البارز في سورة يوسف القرآنيّة هو هذا الإسهاب في عرض حياة هذا النبي وما جرى له من دون التطرّق إلى أي موضوع آخر. أما في ما يخصّ الأنبياء الآخرين، فإننا نجد تفاصيل قليلة عن حياتهم تبدو مبعثرة في سور مختلفة وبإيجاز كبير. وحتّى في سورة هود، فإن معظم آياتها لا علاقة لها بالنبي هود، وكذلك الأمر بسورة مريم وسورة يونس، إلخ..
ما يُدهشنا أيضاً هو الشبه الكامل بين سورة يوسف القرآنيّة وبين سفر التكوين (تحديداً الإصحاحات 37 و39-50). نحن أمام تكرار للقصّة ذاتها، مع تفاصيل أشبه ما تكون بالحرفيّة. لكن هناك إختلاف حول أمر معيّن. ما أعنيه هنا هو الإطار العقائدي الذي من خلاله يعيد القرآن رواية القصّة وهو يختلف عن الإطار العام في سفر التكوين الذي يمكن أن نصفه بالسطحي، بمعنى أن القصّة هناك تبدو وكأنّها تُروى من دون وعي للإشكاليّات التي تخلقها.
لنأخذ بعض الأمثلة. في سورة يوسف 4-5، نجد النصّ أدناه:
“إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ: يَا أَبتِ، إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ! قَالَ: يَا بُنَيَّ، لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً، إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِين”.
يحاكي هذا المقطع القرآني ما نجده في سفر التكوين 37 (الآيات 5-11):
“وَرَأى يُوسُفُ حُلْماً آخَرَ أيْضاً، وَأبلَغَ إخْوَتَهُ بِحُلْمِهِ فَقَالَ: اسْمَعُوا هَذَا الحُلْمَ الجَدِيدَ الَّذِي رَأيْتُهُ، رَأيْتُ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَأحَدَ عَشَرَ نَجماً تَنْحَنِي لِي. فَلَمَّا أخبَرَ أبَاهُ وَإخوَتَهُ بِذَلِكَ، وَبَّخَهُ أبوْهُ، وَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا الحُلْمُ الَّذِي رَأيْتَهُ؟ هَلْ آتِي أنَا وَأُمُّكَ وَإخوَتُكَ وَنَنحَنِي أمَامَكَ؟ وَغَارَ مِنْهُ إخْوَتُهُ، لَكِنَّ أبَاهُ تَفَكَّرَ فِي هَذَا الأمْر”.
الإختلاف الكبير والوحيد بين القصّتين أنّ النبي يعقوب يبدو في القرآن مُدركاً لأبعاد الحلم الذي رآه يوسف، وحذّره كي لا يُعلم إخوته به لئلّا يحقدوا عليه. بينما نجد في سفر التكوين ردّة فعل يعقوب مختلفة كلّياً، إذ هو يأخذ وصف يوسف لحلمه على أنّه غرور ويُوبّخه على ذلك.
ويتكرّر هذا الأمر في مقطع آخر، عندما يأتي أخوة يوسف بقميصه الملطّخ بالدم ويقولون لأبيهم أنّ يوسف أكله الذئب. في القرآن، يشكّ يعقوب في ما يرويه له أبناءه وكأنّه يعلم أنّ يوسف على قيد الحياة وأنّ عليه الصبر قبل أن يعرف حقيقة ما جرى، كما تروي لنا الآيتان 17-18:
“قَالُواْ: يَا أَبَانَا، إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ، وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ. وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ. قَالَ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُون”.
