أولاً؛ “العهد القديم”:
كان العبرانيون يسمون البحر الأحمر بـ”بحر سوف” حيناً و”البحر” أحياناً، وفي “سفر الخروج” جاء “لما أطلق فرعون شعب إسرائيل رأى الله ألا يسير بهم في طريق أرض الفلسطيين مع أنه قريب (…) فأدار الله الشعب في طريق البرية ـ سيناء ـ نحو البحر الأحمر”.
ولما علم فرعون بأمر العبرانيين، كما في السفر عينه، شدّ رحاله نحوهم بمركباته وجنده “وقسى الرب قلب فرعون، حتى تبع بني إسرائيل وهم خارجون بقوة عظيمة، فلحقهم المصريون وهم نازلون عند البحر(…) فقال الرب لموسى إرفع عصاك ومدّ يدك على البحر فينشق ليدخل بنو اسرائيل في وسط البحر على الأرض اليابسة (…) ومدّ موسى يده على البحر، فأرسل الربُ على البحر ريحا شرقية عاصفة طول الليل حتى أيبس ما بين مياهه، فانشقت المياه ودخل بنو إسرائيل في وسط البحر على الأرض اليابسة (…) وتبعهم المصريون (…) وقال الرب لموسى مدّ يدك فيرتد الماء على المصريين وعلى مركباتهم وفرسانهم، فمدّ موسى يده على البحر، فارتد البحر عند طلوع الصبح إلى ما كان عليه، فواجهه المصريون وهم هاربون، فطرحهم الربُ في وسط البحر”.
وبعد خروج العبرانيين وعبورهم البحر الأحمر مثلما يقص “سفر الخروج” أنشد النبي موسى وإياهم هذا النشيد: “أنشدُ للرب جل جلاله، الخيل وفرسانها رماهم في البحر (…) الرب سيد الحروب، مركبات فرعون وجنوده أخفاهم في البحر، نخبة قواده أغرقهم في البحر الأحمر”.
ويرد إسم البحر الأحمر مرات عدة في “سفر العدد” ومن شواهد ذلك “رحل بنو إسرائيل من رعمسيس (مدينة مصرية) ونزلوا بسكوت (شرق الأردن) وارتحلوا من سكوت ونزلوا بإيثام (يرجحونها بالقرب من مدينة الإسماعيلية) ورحلوا من إيثام إلى فم الحيروث (حدود مصر) ورحلوا من فم الحيروث وعبروا البحر الأحمر إلى برية شور (جنوبي فلسطين المحتلة) ونزلوا بمارة (موضع في برية شور) ورحلوا من مارة إلى إيليم (يقال إنه وداي غرندل جنوبي سيناء) وارتحلوا من إيليم ونزلوا على البحر الأحمر، ورحلوا من البحر الأحمر ونزلوا في برية سين”.
ومن ضمن الأسفار التي تتناول نصوصها البحر الأحمر “التثنية” و”يشوع” و”صموئيل” و”نحميا” و”إشعيا”، وجاء أيضا في “المزمور 66”:
“تعالوا انظروا أعمال الله
ما أرهب صنائعه للبشر
حوّل البحر إلى يباس
وبالأرجل عبر أباؤنا النهر
هناك فرحنا به”.
ثانياً؛ “العهد الجديد”:
في “أعمال الرسل” كما يرد في “العهد الجديد” أن “موسى الذي أنكره شعبه وقالوا له: من جعلك رئيسا وقاضيا علينا، هو الذي أرسله الله رئيسا ومخلصا بمعونة الملاك الذي ظهر له، فأخرج شعبه من مصر بما صنعه من العجائب والآيات في أرض مصر وفي البحر الأحمر”.
وفي الرسالة الأولى للقديس بولس إلى “كنيسة كورنثوس” حول الإيمان المسيحي “لا أريد ان تجهلوا أيها الأخوة أن أباءنا كانوا كلهم تحت السحابة وكلهم عبروا البحر، وكلهم تعمدوا لموسى في السحابة وفي البحر”.
وفي “رسالة إلى العبرانيين” موجهة إلى جماعة من المسيحيين لاقوا اضطهادا شديدا “بالإيمان عبر بنو اسرائيل البحر الأحمر كأنه برٌّ، ولما حاول المصريون عبوره غرقوا”.
ثالثاً؛ البحر الأحمر بين الروم والحبشة والجزيرة العربية:
لهذا البحر مكانة ذو أهمية قصوى في الصراعات الدولية التي نشبت في القرن الميلادي السادس، وتشكلت أرضيتها من ثلاثة أضلاع هي الدولة الحميرية في اليمن وإمبراطورية الروم ومملكة الحبشة المعروفة اليوم بأثيوبيا، وحيث عبرت جيوشها البحر الأحمر وفرضت سيادتها على اليمن لعقود من السنين.
