يمتاز الصديقان شاهين والبغدادي بالجمع بين العمل الفكري والعمل السياسي، بمعنى أنهما اشتغلا في الميدان النظري، مثلما كان لهما باع طويل في الجوانب العملية، ليس على الصعيد الديني فحسب، بل في الأمور السياسية، لا سيّما الوطنية في منظورها الإسلامي أو بأفقها العام الذي يتّصل بمصالح الأمة.
وقد انصرف الصديقان كذلك للتأليف والنشر منذ عقود من الزمن، وهما يلتقيان في الكثير من القضايا والأطروحات، إلّا أنهما يتمايزان أيضًا، بل ويختلفان عن بعضهما في الكثير من زوايا النظر، وإن كان مسارهما العام يصبّ في مقاصد الإسلام ومصالح الأمة مع حرصهما على إبراز وطنيّتهما العراقية.
وبغض النظر عن التوجّه في تقديم أطروحات يقابلها أطروحات مغايرة أو موازية، فإن مجرّد إدراج بحث السيّد البغدادي على قائمة النقاش والجدل، بإظهار عوامل قوّته واتفاق الأستاذ شاهين مع العديد من استنتاجاته، يُعتبر بحدّ ذاته ترويجًا للكتاب ولفت نظر للقارئ المطّلع وغير المطّلع على أهميّته، والأكثر من ذلك فإن مؤلف الكتاب الناقد ينشر تقريظات عدد من الكتّاب وأصحاب الرأي بشأن كتاب البغدادي بما يفتح شهيّة الاطلاع عليه، خصوصًا حين اختار عنوانًا مثيرًا ونعني به “المطارحات على المطارحات”.
بهذا المعنى فإنه تعريف جديد وتوسيع لدائرة القرّاء ممن لم يطّلعوا على الكتاب أو على النصوص التي قرأتهُ ودونت تقييمات له وذلك بعد نشرها كملاحق للكتاب، فضلًا عن ذلك فهو جهد توثيقي أيضًا، تفتقد إليه في الكثير من الأحيان الكتب الدينية، لا سيّما التقليدية.
إن كتاب شاهين يبدأ بالنقد، أو بالاصح في قراءة نقدية لكتاب البغدادي، حيث يُعتبر كتاب “نقد العقل الديني” مسك ختام تجربة البغدادي الثقافية والمعرفية ومعاناته السياسية والاجتماعية ومعايشته الميدانية كمرجع ديني وقائد حركي، إضافة إلى مشاركاته العامة في المؤتمرات والندوات العربية وقراءاته للثقافات الجديدة ولتاريخ الفرق والمذاهب والأديان.
لعلّ تلك المقدّمة التي يستهلّ بها شاهين تقريظ كتاب البغدادي تعطي صورة واضحة لتقييمه العالي للكاتب وكتابه وتجربته، والأكثر من ذلك أنه يريد أن يقدّمها للقارئ الإنكليزي والمقصود بذلك الذي يقرأ باللغة الإنكليزية، ولذلك طلب منّي بصفتي الأكاديمية والفكرية أن أكتب مقدمة لهذا الكتاب. والواقع فإن شاهين يعتبر البغدادي من بين أحسن من كتب عن النهوض العربي والإسلامي في ما يتعلّق بالتنوير والإصلاح، ويضعه ضمن رموز كبار بينهم (إسلاميون) مثلما بينهم (علمانيون).
يذهب البغدادي بعيدًا في تطرّفه الراديكالي وهو ما يبرزه عباس شاهين حين يصوّب نقده إلى مدرستيْ النجف الأشرف والأزهر الشريف، ويعود لينتقد الفتاوى والتصريحات اللّاشرعيّة ومنظومة الفقه والنصوص التي تستند إليها، مُعمّمًا ذلك ببعض قضايا الأمة التي تعيش الدمار والبوار والعدوان، مُندّدًا بالإمبريالية المشجّعة على الاحتراب الطائفي والمذهبي
ولا أتوقّف هنا عند المفهوم الدارج عن الإسلامي وتعارضه مع العلماني، بل ما يهمّني هو من يقف إلى جانب الحريّة والحق والعدل والمساواة والشراكة وضدّ الاستبداد والظلم والاستغلال والتفرّد، سواء كان يعتبر نفسه إسلاميًا أم علمانيًا، فهناك متعصّبون ومتطرّفون “إسلاميون” مثلما هناك مثلهم “علمانيون”، وليس كلّ ما هو غير إسلامي أو غير ديني هو عِلماني أو عَلماني، بل إن هناك قيمًا هي التي ينبغي أن تحدّد الرؤية والسلوك والدلالة. كما أن هناك إسلاميون متنوّرون ومنفتحون على الآخر ويقبلون بالتنوّع ويقرّون بالتعدّدية والحق بالاختلاف، فهناك “علمانيون” أو “مدنيون” كما يعبّرون عن أنفسهم أحيانًا، يرفضون تلك القيم ويقفون بالضدّ منها، خصوصًا حين تكون بيدهم السلطة. ولم يكن النظام النازي في ألمانيا أو النظام الفاشي في إيطاليا أو العسكرية اليابانية أو حتى النظام السوفيتي (الاشتراكي) أو أنظمة العالم الثالث (الثورية) كما كنّا نطلق عليها، دينية، بل هي أقرب إلى المدنية والعلمانية، مؤمنة أو غير مؤمنة، لكنها كانت ديكتاتورية وشمولية ومتسلّطة.