الإختلاف الكبير والوحيد بين القصّتين أنّ النبي يعقوب يبدو في القرآن مُدركاً لأبعاد الحلم الذي رآه يوسف، وحذّره كي لا يُعلم إخوته به لئلّا يحقدوا عليه. بينما نجد في سفر التكوين ردّة فعل يعقوب مختلفة كلّياً، إذ هو يأخذ وصف يوسف لحلمه على أنّه غرور ويُوبّخه على ذلك
بينما في سفر التكوين، يصدّق يعقوب ما قاله أولاده ويقيم العزاء بيوسف ويأسف عليه أسفاً شديداً، كما نجد في الإصحاح 37 (الآيات 31-35):
“فَأخَذُوا ثَوْبَ يُوسُفَ وَذَبَحُوا تَيساً وَغَمَّسُوا مِعْطَفَهُ بِالدَّمِ، ثُمَّ أخَذُوا الثَّوبَ الطَّوِيلَ ذَا الكُمَّينِ إلَى أبِيهِمْ وَقَالُوا: وَجَدْنَا هَذَا الثَّوبَ، أهُوَ لِابْنِكَ؟ فَمَيَّزَ يَعْقُوبُ المِعطَفَ، وَقَالَ: هَذَا ثَوبُ ابْنِي، التَهَمَهُ حَيَوَانٌ مُفْتَرِسٌ. وَلَا بُدَّ أنَّهُ مَزَّقَ يُوسُفَ تَمْزيقاً. فَمَزَّقَ يَعْقُوبُ ثِيَابَهُ، وَلَبِسَ الخَيْشَ حُزْناً، وَنَاحَ عَلَى ابْنِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً جِدّاً. ثُمَّ جَاءَ كُلُّ أبْنَاءِ يَعْقُوبَ لِيُعَزُّوهُ، فَأبَى أنْ يَتَعَزَّى، وَقَالَ: بَلْ أنزِلُ إلَى الهَاوِيَةِ حُزْناً عَلَى ابْنِي. فَنَاحَ أبو يُوسُفَ وَلَدَهُ”.
السؤال هنا هو لماذا هذا الفرق بين القرآن وسفر التكوين، وهل يمكن تفسيره؟
يبدو واضحاً أنّ القرآن يهدف إلى إبراز أنّ يعقوب كان على دراية بما يحدث، أي أنه صاحب قدرة على قراءة المستقبل. بينما نجده في سفر التكوين، إنفعالياً، يتعامل مع الأحداث بعفويّة الشخص العادي ومن دون دراية بحقائق الأمور.
إذاً، القرآن يعيد قراءة قصّة النبي يوسف ويدخل عليها عنصراً ضرورياً، وأعني هنا أنّ ردّة فعل نبيّ يجب أن تكون مختلفة عن ردّة فعل شخص عادي، وكأنّ القرآن يريد القول إنّ الله لما كان ليترك النبي يعقوب ضحيّة ألاعيب أولاده من دون أن يعلمه على الأقلّ أنّ يوسف بخير.
يتكرّر هذا الأمر في كامل السرديّة القرآنيّة لقصّة يوسف، وأيضاً في كل القصص القرآنية عن الأنبياء. نجد ذلك مثلاً في قصّة النبي زكريّا في سورة آل عمران (الآيات 38-41)، والتي تروي لنا كيف دعا زكريّا الله لكي يهبه ولداً، والتي تحاكي حرفيّاً ما نجده في إنجيل لوقا (الإصحاح 1: الآيات 5-20). لكن الفرق الوحيد بينهما هو أنّه في سورة آل عمران، عندما يُشكّك زكريّا بما يقول له ملاك الله أنّه سيأتيه غلام، يسأل عن آية تؤكّد ذلك، فيقول له الملاك: “آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً”. بالمقابل، في إنجيل لوقا، يبدو صمت زكريّا بمثابة عقاب له لأنّه لم يُصدّق كلام الملاك: “سَتَكُونُ صَامِتاً وَلَنْ تَقْدِرَ عَلَى الكَلَامِ إلَى أنْ يَتَحَقَّقَ كُلُّ هَذَا، لِأنَّكَ لَمْ تُصَدِّقْ كَلَامِي”.
إذاً، يهدف القرآن إلى “تصحيح” هذه القصص عبر إدخال تفصيل أساسي وضروري عليها يؤكّد أنّ الله وراء كلّ ما يحدث وأنّه عَضُد للأنبياء، وهذا يعكس من دون شكّ ما اعتقده الناس في زمن القرآن عن طبيعة النبوّة وتصرّف الأنبياء وعلاقتهم بالله، والتي هي مختلفة عن المعايير الشائعة في زمن سفر التكوين وإنجيل لوقا حيث نجد في كثير من الأحيان السجيّة والعفويّة البشريّة تتحكّم بالأحداث.
