“حرب الخنادق” القضائية.. سيرة لبنانية مديدة

أخيراً، انكشف القضاء برمته وظهر على حقيقته. المفاجأة أن القضاء أسفر عن وجهه. هو كان كذلك من زمن بعيد. عالج انقساماته المزمنة بالكتمان. أصحاب الخبرة يعرفون جيداً ان القضاء مغارة. عتمتها محكمة. قراراتها نتيجة وحي سياسي ينزل في مكانه وعلى من هم من اتباعه.

الصراخ الذي خرج إلى العلن ليس إلا تظهيراً لحقيقة القضاء المزمنة. يتناسب مع فقه الإتهام المسبق. كلٌ يُريد قاضياً “لا هيك ولا هيك”، حسب لغة رئيس الوزراء ـ “المهضوم” فقط ـ الحاج حسين العويني. كان يجيد التصريح والتصريح المضاد. وهكذا القضاء. الإفتاء الى حد الفناء.

ما حدث كشف العورة القضائية المزمنة. يُمكن ملاحظته من خلال هجرة امرأة قيصر من عندنا، وإقامة ظلها في دول غرب يُدافع ويُحقق في ارتكابات ضد الافراد والجماعات. لا تجوز المقارنة ابداً، بين قضاء في دول ديموقراطية عن جد، وقضاء في دول لا تعترف أبداً بوجود مواطن، بل تتعامل مع رعاياها كأنهم أجراء أو أتباع، أو ـ وهنا الأسوأ ـ كأنهم مأجورون. وغالباً، ما يُضمَر الحكم، حتى قبل صدور الأحكام.

نحن نعيش في بلاد تقع الطاعة في صلب أولوياتها. نحن نعيش في لبنان أضداداً. المؤسسات؛ كل المؤسسات، تتبع عصا الاصطفاف. انفجار لبنان، ليس مؤجلاً. حدث مراراً، ثم أعيد ترميمه، وليس القضاء بمنأى ابداً. قضاتنا ليسوا ملائكة. اعوذ من الشيطان الرجيم.

في لبنان، قضاءٌ لنا وقضاءٌ علينا. القضاء مُطيف من جميع جوانبه. من”رأسه” الى أخمص قدميه. أحكاماً واجتهاداً وفذلكات قانونية. أغلب الظن أن علي بابا اقتبس سيرته من المغاور القضائية. القضاء موزعٌ. لم يترك الخمسة “الكبار” الحاكمين بأبجدية التبعية، أي فرصة لاستقلال القاضي. عندما يسود الصمت في القضاء، يكون ذلك نتيجة هدنة سياسية، بين قيادات، تقود المعارك السرية ببراعة، والمعارك العلنية بالتهديد والوعيد.

هذا القضاء “الممدوح والمذموم معاً”، لم يكشف عملية فساد واحدة، والبلد كله، من أقدس ايمانه الى أرخص كفره، يختنق بروائح الفساد. الفساد عندنا يا ناس، نشيد وطني. علني جداً، وعلى رؤوس الأشهاد. السرقة حلال

لذا، يلزم الا يحتج أحد. القادة السياسيون ممسكون بمفاتيح القضاء، كل القضاء، وبلا استثناء. هم يعرفون الأرقام السرية للعمليات المالية المشبوهة، ويفرضون العمى القضائي على كل الارتكابات المالية والنقدية، والـ… الى آخره. لديهم عيون مُفتحة جيداً.

يجب ان يعرف القضاء حدّه ويقف عنده. حدود القضاء ليست مواداً قانونية. حدوده سياسية وطائفية. سلطات القضاء وراثية: مارونية، شيعية، سنية، درزية، الى آخره. حتى الأقليات لها حصة عند الاكثريات، وتمد يدها على قراراتها.

ألا يُستغرب كيف أن هذا القضاء “الممدوح والمذموم معاً”، لم يكشف عملية فساد واحدة، والبلد كله، من أقدس ايمانه الى أرخص كفره، يختنق بروائح الفساد. الفساد عندنا يا ناس، نشيد وطني. علني جداً، وعلى رؤوس الأشهاد. السرقة حلال. الإدارات والمؤسسات اللبنانية موزعة على.. (إخترْ الجملة المناسبة).. وعليه، التهريب تجارة رابحة ومحمية. المرافئ اللبنانية على عينك يا تاجر. الوزارات الدسمة منذورة لأصحابها. المالية لـ.. الخارجية لـ.. الداخلية لـ.. الدفاع لـ.. العدلية لـ.. الى آخره.

