

“الحاضر فظيع في لا معقوليته” (أنطوان تشيخوف)
في تمايز عن سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ما يتعلق بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، سبق لإيمانويل ماكرون أن حدّد 17 حزيران/يونيو الماضي، موعداً لانطلاق مؤتمر في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، برعاية فرنسا والسعودية لإعادة الزخم إلى حل الدولتين. ثم أرجىء المؤتمر بسبب الحرب الإسرائيلية – الأميركية على إيران في شهر حزيران/يونيو المنصرم..
في إعلان الخميس الذي جاء ضمن رسالة موجهة إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ظهر ماكرون وكأنه حسم تردده السابق نحو الاعترف بدولة فلسطينية، في ظل غضب عالمي عارم من حرب الإبادة الإسرائيلية المستفحلة والتي ضاعفتها سياسة التجويع تحت شعار “ما من دولة تطعم أعدائها”، وفق ما يقول وزير التراث الإسرائيلي المتطرف أميخاي إلياهو، الذي كان دعا إلى القاء قنبلة نووية على قطاع غزة عقب هجمات “حماس” في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. وضحايا القصف والتدمير والنزوح المتكرر والتجويع، يُقدَّرون حتى الآن بنحو 60 ألفاً ما عدا المفقودين، مما يجعل الرقم قريباً من ضحايا قنبلة هيروشيما.
ليس صحيحاً ما يقال عن أن الجيش الإسرائيلي يقاتل في غزة وعلى جبهات أخرى، من دون استراتيجية سياسية. هذه الاستراتيجية تتمثل في إجهاض فكرة إقامة دولة فلسطينية، مرة واحدة وإلى الأبد. والسفير الأميركي لدى إسرائيل مايك هاكابي المقرب من ترامب، دعا ماكرون إلى إقامة دولة فلسطين التي يتحدث عنها في “الريفييرا الفرنسية”، مما أعاد إلى الأذهان طرح ترامب الأولي بنقل سكان غزة إلى مصر والأردن ودول أخرى، من أجل تحويل الجيب الساحلي إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”.
لا تحظى فكرة قيام دولة فلسطينية بأي تأييد من ترامب، الذي يتجنب في تصريحاته لفظ كلمة فلسطين أو الفلسطينيين، ويركز على كلمة “سكان” غزة أو “سكان” الضفة الغربية، كي لا يتعرض للانتقادات من قبل قاعدته الإنجيلية في الولايات المتحدة المؤيدة لضم الضفة الغربية، انطلاقاً من رؤاها التوراتية
ولئن لا مصادفات في عالم السياسة، فبعد ساعات قليلة من إعلان ماكرون، أعلن المبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف انسحاب الولايات المتحدة من مفاوضات وقف النار في قطاع غزة، متهماً “حماس” بعدم التفاوض “بحسن نية”، كما أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو استدعاء الوفد المفاوض من الدوحة، لتعود أجواء التشاؤم لتسيطر على احتمالات التوصل إلى هدنة الشهرين في وقت قريب، برغم إصرار معظم الأطراف على أن المفاوضات لم تتوقف حتى الآن.
هذا عدا سيل من الحملات الإسرائيلية على إعلان ماكرون، بدءاً من نتنياهو الذي كرّر أن أي “دولة فلسطينية ستشكل قاعدة انطلاق لإبادة إسرائيل”، في تناغم مع اتهامات إسرائيلية سابقة لماكرون بشن “حملة صليبية” على الدولة العبرية. ولم يتأخر وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو في وصف إعلان ماكرون بـ”المتهور”. واعتبر ترامب أن “تصريحات ماكرون لا وزن لها.. إن ما فعلته حركة حماس كان فظيعاً، وسنرى كيف سترد إسرائيل عليه”.
