الصين تُشغّل محركاتها الديبلوماسية فلسطينياً: السياق والأهداف

أعلنت وسائل إعلامية صينية أن مبعوثاً حكوميا صينياً خاصاً سيزور المنطقة هذا الأسبوع في إطار مسعى صيني للتوصل إلى وقف لإطلاق النار بين "حماس" وإسرائيل والتشجيع على إجراء محادثات سلام من دون الإفصاح عن الأطراف التي سيلتقيها هذا المبعوث.

بغض النظر عن مدى نجاح المسعى الصيني هذا، إلا أن الخطوة بحد ذاتها تعتبر متقدمة على خط الملف الفلسطيني إذ لطالما احتكرت الإدارة الأميركية ملف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين مستفيدة من موقعها الدولي المؤثر على غير صعيد.

لم تولِ بكين القضية الفلسطينية الدعم المأمول والمساندة المطلوبة. علاقتها مع الفلسطينيين تراوحت بين مد وجزر بحسب الظروف والمتغيرات التاريخية لكل فترة محاولة إقامة توازن بين علاقات قوية بينها وبين إسرائيل من جهة، ودعهما لحركات التحرّر الوطني، وبينها منظمة التحرير الفلسطينية، من جهة أخرى.

مواقف مبدئية

البعد الجغرافي أيضاً كان سبباً في عدم انخراطها في القضية الفلسطينية بالشكل الذي يؤمل أن يكون. وربما اتكأت على موسك المنخرطة أكثر في هذا المجال منذ أيام الحرب الباردة. ظلّت بكين تعتبر أن روسيا هي من يُمثلها في هذا الملف وكان التنسيق بين القطبين الشيوعيين حينها تنسيقاً فرضته وقائع دولية عززّها حضور وتنامي القوى التحررية في العالم، وعلى رأسها الثورة الفلسطينية.

ولطالما كانت الديبلوماسية الصينية تُكرّر وجوب احترام القرارات الدولية الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة فيما خص الحقوق الفلسطينية والعربية وهي التي دعمت إصدار هذه القرارات. إضافة إلى ذلك، يُكرّر المسؤولون الصينيون دعمهم لإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة كاملة على أساس حدود عام ١٩٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية. وعلى الرغم من الموقف المتقدم للديبلوماسية الصينية فيما يخصّ الحقوق الفلسطينية المكتسبة، إلا أن المجال لم يكن متاحاً لها للعب دور أكبر في هذا الملف حتى وإن وجدت الرغبة في ذلك.

الحرب العدوانية الإسرائيلية على غزة يبدو أنها وفرّت الظروف المناسبة لعرض بكين، التوسط بين الطرفين. ولكن لا يجب أن نغفل أن المسعى الصيني سيواجه بعقبات عديدة. لن يُسمح أميركياً لبكين بالتدخل في ملف لطالما اعتبرته واشنطن من “اختصاصها”

الأحادية الأميركية

دشّن اتفاق أوسلو (١٩٩٣) مساراً في محادثات السلام تقوده أحادية أميركية وذلك غداة سقوط الاتحاد السوفياتي. أٌبعدت الصين عن ملف المحادثات الإسرائيلية- الفلسطينية، منذ اتفاق أوسلو وصولاً إلى محادثات كامب دايفيد (٢٠٠٠). كانت الصين حينها مشغولة ببناء قوتها الإقتصادية وتمضي في سباقها مع الولايات المتحدة في ميادين عدّة. حتى في اللحظة التي قررّت فيها واشنطن توسيع إطار الدول الراغبة في حل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، عقب الانتفاضة الثانية عام ٢٠٠٠، لم تكن بكين في عداد هذه الدول اذ ضمّت المجموعة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة. إذاً، ضُمت موسكو وليست بكين وظلّت الأخيرة تراقب عن كثب تطورات هذا الملف وهي تعي أن التعثر في الأحادية الأميركية سيقود حتماً في يوم من الأيام إلى تغير الرعاة الإقليميين والدوليين المنخرطين في ملف الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين. فكان رهانها صائباً إذ لم تستطع إدارة دونالد ترامب إمرار “صفقة القرن” على الرغم من كل التحشيد الدولي الذي رعته واشنطن ووفرت ظروفه العدوانية الإسرائيلية.