ما حصل في القضاء أن الخلافات لم تعد داخل أروقة قصور العدل، ولا داخل الغرف السياسية المغلقة. لقد بلغ الورم القضائي درجة الاستفحال. صار القضاء، قضية تُثار في شارعٍ، ويُردُّ عليها بشارع مضاد. الحجج القانونية، كلام بكلام، وضده كلام من صنفه. القضاء صار رصيفاً. السياسة فيه، داء لا دواء. ظلم لا حقوق. كتمان لا افصاح. الحكمة القضائية المزمنة: “ارموا هذه القضايا في الجوارير”. وجوارير القضاء، يا حرام، مات أصحابها وهي لا تزال حية تأكلها صراصير السياسة.

القضاء داء لا دواء. فيه يتم اعدام الحقوق والقضايا، وتقتل ملفات مكتوبة بدم الذين تم اغتيالهم على مر الأزمنة الطائفية اللبنانية. الهياج الشعبي يُردُ عليه بصمت سياسي، وتطمين قضائي، ثم، تُقفل الملفات، مع رهان اكيد: “النسيان، أفيون السياسة وأفيون السلطة”. معها، يتحول “المواطن” الى خرقة او ممسحة أو مجرد صوت يوضع في صندوق الاقتراع الذليل للمرتكب وزبانيته.

في غياب العدالة تسود دكتاتوريات سياسية ورأسمالية وشركات عابرة للحقوق واحزاب ابتلينا بمرجعياتها وتأييدها للكذب المتواتر. إضافة الى ثقافة “اللغو الإعلامي”.

من يتذكر ان القضاء اللبناني أصدر أحكامه بحق مرتكبي المجازر في لبنان، بحق من إغتالوا سياسيين؟ “عدوا معي”: من أبو الحن، الى من قُتل وإغتيل في الحروب الطائفية الدولية في لبنان. من قتل كمال جنبلاط؟ ثم من قتل جبران التويني وبيار الجميل (الحفيد)؟ معروف سعد؟ سمير قصير؟ جورج حاوي؟ مهدي عامل؟ حسين مروة؟ هاني بعل عطية؟ كمال خير بك وبشير عبيد؟ و… ضع الأسماء التي يلزم ان لا ننساها، وهي كثيرة.

ماذا بعد؟

جريمة تفجير أو إنفجار المرفأ (ويجوز الوجهان: الإنفجار حدث من ذاته؛ التفجير ارتكاب من مجهول) لم تعد سالكة ابداً. القضاء اللبناني برمته، ليس صالحاً للاستمرار بالقضية. أي اتهام، قبل المحاكمة، سيفضي الى فتنة + انهيار + جوع + افلاس + احتدام + اصطفاف طائفي – قضائي، سيؤدي الى انفلات الإرهاب الداخلي.

إقرأ على موقع 180  هَل كَانَ بالإِمكان.. تجنُّبُ الحَربِ على لُبنان؟

عندما ينفجر القضاء، ينفجر لبنان. تنهار كل المؤسسات. الجيش ليس محايداً. الانحياز كامن في بنيته، من زمان. وكلام المديح كذب وتدجيل.

كل ما جاء أعلاه، معروف جداً. زميلنا المرحوم سليمان تقي الدين، كتب دراسة عن أحوال القضاء، منذ عشرين عاماً. قام بإحصاء وافشاء، ما صرحت به مراجع قضائية وحقوقية. لا بد من مراجعتها. صورة القضاء يومذاك، اقل سوءاً من الآن، ولكن الفساد رائج. النسبة دائماً، أكثر من 50 بالمئة.

ماذا يعني كل ذلك؟

لبنان، هو كذلك من البدايات. لم يشذْ ابداً عن صراط الفساد والانقسام والاستتباع والتطييف المدمر. هو كذلك. انقسم مراراً. الجيش مصان، اذا كانت السياسة خافتة وغير مشروخة، داخلياً وإقليمياً. اذا نزلت السياسة الى الشارع، خافوا على الجيش. لقد انقسم مراراً. نقطة على السطر.

لبنان، بقضائه، سند للسياسيين. (فليستثنِ كل قاض نزيه وغير منحاز ويعيش في محراب الصدق مع الحق والعدل: فليستثنِ نفسه من كل ما جاء أعلاه. انهم الايقونات، كعدد وافر من اللبنانيين، الذين لا يباعون ولا يشترون).

