“توب كاميرا”.. فضاء السرد والأرض لفاديا بزي

تقول الإعلامية والكاتبة فاديا بزي "لقد فاضت الذاكرة، سمعتها تقول لي بإلحاح كفى. كفى. أفرغيني"، فكانت رواية "TOP كاميرا".

عَرِفَت الرواية، كنوع أدبي، مجدها في القرن التاسع عشر بعد أن اكتملت عناصرها الفنية واستقلت بذاتها عن النثر الأدبي والشعر والسرد التاريخي والمسرح والغناء. كان الشعر قد تسيّد لفترة طويلة قبل أن يتهافت الكُتّاب على الرواية حتى سمي عصرنا الحالي بعصر الرواية.

من الناحية النظرية ومع التطور الذي شملَ مختلف أشكال الأدب والفنون، دخلت إلى السرد الروائي الكثير من التقنيات الحديثة التي تتوافق مع المجتمعات الحديثة والتطورات التكنولوجية المتسارعة، فازدادت حالة الخروج عن كل ما هو مألوف وتقليدي، كما حدث في الشعر، وقد فرَّق الناقد الفرنسي رولان بارت بين السرد التقليدي والسرد الحديث من خلال التفريق بين رواية القراءة ورواية الكتابة، إذ اعتبر أنَّ رواية القراءة التي كانت سهلة لا تحتاج إلى جهد كبير من القارئ وهي تصاعدية في أحداثها، أما رواية الكتابة فهي رواية السرد الحديث التي يقوم فيها الكاتب ببذل جهد عظيم لبناء هندستها وتعقيدها. بهذا المعنى، إبتعدت رواية “TOP كاميرا” للكاتبة فاديا بزي عن البناء التقليدي للرواية، سرديةً وخطاباً ونسقاً وحبكةً ولغةً. هذا الابتعاد عن طريقة السرد النمطية التي تتركز حول أحادية الصوت وتحويل الأمكنة والأزمنة إلى مجالات يتداخل بعضها مع بعض، والعمل على تعدد الأصوات المتكلمة يؤدي كله إلى تعدد لغوي في النص. الاعتماد على أشكال جديدة في السرد مختلفة عن السابق، مثل الخروج عن التسلسل المنطقي للأحداث وعلى هندسة وتخطيط الرواية التقليدية باتجاه التشعب والسرد المتحرر من قواعد الرواية الصارمة.

الرواية هنا تخلق أسلوبها الذي يمزج الكتابة الصحفية بالشعر والسرد الأدبي والذاكرة الشعبية.

طبعاً فادية بزي هي إعلامية وكاتبة وتشارك في إعداد مقدمات نشرات أخبار “تلفزيون الجديد”، وهي مشهورة بإضفاء تلك اللمسة الأدبية على المقدمات بشراكة جميلة مع إبنة عيناثا جارة بنت جبيل مريم البسام.

في أعلى غلاف الكتاب الجديد إختارت فاديا أن تكتب إسمها كالآتي: “فاديا محمود بزي”. وفي الإهداء كتبت “إلى الأصوات المحفورة في ذاكرة الحجارة. إلى روح والدي محمود “الأبوكاتو”.. آخر الفدائيين الحمر”.. وفي آخر الصفحات يحضر “البطل” نفسه، عندما يطرق صوت على مذياع المئذنة في بنت جبيل منادياً “مات الأبوكاتو”.

في هذه الرواية، إختارت فاديا أن تُكرّم والدها “أبو حسن” على طريقتها. أزاحت “أبو حسن” لمصلحة اللقب الموروث والأحب والأكثر شهرة من زمن الجد: “الأبوكاتو”، “أبو حسن” المناضل العمالي الذي إنتسب إلى الحزب الشيوعي اللبناني شاباً يعمل في مهنة “الكندرجية” وإمتشق السلاح في زمن “الحرس الشعبي” و”قوات الأنصار” وفي الحرب الأهلية، يُزنر نفسه ببدلة عسكرية كاكية وبيريه حمراء مُزينة بالمنجل والمطرقة أو بِزرٍ يحمل صورة غيفارا. هذا الرجل العصامي الذي ربّى ـ وزوجته القديرة إنعام ـ عائلة كبيرة من سبعة أفراد وكان صارماً في إستقامته ومناقبيته، إلى حد عدم التسامح مع الغلط أكان أتى من قريب أم من بعيد. هو فعلاً آخر “الفدائيين الحمر”.

ولكن لا يستقيم تكريم “الأبوكاتو” من دون تكريم بنت جبيله، المدينة أو البلدة الجميلة التي أحبها وإنتظر لحظة تحررها في العام 2000 وكان من أوائل العائدين إليها بعد تهجير دام 22 عاماً. عاد “الأبوكاتو” وقرر أن يلتصق بالأرض وأن يطوي كل ما راكم في مدينة بيروت. إنسلخ عن أصدقائه هناك وقرر الإنتماء إلى التراب. فعلاً هذا رجل ترابي. رجل يعشق الأرض والناس. يكره الظلم. شيوعي بالفطرة. لا يريد لبنت جبيل إلا أن تحمل الهوية التي لطالما كان يحلم بها، عاصمة للتحرير نعم، لكن التحرير الذي تختلط فيه كل الألوان لكن ليس على حساب اللون الأحمر الذي صار هو السطر الأول والأخير، فما غابت بنت جبيل عن نص الكاتبة من أول ” TOP كاميرا” حتى بدأ العد التنازلي للبث المباشر.. “قال المخرج في استديو الأخبار في المحطة التلفزيونية: TOP كاميرا”.

