بلينكن في الصين.. تخادم مع بايدن حتى نهاية 2024

يكفي الإعلان عن لقاء بين الرئيس الصيني شي جين بينغ ووزير خارجية الولايات المتحدة أنتوني لينكن في ختام زيارة الأخير إلى العاصمة الصينية، للإستنتاج بأن المفاوضات الصينية الأميركية أفضت إلى نتيجة مرضية للطرفين وإلا ما كان لهذا اللقاء أن يعقد في ساعة متأخرة ليلاً بتوقيت الصين.

يكاد مشهد إضاءة قاعة الشعب الكبرى ليلاً بمثابة إستثناء في البروتوكول الصيني. فاوض أنتوني بلينكن طواقم الديبلوماسيين وكبار أعضاء اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي الصيني، وعندما خرج الدخان الأبيض، صار اللقاء بينه وبين الرئيس الصيني تتويجاً لتفاهمات معينة، تم تحديد أرضيتها، على أن تستكمل هذه المفاوضات في مرحلة لاحقة.

تجدر الإشارة إلى أن بلينكن هو أول وزير خارجية أميركي يزور الصين منذ العام 2018، ولوحظ أثناء تصوير اللقاء أن الرئيس الصيني بقي واقفاً مكانه.. وعلى بعد أمتار قليلة مدّ يده ليصافح الوزير الأميركي وتعمد الإعلام الصيني لاحقاً تعميم بعض الكلام الإيجابي الذي قاله شي جين بينج أثناء إستقبال بلينكن.

من الواضح أن كلا البلدين يريدان تخفيف منسوب التوتر بينهما، لكن لأسباب ليست بالضرورة واحدة، وهو الأمر الذي تعكسه روحية البيانين الصادرين عن الجانبين (كلٌ منهما على حدة)، وهي أسباب لا يحبذ الطرفان البوح بها علناً.

في الواقع، فإن الولايات المتحدة والصين تواجهان ضغوطاً داخلية خاصة بهما ولكنها متشابهة وتظهر في شكل «سخط قومي» موجه ضد الصين في أميركا وموجه ضد أميركا في الصين، وذلك إنعكاساً لظاهرة التباطؤ الاقتصادي في الإقتصادين الصيني والأميركي.

في الصين، تراجعت العملة الوطنية إلى مستوى منخفض للغاية (على الرغم من دعم المصارف المملوكة من الدولة وفشل اليوان في الحفاظ على سعره مقابل الدولار وعجز الاقتصاد الصيني عن تعويض خسائر جائحة كورونا.

لقد انخفض اليوان بنسبة 15٪ هذا العام بالنسبة للدولار- أرقام الفصل الأول – ووصل سعر الدولار إلى 7.50 رنمينبي (إسم العملة الصينية) في السوق الخارجية (خارج الصين)، وهو رقم قياسي. وواصل معدل البطالة ارتفاعه إلى مستوى عال جديد، وبالتالي تأثرت “مبادرة الحزام والطريق” وانعكس ذلك تضخماً في الاقتصاد الداخلي.

يكفي الالتفات هنا إلى معنى تقسيم العملاق الرقمي Alibaba إلى ست شركات للإشارة إلى أن النمو الاقتصادي «المجنون» سابقاً، قد انتهى وأنه يجب على الصين بذل جهد تفاوضي مع الولايات المتحدة لإعادة فتح الأسواق أمامها.

الجانب الخفي في المفاوضات هو قضية شراء الديون الأميركية، بمعنى امتلاك الصين مليارات الدولارات من أوراق الخزينة الأميركية. فبعد انطلاق حرب روسيا ـ أوكرانيا، خفّضت الصين، ثاني أكبر مشترٍ أجنبي للديون الأميركية، حيازاتها من سندات الخزينة الأميركية من 981 مليار دولار في حزيران/يونيو 2023 نزولاً حتى 968 مليار دولار في شهر واحد

في المقابل، فإن العام المقبل (2024) هو عام الانتخابات الأميركية، والخطر على إدارة جو بايدن الديموقراطية قائم وجدي، لا سيما في ضوء إتهامها من الجمهوريين بأنها ضعيفة تجاه الصين. من هنا تتبدى ملامح الموقف الدرامي لفريق بايدن «كيف يمكن الظهور كمن يتشدد مع الصين مع فتح الأسواق الأميركية مجدداً للسلع الصينية الرخيصة لامتصاص التضخم؟»؛ ذلك أن التضخم يصيب أولاً وأخيراً الطبقات الشعبية المؤيدة للجمهوريين والتي تشكل رافعة لدونالد ترامب، وهذا الأمر ليس لمصلحة الديموقراطيين الذين يريدون تضييق القاعدة الإنتخابية لخصمهم. يؤدي ذلك إلى تخادم ظرفي متبادل بين واشنطن وبكين قد لا يتعدى سقفه الزمني تاريخ من يجتاز عتبة البيت الأبيض إلى المكتب البيضاوي في مطلع العام 2025.

السبع ساعات ونصف الساعة التي قضاها بلينكن مع نظيره الصيني تشين غانغ كانت كافية لتنسيق «كيفية الإفلات من هذا الفخ المشترك والمتبادل»، وذلك من ضمن اتفاق سري بحيث يتم دعم الجانب الاقتصادي لكلا البلدين بشكل متبادل ولكن «من تحت خط الصراع المُعلن»، ما يمكن أن يُساعد شي جين بينغ وجو بايدن في إستيعاب مصاعبهما الإقتصادية، وهذا هو “فن السياسة الدولية الخفية»، على حد تعبير خبير فرنسي بالملف الصيني ـ الأميركي، وذلك في معرض توصيف سياسة العصا والجزرة المتبادلة بين الجانبين.

