أبدأ بالقول إنّ الدكتور كمال الصليبي ليس أوّل من أطلق النظريّة القائلة إنّ أحداث التوراة جرت في جنوب غرب الجزيرة العربيّة (اليمن أو عسير). لقد سبقه إلى ذلك بعض المستشرقين الأوروبيّين الذي وجدوا تشابهاً كبيراً بين العادات القديمة لأهل اليمن وعسير وطبيعة الدين هناك وبين ما وجدوه في التوراة (معظم هذه الآراء كانت عبارة عن ملاحظات سطحيّة لا ترقى إلى البحث العلمي). وهناك (منذ أن نشر الصليبي كتابه في سنة 1985) رتلٌ كبيرٌ من المؤرّخين العرب والغربيّين توصّلوا إلى الإستنتاج نفسه بأن أحداث التوراة تنطبق على جغرافية غرب الجزيرة العربيّة.
إذاً، الصليبي ليس بصاحب هذه النظريّة، مع العلم أنّه أعطاها زخماً كبيراً في كتبه العديدة التي ناقشت هذا الموضوع، وآخرها كتابه “عودة إلى التوراة جاءت من جزيرة العرب” (سنة 2008). والجدير ذكره هنا أنّ الصليبي تنبّه إلى بعض الأخطاء التي ارتكبها في كتابه الأوّل، فصحّحها ووضّح خلاصاته، بما في ذلك قراءة بعض أسماء الأماكن. لذلك من واجب الأكاديمي أن يأخذ أثناء التقييم، في العام 2023، كل ما كتبه الصليبي في هذا الموضوع، وليس كتابه الأوّل فقط.
سابقة الصليبي مقارنة بمن سبقه، والتي شكّلت أساس مساهمته الفريدة في النقاش حول جغرافية التوراة، هي في المقاربة اللغويّة. ساعده في ذلك إلمامه العميق باللغات العبريّة والآراميّة والعربيّة وإطّلاعه على جغرافية عسير ونجران واليمن (نتيجة سلسلة زيارات ميدانية قام بها في ستّينيات القرن المنصرم). على أساس ذلك، ومستعيناً بمصادر جغرافية قديمة وحديثة ومشاهدات شخصيّة، قدّم الصليبي قراءة لغويّة بحثيّة جديدة لجغرافية التوراة تنطبق برأيه على جغرافية عسير، ولا سيما قراءة أسماء الأماكن والأشخاص المذكورين في التوراة ومقارنتها بالأماكن في عسير.
وقبل أن أدخل في الإطار الكبير للنقاش، أريد أن أشير إلى بعض الهنّات الهينات، ولست أنا هنا في صدد التركيز على الأخطاء (جلّ من لا يخطئ)، بل في استخدامها للدلالة على إشكاليّات علينا أن نكون واعين لها في تقييمنا لعمل مؤرخ مثل كمال الصليبي.
يستشهد شومان (في المقال الأوّل) بالمؤرّخ السعودي الراحل حمد الجاسر. يقول الجاسر منتقداً الصليبي أنّ الأخير “يخلط بين أسماء القرى وأسماء السكان، ولم يدرك أن أكثر المدن والقرى تحمل أسماء حديثة، وليس الأمر كذلك بالنسبة لكثير من الأقطار الأخرى كسوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن ومصر، إذ أن تلك الأقطار أغلب سكانها من الحضر المستقرين الثابتين فيها على توالي العصور، فتبقى أسماء المدن والقرى ثابتة بخلاف سكان الجزيرة الذين أكثرهم عرضة للتنقل والإرتحال فينشأ عن ذلك إحداث أسماء جديدة للمواضع والمياه والقرى وتُجهل أسماؤها القديمة”.
