كما أشرنا سابقاً، تختلف الأنظمة القضائية بين الدول وفقاً للنظام القانوني المطبق فيها؛ وتعكس هذه الاختلافات أسباباً ثقافية وتاريخية وسياسية تفرض أطراً خاصة في التنظيم القضائي. أمام هذه الاختلافات وجبت المحافظة على معايير أساسية أصبحت الإطار الإلزامي لتنظيم هذه السلطة. هذه المعايير المتعلقة باستقلال السلطة القضائية وعدالتها ونزاهتها تشكل الضمانات الأساسية للعدالة ولاحترام حقوق الإنسان ولانتظام الحياة في كنف الدولة. وقد وضعت بعض معاييرها ضمن نصوص قانونية واضحة، وبقيت معايير أخرى ضمن مظلّة أخلاقيات العمل القضائي.
تُسلّط هذه الدراسة الضوء على عنوان استقلالية القضاء. ثمة تحولات في أنظمة الحكم والتوازنات، دولياً وإقليمياً ومحلياً. في الجزء الأول تم التركيز على عدد من المفاهيم والأبعاد وفي الجزء الثاني تناولنا التحولات بكل أبعادها وتأثيراتها. في هذا الجزء، وهو الثالث، ثمة عودة إلى الأصول التي بني القضاء على أساسها، دستوراً وقانوناً ومفاهيم اقتصادية واجتماعية.
يتكثف طرح استقلالية القضاء في لبنان منذ حراك 17 تشرين/أكتوبر 2019 في ظل متغيرين أساسيين: داخلي، يتمثل بحرب بدأت منذ نصف قرن خلخلت الانتظام العام في البلد، ومن ضمنه القضاء؛ وخارجي، يتمثل بسلسلة تحولات أصابت النظام العالمي، اقتصاداً وسياسةً واجتماعاً، منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين، لتتعاظم مع الألفية الثالثة فتصيب شظاياها القضاء.
حسناً فعل القاضي الإداري كارل عيراني بإلزامه وزارة المال في 24 تموز/يوليو 2023 بتسليم تقرير التدقيق الجنائي الذي أنجزته شركة "ألفاريز". لولا عيراني، لما انفضحت الخبايا التي وثّقها التقرير وتم رميه في الأدراج بعنوان "سري". ولولاه أيضاً، لما سقط رياض سلامة.. بشراكة مع مدعي عام التمييز بالإنابة القاضي جمال الحجار الذي استدرجه كشاهد فقط لا غير.
إنهم وحيدون. وحيدون كسوانا. تركنا القضاء على رصيف بلا أفق. نمرّ أحياناً قرب الرابع من آب/أغسطس لأجل حزن مختنق. نبكي دموعاً جافة. نتأوه بصمت. حناجرنا لم تعد تستجيب لأصواتنا. أحزاننا تخلَّفت عنا. ثم نعود إلى وحدنا. نتطلع إلى الصور. أحياناً، لا نبكي. لا ندمع. الصورة والإطار يدمعان.
عندما وقّعت حكومة الرئيس حسّان دياب عقد التدقيق الجنائي مع شركة "Alvarez & Marsal "، في صيف العام 2021، وافقت على عدم تسليم التقرير المُصنّف "سرّيّاً" إلى أي إدارة، حتى إلى القضاء اللبناني.
لا بد من النسيان، أي ممارسة التخلي، أي الخوف من الحقيقة. النسيان طاعون ديني وسياسي وأخلاقي. لبنان مدمن على التناسي، أي النسيان عن سابق تصور وتصميم. استبدال الوقائع بحشرات تثرثر كلاماً بائداً. المهم، أن نعيد هندسة الماضي، بقناعة الصمت.. الماضي الحقيقي الصحيح يُدمِّر. البناء على الجبن يقين مشترك بين الطوائف في لبنان.. أما في منظومة المقابر العربية، فلا يجوز استحضار الأموات والقتلى والمساجين والارتكابات. باختصار، نحن والعرب معنا، نريد ماضياً رمادياً. هو ماضٍ برسم لغة العميان.
للبنان تاريخ صاخب مع "شركات التدقيق"، بدليل أنّ كلاً من "Ernest &Young" و"Deloitte" احتكرتا السوق على مدى 25 عاماً. هيمنتا على التدقيق المالي للنظام المصرفي اللبناني. مرّرتا كلّ ما يتناسب والـ"سيستام" ومصالحه. صادقتا على سياسات حاكميّة مصرف لبنان المركزي. راعتا استنسابيّة المصارف. والأهم، أنهما شاركتا في طمس حقائق الوضع المالي والنقدي في لبنان.
في أواخر أذار/مارس 2020، انفجر ملف الفيول المغشوش. اتّضح في ما بعد أنّ لبنان كان يستورد على مدى أعوام فيولاً مضروباً عبر منشأتَي طرابلس والزهراني، فيما الخزينة العامّة تُسدّد أثمان بضاعة مغشوشة لتغذية جيوب الشركة التي تستورد بالنيابة عن منشآت الدولة اللبنانية.