إذا كان هذا الإعتقاد صحيحاً الی حد بعيد؛ إلا أن الصحيح أيضاً أن الحراك المتصاعد في تلك الدول لأسباب داخلية في معظمه، والفشل في التفاهم بين أبناء البلد الواحد، لا يعطيان إشارات مشجعة للآخرين من أجل تقديم دعمهم وتفعيل مساعيهم التي تستطيع ترسيخ أهدافهم في الأمن والاستقرار.
هناك جملة مشاكل بنيوية تقف حائلاً دون الاستفادة من المساعدة المحتملة أو أي نتائج للحوارات الإقليمية لأن هذه الجهود تبقی عائمة إذا لم تجد البيئة الحاضنة لأي يد تُمد من أجل استثمار المؤثرات الإقليمية إيجابياً.
ومن أخطر الاتجاهات هو الاعتماد علی الخارج لحل النزاعات والاختلافات الداخلية بعيداً عن أهل البلد الواحد وكيفية توفير قنوات تفاهم داخلية بالدرجة الأولى، مع الأخذ بالاعتبار أن المساعي الإقليمية هي الأكثر فائدة ومصداقية بالمقارنة مع المساعي الدولية. فالمساعي الأولی تنخرط في تعزيز الأمن والاستقرار وما يتم تحقيقه يصب في نهاية المطاف في مصلحة شعوب الإقليم وأمنهم الوطني والقومي؛ فيما الثانية تملك أهدافاً وأجندات غير واضحة وهي في آخر المطاف لديها مصالح وغير مستعدة لذرف الدموع علی حال شعوب ودول المنطقة بقدر ما تريد الحفاظ علی مصالحها حتی وإن كانت ضد مصالح وأهداف هذه المنطقة ودولها وشعوبها وأنظمتها السياسية.
ولعل احدی أهم المشاكل البنيوية التي تعيشها المنطقة هي فقدانها “ثقافة الحوار”. ثمة شعور أن خيارات المواجهة والاحتكاك والتدافع الامني والسياسي والاقتصادي بات أسهل الخيارات وأفضلها من أجل تحقيق الأهداف المنشودة؛ والأمثلة علی ذلك غير قليلة في علاقات الإقليم البينية خلال العقود الأربعة الأخيرة. هذا الأمر لم يقتصر علی الأنظمة السياسية وطريقة تعاملها مع الآخر وإنما هي ظاهرة أيضاً عند الأحزاب والتيارات السياسية في البلد الواحد نفسه.
مشاكل أوطاننا داخلية بالدرجة الأولى وبالتالي فإن “ثقافة الحوار” ليست ظاهرة مستحيلة او تعجيزية وانما ثقافة تستطيع ان تنتشل هذه الأوطان من أوضاعها الشاذة؛ وليس على الأحزاب والتيارات السياسية الداخلية سوى الإعتماد علی قدراتها وعلاقاتها الداخلية من اجل صياغات تفاهمات وطنية
في لبنان، يُعلق أهل السياسة آمالهم علی تطورات الاقليم من دون أن يذهب اللبناني إلی الحوار مع إبن جلدته؛ في اليمن تتكرر القصة ذاتها بين جنوب وشمال ويزيد الطين بلة غياب “ثقافة الحوار” اليمني اليمني؛ وهكذا في سوريا أو في العراق أو أي مكان آخر.
واذا كانت المصالحة الإيرانية السعودية من شأنها تسهيل حل هذه المشاكل؛ إلا أن الأهم أن تكون المصالحات والحوارات والتفاهمات الداخلية هي الاساس التي تستند إليه المساعي الاقليمية.
وبرغم التعويل على الحوار السعودي الإيراني وسيلة لإطفاء النيران المشتعلة في الشرق الأوسط، إلا أن هذا الحوار، وللأسف الشديد، توقف عند حد معين يتصل بتشابك مشاكل الاقليم بدليل أن الجولات الخمس التي جرت في بغداد لم تتمكن من اعادة العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين، فيما ظل موعد جولة الحوار السادسة معلقاً حتى الآن.
هذه الجولات الخمس من المباحثات التي كانت “استكشافية” كما عبّر عنها الجانب السعودي أرادت لها الرياض أن تبدأ من عند قضايا الاقليم فيما أراد الجانب الإيراني لها أن تبدأ من عند ملف العلاقة الثنائية. إيران ملتزمة برفض مناقشة اي ملف اقليمي لانها قالت انها لا تعطي لنفسها حق مناقشة الملف اليمني نيابة عن اليمنيين ولا مناقشة ملف لبنان نيابة عن اللبنانيين وهكذا بالنسبة إلى سوريا والعراق؛ وأشارت طهران إلى أن هؤلاء مسؤولون عن أوطانهم والآخرون يكون دورهم داعماً للحوارات الداخلية وليس مطلوباً منهم اتخاذ قرارات بديلاً عنهم.
لديّ قناعة أن الخلافات الاقليمية بين طهران والرياض ليست قليلة ولم تكن ميّسرة بهذه السهولة، لكنها يجب أن تبدأ بخطوات إيجابية وإن كانت “قصيرة” لتعزيز “ثقافة الحوار” من أجل خلق أطر حوارية لمعالجة المشاكل الآنية للحيلولة دون تفاقمها وصولاً لإعادة صياغة العلاقات المستقبلية بين البلدين.
ولديّ قناعة أخری أن كل طرف يمتلك جملة من المقاربات مختلفة عن مقاربات الطرف الآخر. هذا صحيح جداً. النوايا الصادقة و”ثقافة الحوار” تستطيع تفكيك هذه المقاربات وبالتالي التوصل إلی مقاربة الحد الادنی علی قاعدة محاولة إيجاد لغة مشتركة تكفل تطوير العلاقات الثنائية من جهة والتأثير إيجاباً في المساحات المشتركة التي تمس حياة ملايين المواطنين في العديد من دول المنطقة من جهة ثانية.
وثمة قناعة ثالثة؛ أن مشاكل أوطاننا داخلية بالدرجة الأولى وبالتالي فإن “ثقافة الحوار” ليست ظاهرة مستحيلة او تعجيزية وانما ثقافة تستطيع ان تنتشل هذه الأوطان من أوضاعها الشاذة؛ وليس على الأحزاب والتيارات السياسية الداخلية سوى الإعتماد علی قدراتها وعلاقاتها الداخلية من اجل صياغات تفاهمات وطنية قائمة على المصالح والتاريخ المشترك والحاضر المشترك والمستقبل المشترك.