ومن أوائل المؤرخين العرب الذين كتبوا حول حقبة الصراع تلك، اليمني وهب بن منبه (ت:740 م) ففي كتابه “التيجان في ملوك حمير” وبعدما قتل ذو نواس الملك لخيعة بن ينوف دانت عشائر حمير له “وبعد حين بلغه أن أهل نجران أتاهم رجل فردهم إلى النصرانية، فسار إليهم ذو نواس بنفسه حتى احتفر أخاديد في الأرض وملأها بالنار، فمن تابعه على دينه خلى عنه، ومن أقام على النصرانية قذفه فيها”.
وإذ مضى ذو نواس مقيما على حرق النصارى، مرّ رجل بمحاذاة المحرقة “فسار في البحر إلى ملك الحبشة فأخبره بما فعل ذو نواس، فكتب ملك الحبشة إلى قيصر ـ ملك الروم ـ يستأذنه في التوجه إلى اليمن، فكتب إليه يأمره بالتوجه إليها، فأقبل ملك الحبشة بسبعين ألف رجل، فجمع أهل ذي نواس وحاربهم، ومضى ـ ذو نواس ـ مهزوما إلى البحر فغرق بمن معه من أصحابه”.
لا يجانب الطبري (ت: 923 م) في “تاريخ الأمم والملوك ـ جزء أول” الأسباب المؤدية إلى محرقة نجران كما رواها إبن منبه فقد “استجمع أهل نجران على ما جاء به عيسى بن مريم من الإنجيل وحكمه، فسار إليهم ذو نواس فجمعهم ثم دعاهم الى اليهودية، فخيّرهم بين القتل والدخول فيها، فاختاروا القتل، فخدّ لهم الأخدود، وأفلت منهم رجل قدم على قيصر صاحب الروم فاستنصره، فكتب قيصر إلى ملك الحبشة يأمره بنصره ـ فبعث ـ النجاشي صاحب الحبشة معه سبعين ألفا ـ يرأسهم ـ أرياط ومعه أبرهة الأشرم، فركبوا البحر حتى نزلوا بساحل اليمن، وسمع بهم ذو نواس فجمع من اطاعه من قبائل اليمن، ثم انهزموا، ودخلها ـ اليمن ـ أرياط بجموعه”.
وإلى حد بعيد تلتقي إحدى روايات إبن الأثير(ت: 1233 م.) في “الكامل في التاريخ ـ جزء أول” مع سابقاتها فلما “قتل ذو نواس من قتل من أهل اليمن في الأخدود لأجل العودة عن النصرانية، أفلت منهم رجل فقدم على قيصر، فكتب قيصر إلى ملك الحبشة يأمره بنصره، فأرسل ملك الحبشة سبعين ألفا وأمّر عليهم أرياط، فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه اقتحم البحر بفرسه فغرق”.
ويجري الحافظ إبن كثير (ت: 1372 م) في “البداية والنهاية ـ جزء 2” على ما جرى أسلافه المؤرخون ممن عرضوا أسباب تنازع القبائل العربية في التدين والتملك مما أدى لدخول الأحباش إلى الجزيرة العربية عبرالبحر الأحمر، وينقل عن إبن اسحاق وإبن هشام كيف غدا أهل نجران “على دين النصرانية وكيف ذو نواس خدً لهم الأخدود، وهو الحفر المستطيل في الأرض مثل الخندق، وأجّج فيه النار وحرقهم”.
المؤرخون العرب المحدثون، تناولوا هذه الواقعة بأبعاد استراتيجية، فذو نواس كما يكتب جواد علي في “المفصل من تاريخ العرب ـ جزء 2”: “كان متحاملا جدا على النصارى والنصرانية حتى أنه راسل ملك الحيرة لكي يفعل في نصارى مملكته ما يفعله هو بهم، ولعله كان يريد أن يُكوّن حلفا سياسيا مع ملوك الحيرة لمقاومة الحبش الذي كانوا قد وطأوا سواحل اليمن وأقاموا معاهدات مع الأمراء المنافسين لملوك حمير، ليتمكنوا من السيطرة على اليمن والحجاز، للإتصال بحلفائهم الروم والهيمنة على البحر الأحمر والمحيط الهندي وإنزال ضربة عنيفة بخصوم الروم، وهم الساسانيون”.