ما هي أبرز عناوين مداولات رحلة بلينكن؟

تطرقت رحلة بلينكن إلى قضايا مضيق تايوان والحرب الأوكرانية، وفي هذين الملفين، وعلى الرغم من أن كلا الجانبين قالا إنهما يريدان إجراء تغييرات في العلاقات الثنائية، لم يُقدّم أياً منهما أي تنازلات بشأنها ولم تتغير مواقفهما مقدار ذرة واحدة خلال الاجتماعات أو في البيانات التي صدرت بشكل منفرد، حتى مسألة حظر توريد رقائق الحواسيب لم تكن أهميتها بالقدر الذي تتحدث عنه الصحافة الأجنبية. ويقول أحد الخبراء الفرنسيين «خلال سنتين أو ثلاث تستطيع الصين تعويض النقص في تصنيع المعالجات ورقائق الحواسيب».

ويضيف الخبير نفسه أن التقدم التقني في الصين “ذو قيمة عالية وفي حال النقص لن تجد بكين صعوبة في شراء ما تحتاجه عبر جالياتها العديدة المنتشرة في شتى أنحاء العالم، كما أنها تعلمت من روسيا كيفية التحايل على أنظمة العقوبات والحصار التجاري”، ويستطرد قائلاً «كما تسعى الدول الغربية لإعادة توطين مصانعها، فإن دول الجنوب السياسي (الهند والصين وروسيا بشكل خاص) تسعى أيضاً لاستحواذ تصنيع ما كانت تستورده من الغرب طوال عقود من الزمن».

إقرأ على موقع 180  بصفقةٍ أم بحربٍ.. لا بدّ من هزيمة التطرّف

ماذا تبقى لملء ساعات النقاشات الطويلة؟ مسألة تايوان؟ كما قلنا وردت على طريقة “إعادة تثبيت المواقف”. مسألة اضطهاد الأيغور؟ لا تقبل الصين بأي حال من الأحوال وضع هذه المسألة على طاولة النقاشات، فهذا الأمر «محض شأن داخلي». مسألة بحر الصين الجنوبي وتمدد البحرية الصينية فيه؟ أيضاً رفضت الصين دائماً الاعتراف بحقوق الدول المحيطة بأرخبيل سبراتلي وباراسيل وترى بكين أن واشنطن تسعى لمحاصرتها جغرافياً عبر مدخل المحيط الهادىء الكبير، وبالتالي ترى لنفسها دوراً يوازي دور واشنطن في تلك المنطقة. ويرى المراقبون أن توازن القوى يمكنه أن يقود نحو تجميد تضارب المصالح، فيما يحاول كل منهما تجنيد حلفاء من هنا وهناك لدعم مواقفه.

حتى تهم التجسس المتبادلة والحديث عن قاعدة تنصت في كوبا، ليست ذات أهمية، ناهيك عن مسألة «البالون» عندما تتباهى واشنطن ببناء تحالف آسيوي يحيط بالصين. إنها «حركات بين القوى العظمى»!

لكن الجانب الخفي في المفاوضات هو قضية شراء الديون الأميركية، بمعنى امتلاك الصين مليارات الدولارات من أوراق الخزينة الأميركية. فبعد انطلاق حرب روسيا ـ أوكرانيا، خفّضت الصين، ثاني أكبر مشترٍ أجنبي للديون الأميركية، حيازاتها من سندات الخزينة الأميركية من 981 مليار دولار في حزيران/يونيو 2023 نزولاً حتى 968 مليار دولار في شهر واحد، وفقاً لبيانات الخزينة الأميركية.

وكانت الصين تشتري سندات أميركية ضمن خطة رفع قيمة الدولار تجاه اليوان الصيني، ما يُسهّل انتشار سلعها في العالم حيث التداول التجاري (كان فقط) بالدولار.

عدة عوامل دفعت بكين لتغيير سياستها المالية ذلك أنها رأت كيف تقود العقوبات الأميركية إلى تجميد إن لم نقل وضع يد على السندات التي تمتلكها روسيا، من جهة، ومن جهة أخرى، تراجع تصدير السلع الصينية إلى الأسواق الغربية والأميركية بشكل خاص.

أما العامل الثاني، فهو توجه «البريكس» إلى إنشاء نظام مالي يعتمد اليوان كعملة أساسية، وهو ما يهدد هيمنة الدولار على التجارة العالمية.

هذه الحسابات هي التي تطلبت 7 ساعات ونصف الساعة من المفاوضات، وهي التي لم تُذكر في أي من البيانات التي صدرت بعد اللقاءات الصينية الأميركية. ويعتبر المراقبون في آسيا أن الرئيس الصيني تشي جين بينغ لم يكن ليستقبل أنتوني لينكن في ساعة متأخرة برتوكولياً، إلا بعد أن توصل المفاوضون إلى نتيجة ترضي الطرفين.

Print Friendly, PDF & Email
بسّام خالد الطيّارة

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في فرنسا

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  إنتخابات ايران التشريعية تحسم الرئاسية.. بمشاركة هي الأقل منذ 1979