في قصّة زكريّا، يتحوّل الشكّ والعقاب إلى ثقة بالله وآية منه. نجد أمراً مماثلاً في سورة يوسف (الآيتان 23-24) عندما تأتي زوجة الرجل الذي اشترى يوسف لتراوده عن نفسه:
“وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ: هَيْتَ لَكَ. قَالَ: مَعَاذَ اللّهِ، إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ، إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ. وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ. كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ”.
يهدف القرآن إلى “تصحيح” هذه القصص عبر إدخال تفصيل أساسي وضروري عليها يؤكّد أنّ الله وراء كلّ ما يحدث وأنّه عَضُد للأنبياء، وهذا يعكس من دون شكّ ما اعتقده الناس في زمن القرآن عن طبيعة النبوّة وتصرّف الأنبياء وعلاقتهم بالله، والتي هي مختلفة عن المعايير الشائعة في زمن سفر التكوين وإنجيل لوقا
ما يريد القرآن قوله إنّ يوسف كان ليقوم بذلك العمل الشائن لولا تدخّل الله ليحميه. بينما في المقطع المماثل في سفر التكوين (الإصحاح 39، الآيات 7-10) نجد أنّ يوسف حمى نفسه بنفسه ومن دون تدخّل الله:
“وَفِي وَقْتٍ لَاحِقٍ، بَدَأتْ زَوْجَةُ سَيِّدِهِ تَشْتَهِيهِ، وَقَالَتْ لَهُ: تَعَالَ وَعَاشِرْنِي! فَرَفَضَ، وَقَالَ لِزَوْجَةِ سَيِّدِهِ: هَا إنَّ سَيِّدِي فِي وُجُودِي غَيرُ قَلِقٍ عَلَى شَيءٍ فِي البَيْتِ، وَقَدْ وَضَعَ بَيْنَ يَدَيَّ كُلَّ مَا لَدَيهِ، فَلَا يُوجَدُ فِي هَذَا البَيْتِ مَنْ هُوَ أهَمُّ مِنِّي. وَلَمْ يَمْنَعْ عَنِّي سَيِّدِي شَيْئاً إلَّا أنْتِ لِأنَّكِ زَوْجَتُهُ. فَكَيفَ أقتَرِفُ مِثْلَ هَذَا الإثْمِ العَظِيمِ وَأُخطِئُ إلَى اللهِ؟ فَكَانَتْ تُكَلِّمُهُ يَوْماً بَعْدَ يَوْمٍ، وَهُوَ يَرْفُضُ أنْ يُعَاشِرَهَا أوْ يَكُونَ مَعَهاَ”.
وحتّى في المقطع الذي يتحدّث عن يوسف كمُفسّر للأحلام عندما قصّ عليه صاحباه في السجن ما رأياه (المقطع الكامل في الآيات 36-41 من سورة يوسف) نجده يقول: “إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي.” ويتكرّر ذلك في مقطع آخر من السورة ذاتها (الآية 101): “رَبِّ، قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ..”. إذاً، يريد القرآن أن يقرّ يوسف بأنّ تفسير الأحلام والرؤية هي قدرة وهبه إيّاها الله. بينما لا نجد ذلك في سفر التكوين (الإصحاح 40، الآيات 5-19)، حيث تَنسب القصّة قدرة تفسير الأحلام ليوسف نفسه لا إلى الله.
في الخلاصة، تعطينا قصّة النبي يوسف القرآنيّة صورة واضحة عن أسلوب القرآن وأهدافه من إعادة سرد قصص الأنبياء كما نجدها في كتب التوراة والأناجيل، وذلك من أجل مخاطبة مجتمع لديه فكرة عن الله وعلاقته بالعالم مختلفة عمّا كان سائداً قبل ذلك بقرون. الإختلاف هو بين قناعة أنّ البشر يخلقون الأحداث ويستدعون الله في بعض الأوقات لكي يؤثّر فيها لمنفعتهم، وهو ما كان سائداً حتّى زمن النبي عيسى. بينما بعد ذلك، وخصوصاً في زمن النبي محمّد، تطوّرت قناعة جديدة أنّ الله يُدير الأمور والأحداث بتفاصيلها.