تأخر الوقت كثيراً قبل أن تأتينا الأخبار بعزل محمد حمدان دَقَلو (حميدتي) من منصبه نائباً لرئيس مجلس السيادة السوداني، لتتأكد التوقعات بأن الفرصة للصلح أو العودة إلى ما قبل تفجُّر الأوضاع في السودان تتلاشى، وبالتالي ترتفع احتمالات تواصل المعارك لمدة غير محددة واتساعها أكثر وازدياد ضراوتها لتزداد معها عذابات السودانيين.
بعد أسبوع من تفجُّر الصراع الذي بقي لفترة طويلة تحت الطاولة إلى معارك عنيفة ودموية بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، و”قوات الدعم السريع”، بقيادة نائبه، حميدتي، في العاصمة السودانية، في 15 أبريل/نيسان الماضي، أصدر مركز “ستراتفور” الأميركي للدراسات الاستراتيجية والأمنية تقريراً حول مآلات الصراع في السودان، حدّد فيه 4 سيناريوهات قد يتطور الصراع وفقها.
بحسب التقرير الأميركي، ينص السيناريو الأول على احتمال أن يوافق الطرفان على هُدنٍ دورية، وتركز القتال في المدن، مع غياب إمكانية التوصل لوقف دائم لإطلاق النار. وإذ تحقق هذا السيناريو عبر ما حصل في الخرطوم خلال شهر من المعارك وتركزها فيها، وعدم امتدادها إلى مناطق أخرى، لإدراكهما أهمية العاصمة ورمزية سيطرة أحد الطرفين عليها، والذي يؤدي إلى تركز القرار السياسي بيده، إلا أن السيناريو الثاني القائل باستمرار المعارك العنيفة في المدن مع عدم التوصل إلى وقف لإطلاق النار بسبب تكافؤ قوة الطرفين قد تحقق أيضاً، وتواصلت المعارك من دون غلبة لأحدهما لأنهما متماثلين بالقوة من ناحية الأفراد والعتاد. وتوقَّع التقرير ألا يستطيع أحد الطرفين حسم القتال بسبب الدعم الذي يصلهما، خصوصاً “قوات الدعم السريع” التي أفادت معلومات كشفتها مصادر عسكرية وأمنية في جنوب ليبيا، أنها تتلقى دعماً من قوات “فاغنر” الروسية التي تمدها بمقاتلين وتعزيزات من ليبيا. لذلك قد يستمر الأمر على هذه الشاكلة لفترة طويلة: لا استسلام لطرف في هذه المعارك، ولا انتصار لآخر.
وعلى الرغم من أن السيناريو الثالث الذي وضعه مركز “ستراتفور”، والذي ينص على احتمال أن يُلحق أحد الطرفين الهزيمة بالطرف الآخر، ما يؤدي إلى لجوئه إلى مناطق ريفية، وبالتالي مواصلة القتال هناك في مراحل لاحقة، إلا أن الغلبة لم تحصل في الخرطوم بسبب صعوبة الحسم فيها وسعي الطرفين بعناد للسيطرة عليها. لكن يبدو أن القتال سيصل إلى مناطق ريفية ومدن أخرى؛ مثل مدينة الجنينة غرب البلاد، حيث تتخذ الاشتباكات أبعاداً قبلية.
مهما تعدّدت التحليلات، فإن عدم قدرة الجيش على حسم المعركة مع “قوات الدعم السريع” الخبيرة في حروب الشوارع في المدن وحرب العصابات وحرب الصحراء، قد يجر المؤسسة العسكرية إلى حرب استنزاف، خصوصاً إذا لم يتوقف الدعم الإقليمي والدولي لحميدتي
وفي نهاية مايو/أيار الماضي، تجددت الاشتباكات التي وقعت أول مرة بين الطرفين في مدينة نيالا غربي البلاد، أواسط أبريل/نيسان الماضي، وأدت إلى مقتل العشرات خلال ثلاثة الأيام. كما أصدرت “قوات الدعم السريع” في 19 مايو/أيار الماضي، بياناً قالت فيه إنها سيطرت على مدينة زالنجي وسط دارفور بعد معارك تصدت خلالها لقوات الجيش وأجبرتها على الانسحاب من المدينة.
مع هذه المؤشرات، ومع إصدار قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة السوداني، عبد الفتاح البرهان، بعد شهرين من اندلاع القتال، قراراً متأخراً يعزل بموجبه محمد حمدان دقلو (حميدتي)، قائد “قوات الدعم السريع”، من منصبه نائباً لرئيس مجلس السيادة، فإن ذلك القرار جعل احتمالات التوفيق بين الطرفين والوصول إلى وقف دائم لإطلاق النار بحكم المنتهية. وإذ يعد هذا الأمر إشارة إلى إمكانية توسُّع نطاق المعارك لتشمل مناطق آمنة وبضراوة أكبر، فإنه ربما يشير إلى تلقي البرهان دعماً مادياً ومعنوياً مؤثراً من جهات ليس لها مصلحة في استمرار القتال على هذه الشاكلة من عدم الحسم، خصوصاً دول الجوار المتضررة من النزاع. ويهدف دعمٌ كهذا لحسم المعركة وإجبار حميدتي على الاستسلام، آخذين بالاعتبار أن الانهاك بدأ يصيب الطرفين وليس طرفاً دون الآخر.
وقد كان عدم إصدار البرهان قرار عزل نائبه المتمرد حميدتي منذ اليوم الأول للمعارك محور تحليلات مفادها أن الرجلين توافقا على الانقلاب على المكون المدني، في أكتوبر/تشرين الأول 2021، يوم ألغيا مسار الانتقال إلى الحكم المدني، بحجة أن السياسيين يُحرضون على الجيش، وأنهم لا يؤتمنون على البلاد. كما توقف المحللون عند وقائع رُصدت فور اندلاع المعارك بين الطرفين، وبينها سرعة سيطرة “قوات الدعم السريع” على مواقع استراتيجية ومقارٍ حكومية وسيادية. كما لاحظ المحللون عدم قصف قوات الجيش منزل حميدتي في الخرطوم حتى الآن، إضافة إلى أن كثيرين رصدوا تحشيد “الدعم السريع” قواتها في العاصمة قبل أسبوعين من اندلاع القتال فبدت أنها جاهزة ومستعدة لها فسيّرت المعارك وفق خططٍ وضعتها مُسبقاً.
ومهما تعدّدت التحليلات، فإن عدم قدرة الجيش على حسم المعركة مع “قوات الدعم السريع” الخبيرة في حروب الشوارع في المدن وحرب العصابات وحرب الصحراء، قد يجر المؤسسة العسكرية إلى حرب استنزاف، خصوصاً إذا لم يتوقف الدعم الإقليمي والدولي لحميدتي. كما أن خطوة عزل حميدتي زادت ضراوة القتال. وبين هذا وذاك، ومع عدم وجود توجُّه دولي للوقوف على الأسباب الحقيقية التي أوصلت إلى هذا الصراع، ودور قوى دولية في تأجيجه، يبدو أن محنة السودانيين مع الجيش و”قوات حميدتي” ومع المجتمع الدولي الذي لا يقرأ الوقائع إلا وفق مصالحه، ستزداد مع توسع القتال، وهذا يزيد أيضاً من خطورة التداعيات والتأثيرات على دول الجوار.