رأي حمد الجاسر هذا يرفضه العقل العلمي والمنطق والتاريخ. معظم بلدات ومدن اليمن القديمة لم تتغيّر أسماءها منذ آلاف السنين، وكذلك عسير ونجران. هذه ليست أماكن بدو رحّل بعثرت الريح آثارها وبكى الشعراء على أطلالها، بل هي أماكن ثابتة استمر العيش فيها منذ القدم. ويمكن أن نقول إنّ بلاد الشام وفلسطين شهدت كثيراً من النزوح السكّاني وقدوم شعوب أخرى مكانها نتيجة للحروب والكوارث الطبيعيّة (كقدوم العرب من الجزيرة العربيّة أثناء ما نسمّيها “الفتوح الإسلاميّة” في القرن السابع للميلاد، أو الترك والمغول أثناء الفتوحات السلجوقيّة والمغوليّة، أو وباء الطاعون الذي قضى على كثير من السكّان في فترات مختلفة، إلخ)، ومع ذلك، أبقى السكّان الجدد على أسماء الأماكن القديمة على حالها، وغيّروا فقط في طريقة لفظ أسمائها.
كلام حمد الجاسر في نظريّة الصليبي، يتناقض مع كلام ناقد سعودي آخر يستشهد به الأستاذ شومان (أحمد الفيفي الذي يؤكّد أنّ أسماء الأماكن في عسير هي قديمة).. كان أمثال الجاسر والفيفي وغيرهما ربما “مجبورين” أن يُصرّحوا بما صرّحوا به نتيجة الحملة القاسية التي أثارتها حكومة المملكة العربيّة السعوديّة ضدّ الصليبي وكتابه (التوراة جاءت من جزيرة العرب)، والتي جُنّد لها حشد من المؤرّخين في المملكة (قسراً أو طواعيةً) وأيضاً خارج المملكة، ورافقها منع المؤرّخين أو علماء الآثار من السفر إلى عسير أو إجراء أبحاث أثريّة هناك للتأكد ما إذا كان ما قاله كمال الصليبي صحيح.
وأريد أيضاً الإشارة إلى أنّ الكثير من النقد السعودي للصليبي أساسه ديني ـ سياسي لأنّه زعزع السردية الدينيّة المؤسّسة للإسلام والمسيحيّة واليهوديّة، أو أن البعض أعطاه طابعاً سياسياً من نوع دعوة اليهود لأخذ الجزيرة العربيّة كما فعل المستوطنون في فلسطين. من هنا علينا أن نعترف أن العديد من الآراء السعودية (وربما الخليجية) المنتقدة لكتاب الصليبي ومنهجيته كانت إرتجاليّة أو مجتزأة.. دفاعاً عن مرتكزات دينيّة وسياسيّة.
هناك بعض المغالطات الأخرى (مثلاً في المقال الثاني للزميل توفيق شومان)، حيث ينتقد الصليبي لارتكابه خطأ في قراءة ما قاله هيرودوتس عن أصل الفينيقيّين. يقول شومان نقلاً عن الصليبي:
“لا يُبدي المؤرخ الإغريقي هيرودوتس أي شك حول كون أصولهم من غرب شبه الجزيرة العربية وهو يقول ـ أي هيردوتس ـ هؤلاء الناس واستناداً إلى روايتهم نفسها قطنوا في القديم على البحر الأحمر، وبعبورهم من ذلك المكان استقروا على ساحل البحر في سوريا حيث ما زالوا يقيمون”.
يُعلّق شومان على كلام الصليبي قائلاً: “في الواقع هذا “اجتهاد” تفسيري للتاريخ، فهيردوتس، وفقاً للنص الذي يستشهد به الصليبي لا يربط بين الفينيقيين وغرب شبه الجزيرة العربية ولا يشير إلى ذلك إطلاقاً..”. لكن الغريب أنّ شومان يستشهد بنصّ هيرودوتس والذي يشير بوضوح إلى أنّ المؤرّخ الإغريقي قال حرفيّاً إنّ الفينيقيّين “مهدهم في القديم شواطىء البحر الإرتيري ثم هاجروا إلى شواطىء البحر المتوسط ليستقروا في البلاد التي يسكنونها الآن”. إذاً، لم يرتكب الصليبي أي خطأ في ما نقله عن هيرودوتس.
وللتوضيح، عبارة “البحر الإريتري” أو “بحر إريتريا” تشير إلى أنّ من استخدمها أساساً عاش على السواحل الشرقيّة للبحر الأحمر قبالة إريتريا، أي في غرب الجزيرة العربيّة (تحديداً بلاد عسير واليمن).