حاول الأستاذ شاهين تثبيت اختلافه مع السيّد البغدادي في مقدّمة كتابه حين قال: اختلفت مع سماحته (المقصود مع البغدادي) في ما طرحه من متبنّيات معرفية وعقدية وفقهية المخالفة لمشهور الفقهاء والمتكلمين، مع اعترافه بشجاعة طرحه وجرأته وحريّته في التناول والمواجهة لدى معالجة الأفكار والمواقف وقضايا الواقع، وهو ما اتفق به معه، وكنت أتمنى أن توضح جوانب الاختلاف وأن يتمّ تأشيرها وإبرازها، لكنها جاءت منثورة في ثنايا الكتاب.
لقد جاء نقد الناقد متّفقًا مع نقد المنقود بشأن النُخب، وإن كانا هما وكاتب السطور ينتمون إلى النُخب، وكان لا بدّ من التفريق بين النُخب المنساقة وراء المشاريع الغربية وبين النُخب المواجهة لها وبين النُخب الراضخة للاستبداد وبين النُخب الرافضة له، خصوصًا كما يقول الناقد، وهو على حق في مواجهة التجهيل والتخريف والتهميش والبدع والغلوّ والتوحّش والعصبيات، وهو ما ورد أيضًا على لسان المنقود الذي يستشهد به بالنصّ والاقتباس، فأحيانًا يتحدّث عن النخب في الفكر ولكنّها تغلّب السياسة، وهكذا يصبح الأول تابعًا للثانية، في حين ينبغي العكس، ومثل هذا الخطاب غالبًا ما تتّسم به المؤسسة الدينية التي تتحدّث بصورة تجريدية عن القيم، في حين أن العديد من متبنياتها يتعامل بشكل مغاير على أرض الواقع، وهو ما يخلق نوعًا من الازدواجية في التعامل والانتقائية في السلوك، وهو ما يرفضه السيد البغدادي، وقد أبرز موقفه هذا في حواراته معي في كتابي الموسوم “دين العقل وفقه الواقع”، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2021.
لقد ميّز المؤلف بين الحسني البغدادي وبعض مجايليه، فهو لا يقول بالتفسير فحسب، بل إنه يسعى إلى التغيير، وكما قال كارل ماركس ليست مهمة الفلاسفة تفسير العالم، بل تغييره، وحين يفعل السيّد البغدادي ذلك لا يهاب “الحقيقة الواقعية الفاعلة”، حتى وإن تطرّف فيها أحيانًا، فهو بحكم عقله الراديكالي يتّخذ مواقف راديكالية ضدّ كلّ ما يعتقد أنه يقف حائلًا أمام التغيير مهما كانت عناوينه عن “الفتاوى المعلّبة الجاهزة” كما يسمّيها، إلى تحرير العقل من “الظلم والعدوان والقهر” الذي استمرّ عصورًا فأصبح خائفًا تابعًا ومقلّدًا، بل وسجينًا.
ويذهب السيّد البغدادي بعيدًا في تطرّفه الراديكالي، وهو ما يبرزه الأستاذ شاهين حين يصوّب نقده إلى مدرستيْ النجف الأشرف والأزهر الشريف، ويعود لينتقد الفتاوى والتصريحات اللّاشرعيّة ومنظومة الفقه والنصوص التي تستند إليها، مُعمّمًا ذلك ببعض قضايا الأمة التي تعيش الدمار والبوار والعدوان، مُندّدًا بالإمبريالية المشجّعة على الاحتراب الطائفي والمذهبي معلّقًا على موضوع “الفرقة الناجية” على غرار “شعب الله المختار”، ويعتبر ذلك مجرّد ترف عقلي ميتافيزيقي.