وعلى عكس ما يجري في الملف السوري، لا يبدو أن ترامب ينوي ممارسة الضغط على نتنياهو في الملف الفلسطيني؛ زدْ على ذلك أن العلاقة بين الإليزيه والبيت الأبيض تمر بتعقيدات كثيرة، بينها حرب أوكرانيا والتعريفات الجمركية والإهانات الشخصية، بحسب ما لاحظت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية. فهل شعر الرئيس الفرنسي أن اللحظة مؤاتية الآن للابتعاد عن الولايات المتحدة، وتقديم رؤية أوروبية مختلفة للشرق الأوسط؟
لتقديم مثل هذه الرؤية، يحتاج ماكرون إلى مساندة من زعماء الاتحاد الأوروبي. ولا يوجد من بين هؤلاء، سوى رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، الذي اعترفت بلاده إلى جانب إيرلندا بدولة فلسطين العام الماضي. أما المستشار الألماني فرديريتش ميريتس، فهو أقرب إلى ترامب في الملف الفلسطيني، منه إلى ماكرون، بخلاف ما هو الأمر بالنسبة لملفي أوكرانيا والرسوم الجمركية. ينطبق هذا التوصيف أيضاً على رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، التي لن تخاطر بموقف يثير غضب ترامب في ذروة الحروب الجمركية.
وللمفارقة، فإن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، يبدو أقرب إلى توجهات الرئيس الفرنسي أكثر بكثير من قادة الاتحاد الأوروبي. وأصدرت فرنسا وبريطانيا نداءات مشتركة عدة في الأشهر الأخيرة تندد بالحصار الخانق على غزة والتجويع وتحض على وقف فوري للنار. والجمعة، طالب أكثر من 220 نائباً في البرلمان البريطاني، ينتمي العشرات منهم إلى حزب العمال الحاكم، الحكومة بالاعتراف رسمياً بدولة فلسطين، مما يزيد الضغوط على ستارمر.
وحتى الآن، تواجه المساعي الفرنسية والإسبانية لإصدار موقف حازم عن الاتحاد الأوروبي يُندّد بإسرائيل ويتخذ إجراءات عقابية، رفضاً من رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان ورئيس الوزراء السلوفاكي فيكتور فيكو، اللذين يؤيدان نتنياهو وترامب تأييداً مطلقاً.
بحسب ما يرى الباحث في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، آرون ديفيد ميلر، فإن إعلان ماكرون يُعبّر عن “رمزية قوية، لكنه لن يفعل شيئاً على الأرض يُخفّف من محنة الفلسطينيين”
وعلى أهمية أن تتخذ دولة عضو في مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى قرار الاعتراف بفلسطين، فإن موازين القوى على الأرض بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، تظهر شبه استحالة قيام دولة فلسطينية. إذ يعيش 500 ألف مستوطن في الضفة الغربية في الوقت الحاضر. وتنمو أعدادهم ومستوطناتهم بشكل مطرد مع هيمنة الأحزاب المؤيدة للاستيطان وتهجير الفلسطينيين، على القرار السياسي في إسرائيل.
وفي وقت سابق من الأسبوع، صوّت الكنيست الإسرائيلي في قراءة أولى ولو كانت غير ملزمة، على ضم الضفة الغربية وغور الأردن إلى إسرائيل، بعدما كان صوّت العام الماضي على رفض إقامة دولة فلسطينية على أي جزء من الأراضي المحتلة عام 1967. كما أن الوزيرين المتشددين إيتامار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش ووزراء من تكتل الليكود، يدعون إلى تهجير طوعي أو قسري لسكان غزة، بينما نتنياهو نفسه عمل طوال حياته السياسية على منع قيام دولة فلسطينية. وتظهر استطلاعات الرأي بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، أن نسبة 21 في المئة فقط من اليهود في إسرائيل لا يزالون يؤيدون قيام دولة فلسطينية.
علاوة على ذلك، لا تحظى فكرة قيام دولة فلسطينية بأي تأييد من ترامب، الذي يتجنب في تصريحاته لفظ كلمة فلسطين أو الفلسطينيين، ويركز على كلمة “سكان” غزة أو “سكان” الضفة الغربية، كي لا يتعرض للانتقادات من قبل قاعدته الإنجيلية في الولايات المتحدة المؤيدة لضم الضفة الغربية، انطلاقاً من رؤاها التوراتية. ولا تزال الجماعات اليهودية تنتقده على زلة لسان أتى فيها قبل أسبوعين على ذكر شخصية “شايلوك” المرابي اليهودي في مسرحية “تاجر البندقية” لوليم شكسبير.
وبحسب ما يرى الباحث في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، آرون ديفيد ميلر، فإن إعلان ماكرون يُعبّر عن “رمزية قوية، لكنه لن يفعل شيئاً على الأرض يُخفّف من محنة الفلسطينيين”.