هنا أنا أسأل ما هو الهدف الكامن والمضمر من هذه الكتابة: هل هي سيرة ذاتية لمحطات عاشتها الكاتبة أم أنها أرادت توثيق عادات وأنماط العيش في بقعة جنوبية حساسة هي مدينة بنت جبيل من وجهة نظر مخالفة للسائد. سيرة عائلة شيوعية تختلف عن محيطها بأمور معينة وتنتمي إليه في أمور أخرى؟

توثيق الأمكنة برع فيه عبد الرحمن منيف في “مدن الملح” ولا بد ان تكون رغبة الكاتبة بعد القراءة هي رغبة في مزج السيرة الذاتية وتوثيق تاريخ المنطقة، بحسب رؤية ناس عاشوا وعانوا وشكّوا التبغ وغرسوا الشتلات وحاكوا حكاياتهم على نول الوطن الذي تجاهل الظلم اللاحق بتلك القرى المتاخمة لفلسطين.

للمكان في رواية “TOP كاميرا” دلالاته الروائية القوية، هو حجر الرحى في الرواية. تعلق الكاتبة بالأرض ومدينة بنت جبيل وعلاقتها ببيادر التبغ وساحة الأعراس هو البداية والنهاية، هو المبتغى والمشتهى، وذلك لا يمنع من توغلها في تحليل العلاقات الإجتماعية وتوصيف شكل المجتمع في زمان الإجتياحات الإسرائيلية والحرب الأهلية مع كل ما خطت من ندوب في أرواح الناس وممتلكاتهم.

إقرأ على موقع 180  لحظة لبنانية للمسؤولية.. والإنقاذ

تقول فاديا بزي: “اللعنة وبنت جبيل وجهان لتاريخ واحد كتب على تخوم الحكاية، حكاية شامة محناة مغروسة على خد الجليل، تعمّدت بدمه فصار آدم وحواء القرى، يخضر الربيع على يديه فيزهر زيتونه في عينيها، دفعت مهرها ضريبة لحسن الجوار، ووقعت في مأزق الجغرافيا، لكنها لم ترفع السور بينها وبين جارتها. صاهرت فلسطين وتشاركت معها الأرض والسماء والهواء، وفي لحظة كسوف فارقت ظلها”.

وعلى الرغم من ان العنوان ” TOP كاميرا” يبدو لحظة أمر زمنية، فإن جسد الرواية هو غرق وإمعان وحفر في عشق المكان وسكانه.

وذاكرة فاديا عبارة عن تواطؤ جميل بين الواقع الدامغ والخيال المتعمد. عملية تلاعب بالواقع الحقيقي للشخوص بطزاجة الحاضر وجفاف الذكريات.

كل الذين يكتبون خيالاً يُغمّسونه بالواقع، وهذه هي حال فاديا بزي. تترك المؤلفة للقارىء أن يُغربل قمح الخيال من زيوان الواقع. تتمادى في سرد سير شخوص روايتها فإذا هم الأب والأم والأخوة والأجداد والجيران وسائر أهل بنت جبيل والجنوب. نعم الجنوبيون هم شخوص القصص التي ستشكل رواية “TOP كاميرا”.

تستهل فاديا بزي الرواية بطرفة عن البنطلون والمكواية، وكانت رمية صنارة موفقة لجذب القارىء، لتتكرر حكايات أخرى أكثر ظرافة عن نهفات الرجال والنساء وخصوصاً حكايا الجنس والعلاقات العاطفية التي كثيراً ما كانت تُتداول ولكن بطرق فكاهية.

القصص المحكية مكتوبة باللهجة الجنوبية، وبما ان الشعر يسير كالينابيع في تلك القرى العاملية فإن الشعر ينبت كالزهر بين الجمل فتأخذك فيه إلى مستوى أعلى من المتعة، “كان ذلك من زمن بعيد، حين كانت الأرض تتزاوج مع نفسها وتتقاسم الهواء والسماء ولقمة العيش”.

في الختام وبعد قراءة ممتعة، تدخل فادية بزي عالم الرواية من بوابة الصحافة والنضال والموروث الوطني والإجتماعي لتاريخ الجنوب المقاوم ولا يسعنا إلا أن ننتظر منها رواية جديدة تحكي فيها قصة إنخراطها بالعمل الميداني المقاوم، في ثمانينيات القرن الماضي، لتستقيم الرواية مع الواقع.

(*) “TOP كاميرا” هو العمل الروائي الأول للإعلامية والكاتبة فاديا بزي، 290 صفحة، صادر عن “شركة المطبوعات للتوزيع والنشر”. وكانت المؤلفة قد أصدرت في السابق ديواناً شعرياً بعنوان “ما لم يقله لي”.

Print Friendly, PDF & Email
أغنار عواضة

كاتبة وشاعرة لبنانية

Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  الغارات الإسرائيلية على سوريا.. ما هي حسابات موسكو؟