البحر الأحمر.. حروب الفوز بـ”طريق الآلهة” (1) 

غالباً ما كان البحر الأحمر عنواناً للتاريخ، بل إنه كان وما يزال شاهداً على تحولات عظيمة وعميقة في مسار الأمم والشعوب منذ ما قبل أن يبدأ البشر بتدوين أحوالهم، وإلى حدود يقال فيها إن قراءة تاريخ السياسة والتجارة والحروب والأديان تبدو باهتة إذا لم تستمد حضورها من ضفاف هذا البحر.  

يتجاوز طول البحر الأحمر 2000 كلم من قناة السويس حتى مضيق باب المندب ويبلغ عرضه 355 كلم، وتعددت أسماؤه عبرالتاريخ فعُرف بالبحر الإريتري (الإغريق) و”بحر سوف” في التوراة، وبحر القلزم عند العرب، والبحر الفرعوني كما في تسمية الجغرافي الأندلسي ابن جبير (القرن الحادي عشر للميلاد) ومن أسمائه بحر السويس كما شاء تعريفه إبن خلدون (القرن الخامس عشر) وذهب آخرون إلى تسميته حينا ببحر جدة وأحيانا ببحر مكة أو بحر الحبشة أو بحر عيذاب.

لكن أكثر التسميات سطوعا ودهشة تكمن في تسمية إحدى الطرق المصرية القديمة المؤدية إلى البحر الأحمر بـ”طريق الآلهة”، فالمصريون الفراعنة كانوا يعتبرونها طريق أجدادهم الأولين وهم من “السلالة الإلهية”، وفي ذلك يقول عالم الآثار المصري أحمد فخري في كتابيه “اليمن ماضيها وحاضرها” (ط: 1957) و”دراسات في تاريخ الشرق القديم” (ط: 1963):

“اختلفت آراء العلماء في أصل قدماء المصريين، وأكبر الظن أنها ستظل مختلفة إلى حين، لكن مهما كان اختلافها فإن هناك حقائق لا يمكن إنكارها، وإحدى هذه الحقائق أن المصريين في جميع عصورهم كانوا يُظهرون احتراما كبيرا لذكرى شمسو ـ حور، أي أتباع حوروس، وروى قدماء المصريين أنهم جاؤوا من الشرق ومن الجنوب واستخدموا الطريق الموصل بين البحر الأحمر ونهر النيل مارا بوادي الحمامات، وقد ظل هذا الوادي إلى آخر عهد الفراعنة يتمتع بشيء من التقديس يشبه تقديس العبرانيين لجبل سيناء”.

ويأخذ المفكر المصري جمال حمدان بما أورده أحمد فخري، ويزيد عليه، ففي “نحن وأبعادنا الأربعة” (ط: 1995) يقول “إذا عدنا إلى البحر الأحمر، فهنا كان وادي الحمامات ـ طريق قنا القصير، ومنذ التاريخ المصري القديم وهو يلعب دورا تكميليا في توجيه مصر الأسيوي، والمصريون القدماء قد سمّوا هذا الطريق طريق الآلهة، اعتقادا منهم بأنه طريق أجدادهم الأول”.

وأما العلامة سليم حسن فله رأي حصيف في عقائد المصريين القدماء حول “طريق الآلهة” ففي الجزء الأول من “موسوعة مصر القديمة” يكتب قائلاً “لما كان النور يأتي من الجهة الشرقية، فقد اعتقد القوم أنها موطن الآلهة ومسكنهم”. وحول ذاك النور الآتي من الشرق المتمثل بـ”حوروس” يتساءل أحمد فخري “ما أصله؟ الجواب على ذلك أن هذا الإله اتخذته إحدى القبائل كمعبود لها على هيئة صقر وجاء مع الفاتحين، وفي نصوص الأهرام، وهي من أهم وأقدم المراجع الدينية (2500 و2250 ق.م) يصفون هذا الإله تارة بكلمة أختي وتارة بكلمة أبتي، وكلمة أبت معناها الشرق وأخت معناها أفق الشمس، وكلا الكلمتين تشير إلى الشرق”.

عموما، لو جرى تصويب النظر قليلا نحو الحدود الشرقية لمصر، ستقع عين الناظر ومن دون جهد ثقيل على البحر الأحمر بطوله الممتد 1941 كلم على مجمل السواحل المصرية.

غالبية اصحاب ذوي الأقلام الرفيعة والأبحاث الرصينة تتقاطع عند الثنائي المصري ـ الفينيقي الأكثر تأثيرا وحضورا في تاريخ البحر الأحمر القديم، ويليه عاملا الجزيرة العربية والحبشة لتتشكل رباعية الحضور الأقوى في مجاهل هذا البحر وغياهبه، وعلى ما يخلص جورج فضلو الحوراني في كتابه الرائد “العرب والملاحة في المحيط الهندي” (ط: 1958) إلى أن “السفن المصرية كانت تمخر البحر الأحمر منذ حوالي 2470 ق.م وكانت ثمة رحلات متعددة بين 2381 و2341 ق.م في البحرالأحمر إلى بلاد بونت ـ لعلها الصومال ـ وفي تلك الفترة كانت السفن المصرية تُبنى في خليج السويس، فكانت تقطع البحرالأحمر كله، وتسمي النصوص المصرية هذه السفن أحياناً بسفن جبال، ويدل هذا على انها كانت من نمط يؤخذ من هذه المدينة الفينقية ـ جُبيل ـ أو كانت من النوع الذي يُستعمل في الملاحة إليها”.

