السؤال ليس بجديد. منذ بدأت دراسة الماجستير في التاريخ في الجامعة الأمريكيّة في بيروت في أوائل تسعينيات القرن المنصرم، كان يسألني الكثيرون عمّا سأفعله بشهادة التاريخ وما فائدتها. من دون شكّ، السؤال متعلّق بالوظيفة: ما هي الوظيفة التي يمكن لحامل شهادة الليسانس أو الماجستير أو الدكتوراه في التاريخ الحصول عليها؟
للأسف، يربط معظم الناس الدراسة الجامعيّة بالمهنة المستقبليّة. ندرس الطب لنصبح أطبّاء، ندرس الهندسة لنصبح مهندسين، إلخ. ويُتبع هذا المنوال حتّى في مجالات العلوم الإنسانيّة (humanities بالإنكليزيّة، وsciences humaines بالفرنسيّة)، فأصبح برأي أكثر “المتعلّمين” أنّ من يدرس الفلسفة يصبح فيلسوفاً، ومن يدرس التاريخ يصبح مؤرّخاً، ومن يدرس الفن يصبح فنّاناً.. إلخ.
هناك فرق بين المعارف. ففي معظم المجالات العلميّة يتم التركيز على البعدين النظري والتطبيقي، وعلى كيفية كسب مهارات تطبيقيّة تؤهّل لممارسة المهنة. بمعنى آخر، من دون دراسة الموضوع لا يمكن ممارسته أو حتّى البراعة فيه.
مقاربة الدراسة في الجامعة على أنّها مرهونة بالعمل المستقبلي تسببت بأضرار مجتمعية لا تحصى ولا تعد. فبدل أن نهيّئ الأجيال ونبني فكرها وشخصيتها وإنسانيّتها وبوصلتها، فرضنا عليها أن تكون عملانيّة وتختار الكار وتتخصّص به (أي أن يكون همّها بالدرجة الأولى المال والمنفعة الشخصيّة)
العلوم الإنسانيّة مختلفة عن ذلك، والدليل أنّ البراعة فيها لا علاقة لها بدراستها لأنّها تخوض في أمور عن الحياة تحتاج لأحاسيس (عيون أو آذان أو مذاقات أو لمسات أو..) أكثر منه لنظريّات وآراء فلسفيّة. فليس بالضرورة أن أفضل أستاذ يجب أن يكون حاصلاً على اختصاص في التعليم، أو أنّ أشهر ممثّل أن يكون حاصلاً على شهادة في التمثيل، ويسري ذلك على المغنّي، الرسّام، والفيلسوف، إلخ..؛ كلّ هؤلاء يمكن أن ينجحوا في كارهم من دون أي معرفة مسبقة بالموضوع من الناحية الأكاديميّة.
ويمكن أن نوسّع هذا الأمر إلى مجالات هي في صلب العلوم الإنسانيّة لكن الخزعبلات الأكاديميّة جعلت منها مجالات أقرب إلى العلوم منها إلى الفنون، وأعني تحديداً السياسة والإدارة والتجارة. النجاح في هذه المجالات لا علاقة له بتاتاً بدراستها في الجامعة، ويمكن حتّى للأمّي أن يُحلّق فيها. زد على ذلك، أن أكثر حملة شهادة الدكتوراه في هذه المجالات هم عاجزون عن تكوين ثروة أو النجاح في السياسة أو تأسيس شركات وإدارتها بنجاح.
مقاربة الدراسة في الجامعة على أنّها مرهونة بالعمل المستقبلي (وهو الهاجس العام منذ نشوء الجامعة الحديثة في القرن التاسع عشر) تسببت بأضرار مجتمعية لا تحصى ولا تعد. فبدل أن نهيّئ الأجيال ونبني فكرها وشخصيتها وإنسانيّتها وبوصلتها و..، فرضنا عليها أن تكون عملانيّة وتختار الكار وتتخصّص به (أي أن يكون همّها بالدرجة الأولى المال والمنفعة الشخصيّة). وتركنا الأخلاق والمبادئ والقيم و.. للصدفة.
من هنا نجد مقاربتين مختلفتين لدور الجامعة: تهيئة الإنسان ليكتشف إنسانيّته، أم تهيئة الإنسان ليكون مجرد آلة في سوق العمل. بعض الجامعات تنشد التوفيق بين الإثنتين، لكن هذا النوع من التوفيق بين الأضداد لا ينجح إلاّ على المستوى السطحي (أي عندما ندخل في العمق، لا نجد أثراً له) أو فقط على المستوى الفردي (أي أنّ النجاح ينحصر ببعض الأفراد الذين يقومون بجهد إضافي للتوفيق بين الإثنتين ولا يمتد أثره عامّةً إلى المجتمع ككلّ).
لنعد إلى كار التاريخ. ما هي منافعه؟
أوّلاً، أريد أن أبدِّد فكرة شائعة تقول إنّ دراسة التاريخ تُعرّفنا بالماضي وتراث مجتمعاتنا، ونتعلّم منه لكي نتفادى تكرار الأخطاء. معرفة التاريخ ليست من أجل التعلّم من الماضي. هذه المقولة فيها كثير من الجهل.