ولكن لماذا تنامى حضور الطرف الصيني مؤخراً في هذا الملف؟

انعطافة صينية في الإقليم

غنيٌ عن القول إنّ الدولة الصينية استطاعت مؤخراً منافسة الولايات المتحدة الأميركية وهي في طريقها لتبوء المركز الاقتصادي الأول في العالم في السنوات والعقود المقبلة. فرض هذا الأمر عليها حضوراً مكثفاً في سياسات الشرق الأوسط مستفيدة بالطبع من انكفاء أميركي بدأت معالمه تظهر خلال ولاية الرئيس جو بايدن. وضمن إطار توسع دورها الإقتصادي والسياسي، رعت بكين إتفاقاً بين السعودية وإيران في آذار/ مارس الماضي إذ شكّلَ هذا الاتفاق مفاجأة لكل متابعي الحراك السياسي في المنطقة. ضمن هذا السياق، يُمكن محاولة رصد حضور الدولة الصينية بشكل مكثف في ملفات المنطقة وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

وفي يوليو/تموز الماضي، دُعي الرئيس الفلسطيني، محمود عبّاس، إلى الصين حيث أجرى محادثات مع الرئيس الصيني شي جين بينغ ومسؤولين حكوميين آخرين. بحث الرئيسان خلال اجتماعهما آخر مستجدات القضية الفلسطينية وما يتم بذله من جهود لدعم مساعي فلسطين للحصول على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، فيما كان لافتاً للإنتباه أن عبّاس دعا الدولة الصينية إلى أن تتوسط في محادثات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بعد أن كانت السلطة تصرّ على الوساطة الأميركية الحصرية في هذا الملف. إذاً، شيءٌ ما حدث ودفع بالسلطة الفلسطينية لأن تدعو بكين للعب دور أكثر فعالية، وهذا ما يجب أن يتلقفه الفلسطينيون جيداً إذا استطاعوا توظيف هذا الأمر لمصلحة تسوية سياسية عادلة للشعب الفلسطيني.

الفرصة الصينية

كانت الديبلوماسية الصينية تستجمع أوراق قوتها في هذا المجال مستفيدة من دعوة رسمية من عبّاس للتوسط في حل النزاع كما أسلفنا أعلاه الى أن أتى التوقيت المناسب لتوظيف حضورها السياسي في المشهد الفلسطيني. وقد فرضت معركة “طوفان الأقصى” (المستمرة منذ صبيحة السابع من تشرين الأول/أكتوبر) موازين قوى جديدة لمصلحة الفلسطينيين حتماً. ضمن هذا المناخ، فإنّ الحرب العدوانية الإسرائيلية على غزة يبدو أنها وفرّت الظروف المناسبة لعرض بكين، التوسط بين الطرفين، بدليل مبادرة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى الإتصال بنظيره الصيني وانغ يي، حسب الصحافة الغربية، وذلك من أجل إستخدام بكين نفوذها الإقليمي لمصلحة تحصين الإستقرار في المنطقة. ولم تنقطع الإتصالات السعودية بكل من العاصمتين السعودية والإيرانية للغاية نفسها، فيما كان سفراء الصين في العديد من عواصم المنطقة يتابعون تفاصيل الموقف في ضوء التعليمات التي تلقوها من وزارة الخارجية الصينية، وهذه العناصر مجتمعة كانت في صلب قرار الصين إرسال موفد رسمي إلى المنطقة في غضون الأيام المقبلة.

إقرأ على موقع 180  "هآرتس": هجمات إسرائيل لن تُعطل التفاهم النووي

وبرغم “الإستنجاد” الأميركي، لا يجب أن نغفل أن المسعى الصيني سيواجه بعقبات عديدة. لن يُسمح أميركياً لبكين بالتوغل في ملف لطالما اعتبرته واشنطن في صلب “اختصاصها”، إضافة إلى ذلك، ثمة تعنت إسرائيلي واضح إزاء محاولة إشراك عواصم دولية أو إقليمية في مساعي التهدئة بين إسرائيل والفلسطينيين. ولا تزال إسرائيل، حتى تاريخ كتابة هذا المقال، ترفض أي وساطة أو هدنة إنسانية، دعت إليها أكثر من دولة. في أسوأ الأحوال، وفي حال لم يُكتب للمسعى الصيني النجاح، سيكون تمهيداً للعب دور سياسي أكبر مما عهدته الدولة الصينية في الملف الفلسطيني سابقاً. ثمة تعويل فلسطيني داخلي كثيراً على هذا الموضوع خاصةً أنّ الصين كانت من أوائل الدول التي اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية.. ودولة فلسطين.

Print Friendly, PDF & Email
عطالله السليم

كاتب وباحث سياسي

Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  شعبة "أمان" الإسرائيلية: قنبلة إيران النووية الأولى في شتاء 2021!