وكي أكون صادقا في احكامي المبرمة عن “جمهورية القضاء”، اسرد فضيحة الحكم على أنطون سعادة. لم يحصل مثلها في تاريخ الحقد اللبناني. سعادة غير طائفي بالمرة. لا شبهة عنده بالوصولية. تم تسليمه للبنان، بعد معارك سريعة، انتهت بإعدامه. سرد مجريات المحاكمة، لا مثيل له ابداً. بعدما فشلت خطة القيادة السياسية، بقتل سعادة بعد تسلمه من النظام السوري على المصنع، ورفض القائد آنذاك ارتكاب هذه الجريمة، سارعت القيادة السياسية الى محاكمته فور وصوله، بلا تأخر. كانت ساعة وصوله الثانية فجراً. 7 تموز/يوليو 1949. عند ساعات الصباح الأولى بدأ التحقيق معه في سيار الدرك. تم نقله بسرعة الى المحكمة العسكرية. ظهراً، انتهى التحقيق وصدر القرار الظني طالباً له الإعدام وانعقدت المحكمة العسكرية فوراً، المحكمة سرية. هيئة المحكمة حضرت فوراً ومثّل النيابة العامة يوسف شربل. جرت المحاكمة من دون محام للدفاع. رفض تيان. رفض اميل لحود، بعدما رُفض طلبه بإمهاله 48 ساعة لدراسة الملف. عبث. رفض لحود شرط المحكمة وانسحب، معتبراً ان حضوره وغيابه لن يؤخر او يقدم في طبيعة الحكم الجاهز والمبرم. عندها عيّنت المحكمة ضابطاً صغيراً (ملازم اول)، مُسخراً لتلاوة دفاعية!

انعقدت المحكمة. تلا يوسف شربل فرمانه العجيب: سعادة خان فلسطين عبر ما أقدم عليه: “خابر اليهود ضد العرب. ساهم في تسليم جزء من الأراضي الفلسطينية لليهود. خابرهم سراً لعقد اتفاق..”.

خلال اقل من 48 ساعة، تسلمت الحكومة سعادة ثم حقّقت معه، ثم حاكمته، بلا محامٍ، ثم دارت على القضاة المولجين، ليلاً، كي يُوقّعوا على الحكم، بلا قراءته. رفض بعضهم التوقيع والآخرون وقعَوا. وفي فجر الثامن من تموز/يوليو أُعدِم أنطون سعادة.

لماذا هذه العجلة؟ لأن سعادة لم يكن مديناً لأحد. لا طائفة خلفه. النظام الطوائفي مستعد لارتكاب الجرائم، كي يحافظ على مزرعة الدجاج، في حراسة الذئاب.

القضاء داء لا دواء. فيه يتم اعدام الحقوق والقضايا، وتقتل ملفات مكتوبة بدم الذين تم اغتيالهم على مر الأزمنة الطائفية اللبنانية. الهياج الشعبي يُردُ عليه بصمت سياسي، وتطمين قضائي، ثم، تُقفل الملفات، مع رهان اكيد: “النسيان، أفيون السياسة وأفيون السلطة”

عذراً. هذا هو لبنان.

بإمكان سواي، ان يحصي ما في ملفات القضاء. من قضايا قتل ونهب وسرقة وتدمير وتفجير واغتيال، والتي صارت جزءاً من مملكة الغبار، ومنصة لإعدام القضايا. فيا أيها اللبنانيون، أنتم في العراء، وسط القراصنة. فلا عدل ابداً. وبكل اسف وحزن، أتوقع ان تتعفن ذكرى انفجار مرفأ بيروت. أما الخلاف بين القاضيين طارق البيطار وغسان عويدات، فهو مفهوم ومبرر. والناس في لبنان على دين طوائفها ومذاهبها وعلاقاتها العابرة للحدود اللبنانية. الجديد الجديد، ان الصراع المزمن والفتن المموَهة، خرجت الى العلن. خنادق السياسة، تعرف كيف تستضيف “ابطالها” القضاة. بكل حزن أُشهر خوفي: جريمة المرفأ، ستيبسْ دماء شهَدائِها، وسيخرج الجناة، بحكم براءة وحجة نسيان.

ثم ماذا؟

لا شيء. فقط لا شيء. الصمت عقيدة رصينة.

لذا، سأصمت.

Print Friendly, PDF & Email
نصري الصايغ

مثقف وكاتب لبناني

Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  المأزق التركي في سوريا: مروحة من الخيارات الخاسرة