب الشيوعى كذلك جهازا يُطلق عليه «إدارة عمل الجبهة المتحدة» (UFWD)، وبينما تستهدف وزارة الخارجية الدولة فى صورتها الرسمية، وتستهدف ILD الأحزاب والكوادر حول العالم، تستهدف UFWD التواصل مع أكثر من 40 مليون صينى وصينية فى الشتات، والذين يتركزون فى دول جنوب شرق آسيا وشمال أمريكا.
وعلى الرغم من تكرار الحكومة الصينية لمقولة «لا نتدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخرى»، فمن وجهة نظر العديد من المراقبين لا يمكن فهم دور UFWD إلا فى هذا الإطار. ويقوم UFWD بمهمة التلقين الأيديولوجى الصارم للشركات الصينية الخاصة الكبرى التى لها ردود حول العالم مثل شركة هاواوى، وتيك توك وغيرهما.
***
من الطبيعى أن يصاحب الزيادة الضخمة فى حجم اقتصاد الصين، توسع فى قدرات جيشها وصناعاتها العسكرية، مع سعى لبسط هيمنة استراتيجية على جيرانها أولا فى مناطق شرق وجنوب آسيا، قبل الانطلاق عالميا. وبالفعل شهدت السنوات الأخيرة تمدد نفوذ بكين العسكرى فى بحر جنوب الصين، من خلال إنشائها للعديد من الجزر الصناعية خارج مياهها الإقليمية لاستخدامها كقواعد عسكرية. وتقوم الصين دورياً بمضايقة أساطيل الصيد التابعة للدول المطلة على البحر مثل فيتنام وماليزيا، والفلبين، وتايوان، وإندونيسيا.
وبالطبع ليس سرا أن الصين تسعى لتقوية مكانتها ونفوذها الدوليين بما يمكنها من لعب دور أكبر فى القضايا الدولية المختلفة. ومن حق الصين تحدى الهيمنة الأمريكية ومنافسة واشنطن اقتصاديا، وعسكريا، وتكنولوجيا. إلا أن ادعاء الصين أن سياستها الخارجية تهدف إلى «تحقيق السلام العالمى» و«التنمية المشتركة»، تحت عنوان عريض هو «مجتمع إنسانى مصير مشترك» يصبح فقط ادعاء لا وجود له على أرض الواقع. فعلاقات الصين المتوترة مع كل جيرانها باستثناء روسيا، يدفع بشكوك فى الأهداف الفعلية لبكين من وراء سياساتها الخارجية التى تديرها ويتحكم فيها مؤسسات لا مثيل لها فى العالم مثل الحزب الشيوعى على سبيل المثال.
(*) بالتزامن مع “الشروق“