وينتهي القول بجواد علي إلى أن البيزنطيين سلكوا سياسة “حُكّام روما وهي سياسة التقرب إلى سادة أكسوم ـ الحبشة ـ وعقد اتفاقيات معهم لضمان مصالحهم والضغط على حُكّام السواحل العربية المقابلة لهم لجلبهم إلى جانبهم ومنعهم من التحرش بسفنهم وبتجارهم الذين كانوا يرتادون البحار إلى الهند والسواحل الإفريقية، كما هي الحال في جزيرة سُقطرى، وقد نجحت سياستهم نجاحا أدى إلى غزو الجيش الحبشي لليمن بتحريض من الروم”.
رابعاً؛ امرؤ القيس وقيصر الروم:
في هذه المرحلة الصراعية بين حُكّام روما والأحباش من جهة والدولة الحميرية في اليمن من جهة ثانية، يبرز الشاعر المعروف امرؤ القيس، كأحد أعلام القبائل العربية الساعية للتحالف مع دولة الروم، وتزامن بروز امرؤ القيس مع حالة التفاسد والتنازع بين تلك القبائل وحيث يخر أبوه قتيلا، وحين يبلغ امرؤ القيس (أخواله الزير سالم وكُليب بطلا حرب البسوس) خبر مقتل أبيه حجر بن الحارث الكندي، يتجرد من لهوه وفجوره على ما يكاد يُجمع مؤرخو سيرته، فيسعى إلى طلب الثأر واستعادة المُلك المفقود، فراح يسترحم القبائل ويناشدها بالأحلاف، فانفضت عنه بعد إجهادها بالغزوات “حتى انتهى إلى قيصر ـ ملك الروم ـ فقبله وأكرمه وكان له عنده منزلة” على ما يروي أبو الفرج الأصفهاني (ت: 967 م) في كتابه “الأغاني”.
وينقل الأصفهاني عن هشام إبن الكلبي (ت:820 م) قوله بعد وصول امرؤ القيس إلى بلاد الروم “اندس رجل من بني أسد يقال له الطمّاح كان امرؤ القيس قد قتل له أخا، فقال لقيصر: إن امرؤ القيس غوي عاهر كان يراسل ابنتك ويواصلها وهو قائل في ذلك أشعارا، فأرسل ـ القيصر ـ إليه حلة مسمومة منسوجة بالذهب، فلما وصلت إليه، لبسها فأسرع فيه السُم وسقط جلده”.
ويعود المؤرخ ورائد علم الإجتماع ابن خلدون (1332 ـ 1406 م) في تاريخه المعروف بـ”ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر” إلى تفاصيل مصرع حجر بن الحارث والد امرؤ القيس واندفاع الأخير لمحالفة الروم “اما حجر بن الحارث فلم يزل أميرا على بني أسد إلى أن بعث رسله لطلب الأتاوة، فمنعوها وضربوا الرُسُل، فسار إليهم فاستباحهم وحبس ـ الشاعرـ عبيد بن الأبرص مع جمع منهم، فاستعطفه فسرحه، فهجموا عليه في بيته وقتلوه، وبلغ الخبر امرؤ القيس فحلف ألا يقرب لذة حتى يدرك ثأره ـ ثم ـ سار إلى قيصر فأمدّه، ثم سعى ـ وشا ـ به الطمّاح عند قيصر أنه يُشبب ببنته، فبعث إليه بحلة مسمومة كان فيه هلاكه ودُفن بأنقرة”.
وفي “تاريخ الأدب العربي” للعلامة اللبناني عمر فروخ (1906 ـ1987 م) “أراد امرؤ القيس الأخذ بثأر أبيه، فطاف في أحياء العرب يطلب المساعدة فلم يعنه أحدٌ (…) فقيل سار إلى اليمن فلم يوفق، وفي عام 538 م سار إلى القسطنطينية إلى القيصر يوستيانوس الأول، وقيل أراد يوستيانوس أن يوطد به نفوذ الروم على تخوم بلاد العرب، فلم يستطع قيصر مساعدة امرؤ القيس فعاد خائبا عام 540 م، فلما وصل إلى مقربة من مدينة أنقرة أصيب بالجدري ومات”.
وخلال رحلة امرؤ القيس إلى القسطنطينية “كان ـ الشاعر ـ عمرو بن قميئة دخل معه ـ بلاد ـ الروم إلى قيصر” كما في “فحولة الشعراء” العائد إلى الأصمعي (ت: 863 م) وفي مأثورات الشعر العربي ان امرؤ القيس قال لرفيق دربه قبل أن يدركا عاصمة الروم:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه/ وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبكي عينك إنما/ نحاول مُلكا أو نموت فنُعذرا.
(*) الجزء الثالث: البحر الأحمر.. من أصحاب الأخدود إلى الهجرة الإسلامية الأولى
(**) راجع الجزء الأول: البحر الأحمر.. حروب الفوز بـ”طريق الآلهة” (1)