كان أمثال الجاسر والفيفي وغيرهما ربما “مجبورين” أن يُصرّحوا بما صرّحوا به نتيجة الحملة القاسية التي أثارتها السعوديّة ضدّ الصليبي وكتابه (التوراة جاءت من جزيرة العرب)، والتي جُنّد لها حشد من المؤرّخين في المملكة وخارجها، ورافقها منع المؤرّخين أو علماء الآثار من السفر إلى عسير أو إجراء أبحاث أثريّة هناك للتأكد ما إذا كان ما قاله كمال الصليبي صحيح
إشكاليّة الرواية التوراتية وجغرافية فلسطين
تقييم جهد الصليبي في كتابه “التوراة جاءت من جزيرة العرب” وكتبه الأخرى يجب أن يبدأ من حقيقة لا غبار عليها، وهي أنّه حتّى يومنا هذا، لا دلائل تاريخيّة أو أثريّة تثبت أنّ أحداث التوراة حصلت على أرض فلسطين. أنا أتحدّث عن دلائل ثابتة، لا عن نظريّات أو تفسيرات أو تكهّنات أو استنتاجات. وهناك حقيقة أخرى أنّ ما ترويه التوراة لا ينطبق تماماً على جغرافية فلسطين. أدّت هاتان الحقيقتان بالكثير من العلماء المتخصّصين في كتاب العهد القديم منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى القول إنّه لا يجب قراءة التوراة كتاريخ بل كعقيدة. وهنا علينا أن نتوقّف عند حقيقة أخرى أنّ الآلاف من علماء الآثار (إسرائيليّون ومن أوروبّا وأمريكا) نبشوا فلسطين من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى بحرها ولم يجدوا بعد أي إثبات أنّ الملك داوود أو الملك سليمان أو الملوك المذكورين في التوراة (تحديداً في الكتب الخمسة من العهد القديم) كانوا شخصيّات تاريخيّة، أو أنّه كان هناك هيكل (المعروف بهيكل سليمان) في أورشليم القدس، أو..
إنطلق الصليبي من هذه الحقائق: إذا كانت جغرافية فلسطين لا تنطبق على التوراة وإذا كانت الوثائق التاريخيّة والنقوش التي لدينا عن فلسطين من تلك الفترة لا تأتي على ذكر أي من الأحداث والشخصيّات التي يذكرها التوراة، هل يمكن أنّ يكون ذلك حصل في مكان آخر؟ قاده حدسه كمؤرّخ (وبيئته الدينيّة) إلى الإعتقاد أنّ التوراة تروي تاريخاً (يمكن أن يكون فيه مبالغة من دون شكّ) لأحداث وشخصيّات حقيقيّة لكنّها حدثت في مكان آخر، وهذا التاريخ تشوّه مع الزمن لأنّه أُخذ وتمّ فرضه على جغرافية مغايرة هي جغرافية فلسطين.
يمكن أن نُخطّئ الصليبي في هذه النقطة. ليس هناك من دليل أنّ أحداث التوراة حصلت في الواقع: لا في فلسطين ولا في عسير. لكن ما هو مدهش في مقاربة الصليبي أنّ بعض أسماء الأماكن والعشائر في عسير تبدو مشابهة للأسماء التي نجدها في التوراة. وفي بعض الحالات، هناك تطابق مذهل من جهة الموقع الجغرافي مقارنة ببعضها البعض، وهذا ليس الحال في ما يخصّ جغرافية فلسطين، حيث في كثير من الحالات لا ينطبق الوصف الجغرافي التوراتي مع ما نجده في الواقع.
ما كتبه شومان لا يبرهن أنّ الصليبي في هذا الخصوص كان على خطأ: التشابه موجود. إذاً ما نحتاجه هو البحث عن آثار يمكن أن تبرهن لنا ما إذا كان الصليبي أصاب أم أخطأ، وأين أصاب إذا أصاب وأين أخطأ إذا أخطأ؟ لكن قبل أن نجد آثاراً، لا يمكن أن نتصرّف وكأنّ الصليبي “برهن” أو “أثبت” أنّ أحداث التوراة حصلت في غرب الجزيرة العربيّة.
وإلى جزء ثانٍ قريباً.
راجع “كمال الصليبي.. وفتنة اللغة الشقيّة” (1)