دراسة التاريخ متعلّقة بالحاضر والمستقبل. أسخف ما في دراسة التاريخ هو حفظ معلومات واجترارها. ولد النبي محمّد في مكّة سنة 570 للميلاد، وكان عمره 40 سنة عندما أرسل الله الوحي إليه، وكان وكان وكان. كلّ هذه البيانات (إذا ما صحّت) لا تعطينا أي حقيقة عن الإنسان، أو عن واقع مدينة مكّة في زمانه، أو عن ذلك الإله الذي أرسل إليه الوحي، ولماذا اختاره هو ولم يختر غيره، ولماذا مكّة تحديداً وليس الطائف أو مكان آخر، و..
هذه الأسئلة لا يمكن للتاريخ (أي الماضي) أن يجيب عليها. من يجيب عليها هو الحاضر. حاضر ابن إسحاق عندما ألّف سيرته الشهيرة. حاضر الطبري عندما كتب تاريخه المعروف. حاضر ابن سيّد الناس عندما دوّن “نور العيون في تلخيص سيرة الأمين المأمون”. القصد في هذا أنّ التاريخ كماضٍ هو بالدرجة الأولى إيمان بصحّة الأخبار المتداولة وهذا الإيمان هو دائماً نتاج حاضر المؤرّخ وقُرّاءه.
دراسة التاريخ هي ليست عن الماضي. التاريخ هو دائماً عن الحاضر: واقعه، هواجسه، تحدّياته، متطلّباته، إلخ. وعندما ندرسه ونهتمّ به، نعرف كيف نتلاعب به لينفعنا وكيف يتلاعب به غيرنا ليسيطر علينا. وعندما نهمله، نصبح كمن يضع في رقبته رسناً ويعطي طرفه الآخر لخصمه
من هنا، المؤرّخ عندما “يكتب” التاريخ هو عمليّاً وواقعيّاً يعكس حاضره على ماضيه وعلى مستقبله، لأنّه يُقرّر ما سيختار من الماضي والأسئلة التي سيسألها عنه والأطر الجديدة التي سيضعه فيها من أجل معالجة المشاكل أو الهواجس أو .. التي تخطر على باله. وعندما يقوم بذلك، فهو يؤسّس لمستقبل يريده لمن سيستهلك كتاباته ويقرأها ويعتقد بها.
أهمّ مؤسّسات الدراسات التاريخيّة وأكثرها تطوّراً ونفوذاً في يومنا الحالي (ومنذ القرن التاسع عشر) موجودة في المجتمعات الغربيّة. ولا أعني هنا أنّ العالم الغربي يدرس تاريخه فقط. لماذا يدرسون تاريخ العالم كلّه؟ لأنّ دراسة التاريخ هي مشروع سيطرة على عقل العالم وحاضره ومستقبله. عبر رواية تاريخ شعوب العالم، يصبح الغرب المقرّر لكيفيّة بناء هذه الشعوب لهويّاتها (كما فعل بنا ابن إسحاق والطبري و..)، وما هي الأسئلة التي يجب على “أصحاب” ذلك التاريخ الإجابة عنها.
إذا أخذنا الدراسات الإسلاميّة مثلاً، لماذا يهتمّ الألماني والأمريكي والفرنسيّ و.. بدراسة الإسلام؟ معظمهم ليس له علاقة بالإسلام (لا ديناّ ولا نسباً ولا حضارةً). إهتمامهم بالإسلام هو من أجل السيطرة على النقاش حول الإسلام. إذاً، هذا ليس عن الماضي بل عن الحاضر والمستقبل.
منذ أواخر القرن التاسع عشر، أصبح المسلمون عاجزين عن قراءة تاريخهم بأنفسهم، وأصبحوا مستهلكين للتاريخ الذي ينتجه لهم الغرب. وبدأوا ترجمة ما يكتبه الغرب عنهم وبذلك أصبح فكرهم التاريخي يتمحور حول الأسئلة التي جبرهم الغرب على معالجتها: الإسلام والعنف، الإسلام وتعدّد الزوجات، الإسلام والحريّة الفرديّة والجنسيّة، الإسلام والمرأة، وأسئلة هي في معظمها ثانويّة مقارنةً بواقع الهيمنة الغربيّة (سياسيّاً وإقتصاديّاً وعلميّاً). بمعنى آخر، بدل أن نستخدم التاريخ لنهيّئ مجتمعاتنا لمواجهة هذا الغزو الغربي الممنهج، أهملنا التاريخ فاستخدمه الغرب ليكوّن لنا شخصيّاتنا الحالية وأبطالنا الدائمين. فأصبح هاجس البعض منّا الهروب من هذه النمطيّة الغربيّة لتاريخنا، خصوصاً البعد الديني منه (وللأسف سقط في هذا الفخّ أهمّ مفكّري عصر النهضة أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمّد عبده ومحمّد إقبال وفاطمة المرنيسي وغيرهم)، أو اقتبسوها ولجأوا إليها (أمثال محمّد رشيد رضا ويوسف القرضاوي و..).
في الخلاصة، دراسة التاريخ هي ليست عن الماضي. التاريخ هو دائماً عن الحاضر: واقعه، هواجسه، تحدّياته، متطلّباته، إلخ. وعندما ندرسه ونهتمّ به، نعرف كيف نتلاعب به لينفعنا وكيف يتلاعب به غيرنا ليسيطر علينا. وعندما نهمله، نصبح كمن يضع في رقبته رسناً ويعطي طرفه الآخر لخصمه.