ومن موقع مفارق أقول: إن تلك الآراء السياسية التي يدعو إليها السيّد البغدادي، سواء اختلفنا معه أو اتفقنا بشأنها، فإنها تأتي منسجمة مع منظومة أفكاره وآرائه، ولا يتورّع السيّد البغدادي في التصدّي للكثير ممّا هو سائد في الفقه وآراء الفقهاء، بل ويزدريها مثل “طهارة بول النبي محمد” وضرب الرؤوس بالسيوف والقامات الجارحة بمناسبة عاشوراء، إرضاءً للعوام وتملقًا لهم ودغدغة لمشاعرهم وإثارة لأشجانهم وأحزانهم، لدرجة يعتبر أن الوعظ التوراتي ساهم في تفعيل ثقافة اللّاعنف في سبيل إرضاء “إسرائيل” وأمريكا ويعتبر ذلك “خلافًا لإطلاقات الأدلّة القرآنية والأحاديث النبويّة وعمومياتها التي توجب الجهاد المسلّح باشكاله المتنوّعة”.
وفي الواقع لم أجد في هذا الخليط الإنشائي ما هو واضح، إلّا إذا فهمنا دعوته للكفاح المسلّح كأسلوب أساسي لاستعادة الحقوق.
في نقده الشديد والخارج عن المألوف للمؤسسة الدينية يقول: لا فرق عندي بين العمامة السوداء أو البيضاء، ونجوم الغناء المحرّم وفتيات عرض الأزياء العاريات والاعتياش على الدين الموروث بكلّ إشكالياته وتناقضاته وأصول الفقه المطلسم السائد في المدارس الفقهية العتيقة الذي ليس فيه ثمرة علمية، بل تخديرًا للمرجع الديني المتصدّي وإبعاده عن قضايا الأمة. ويعتبر آراء الكثير من المراجع والمشايخ والمتفقهين لا تسمن ولا تغني من جوع، ويركّز على تصدّي حركة الاحتجاج (العراقية) لبعض الرموز التي خدعتها، في إطارات بعض الشعارات التي تردّد صداها في الشارع، وكم كان بودّي لو تناول الناقد والمنقود الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والثقافية للتعصّب والتطرّف والعنف واستمرار هيمنة القوى التقليدية على المجتمع بغضّ النظر عن تنامي ظواهر الاحتجاج عليها.
ويتوقّف الكاتب في مطارحاته لكتاب المنقود عند محاوراتي مع السيّد البغدادي بخصوص الطائفية والتمذهب (المناظرة الثامنة من كتاب دين العقل وفقه الواقع)، ويعيد هنا توكيد أن الطائفية غذّاها الاحتلال الأمريكي للعراق منذ العام 2003 مع إشارة إلى بعض التصرّفات من جانب الحكومات السابقة ذات المنحى المذهبي السلبي، لا سيّما تهجير عشرات الآلاف من العراقيين بحجّة التبعيّة الإيرانية باعتبارهم من “الطابور الخامس” (عشيّة الحرب العراقية – الإيرانية وخلالها 1980 – 1988)، وهو موقف صحيح من الناقد والمنقود حسب تقديري.
ويتناول الناقد والمنقود نقد المواقف الانتقائية والطائفية المعاكسة أي الطائفية ضدّ الطائفية ويقتربان من فكرة تحريمها وتجريمها، وهذا ما سبق وأن عرضنا له منذ نحو ربع قرن من الزمان، وعدنا ونشرنا “مشروع قانون لتحريم الطائفية وتعزيز المواطنة”، وذلك في كتابنا “جدل الهويّات في العراق – المواطنة والدولة”، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2009. ويستدل السيّد البغدادي محاربته للطائفية من وحدة قيم الإسلام ومقاصده الإنسانية ويدلّل عليها بعدد من الآيات القرآنية التي تحذّر من تفريق الأمة إلى مذاهب وفرق وأحزاب.
لقد بذل الأستاذ شاهين جهدًا كبيرًا في عرض وتقديم آراء السيّد الحسني البغدادي، وحاول بأمانة التوقّف عند نصوصها لكي تأتي الفكرة واضحة ومنسجمة، وإن توقّف عند بعض محطات النقد، لكنه تركها كما هي، وبالطبع تبقى هذه بحاجة إلى تعميق وقراءة لإبراز عوامل قوّتها وفي الوقت نفسه نقاط ضعفها، ما يؤدي إلى التفاعل والتكامل والتطوير والتغيير، وفي كلّ الأحوال فإن هذا الجهد الطيّب سيكون مقدّمة مهمة لقراءة كتاب السيّد البغدادي، وهما يستحقّان شرف المحاولة، وكما يقول الإمام الشافعي “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب”.
*مقدمة كتاب الأستاذ عباس شاهين الموسوم “المطارحات على المطارحات في نقد العقل الديني”، وهو مناقشة لكتاب السيد أحمد الحسني البغدادي الموسوم “نقد العقل الديني” مع عنوان فرعي “أديان الأرض ودين السماء”.