وحول سفن مدينة جبيل يذكر أبو التاريخ المصري مانيتون السمنودي (270 ق.م) في كتابه “الجبيتانا” أنه “في اليوم العشرين من شهر أبيب ـ يقع هذا الشهر بين 8 تموز/يوليو و6 آب/أغسطس، ولعل شهر أبيب المصري القديم يقابله شهر آب/أغسطس في بلاد الشام ـ تم الزواج المقدس بين اوزير وإيزي، وانتقلت القداسة من أوزير إبن الآلهة إلى إيزي زوجته، وفي ليلة ذلك الزواج ملأت الآلهة سماء الأرضين بالنجوم، كذلك رأى الناس الآلهة، وهم يهبطون من السماء لكي يباركوا زواج أوزير إبن الآلهة من إيزي”.

ويروي مانيتون أنه بعد هذا “الزواج المقدس” جُهزت بعثة “ملكية ـ إلهية” بإتجاه أقاليم مصر الشمالية مستغلة آواخر فيضان نهر النيل و”في الإحتفال التكريمي لأوزير وإيزي التقى أوزير بعدد من كبار تجار بيبلوس ـ جبيل ـ وعلم اوزير أن هؤلاء البحارة اعتادوا التجارة مع المدن المصرية، وذهب اوزير وبعض الجنود والصيادين إلى مرفأ منديس ـ الدقهلية ـ المنصورة حاليا ـ وأعجب الجميع بالسفن الفينيقية وأصر أوزير وأتباعه على تفقد إحدى السفن بهدف التعرف على تصميمها وكيفية بنائها، وعرض الببلوسيون ـ البحارة الجبيليون ـ على اوزير إبن الآلهة أن يزور بيبلوس هو وزوجته المقدسة ليكونا أول اثنين من أرض الآلهة تطأ أقدامهما أرض بيبلوس وفينيقيا، وترك اوزير سفينته المصنوعة من خشب السنط والكافور والبطم ونقل إلى السفينة الببلوسية عدة آلاف من خبز البتاوـ خليط من عدة انواع من الطحين ـ وعدة مئات من الجرار وكمية من السمك المملح و عدة عنزات وتيوس و..”.

هذه العلاقة بين المصريين والفينيقيين والتي تعود، بحسب مانيتون السمنودي، إلى مرحلة أوزير (اوزيريس كما هو شائع بالإغريقي) تفترض أن تاريخها يسبق زمن اوزير نفسه، أي في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد وفي عصر الأسرة الفرعونية الخامسة (2500 و2345 ق.م) على أن العلاقة المذكورة سيتحدث عنها لاحقا المؤرخ الإغريقي هيرودوتس في القرن الخامس قبل الميلاد وبعد جولته المعروفة في مصر وفينيقيا، فيقص على قرائه جولة من جولات التعاون المصري ـ الفينيقي وعنوانها خوض غمار البحر الأحمر وصولا إلى رأس الرجاء الصالح فجبل طارق ومن ثم العودة إلى مصر، يقول هيرودوتس:

إقرأ على موقع 180  من سد هوفر إلى سد النهضة

“إن نخاو ملك مصر، لما توقف عن حفر الترعة ـ القناة ـ التي كان المراد منها إيصال مياه النيل إلى الخليج العربي ـ البحر الأحمر ـ أرسل جماعة من الفينيقيين في المراكب وأمرهم أن يدخلوا في رجوعهم البحر الشمالي ـ البحر المتوسط ـ مارين بأعمدة هرقل ـ جبل طارق ـ وبهذه الكيفية يعودون إلى مصر، فركب الفينيقيون بحر إريتريا وسافروا في البحر الجنوبي، فلما دخل الخريف نزلوا في مكان في ليبيا ـ المقصود إفريقيا ـ وزرعوا القمح وانتظروا الحصاد، وبعد الحصاد ركبوا البحر فسافروا هكذا سنتين، وفي السنة الثالثة اجتازوا أعمدة هرقل ورجعوا إلى مصر”.

الواقعة نفسها يرويها الفيلسوف وعالم الجغرافية الإغريقي سترابو (ت: 70 قبل الميلاد) في كتابه “الجغرافيا” إذ يرى أن الفرعون “سيسوتريس ـ سنوسرت بالمصرية الفرعونية ـ كان حفر القناة أول الأمر قبل حرب طروادة ـ القرن الثاني عشر ق.م ـ ولكن بعضهم يزعم بأن الذي قام بهذا العمل إبن بسماتيك ـ نخاو ـ الذي لم يكن يبدأ العمل حتى توفي، وفي ما بعد باشر العمل في شق القناة داريوس ـ دارا ـ الأول، ولكنه أوقف العمل الذي كان بلغ نهايته تقريبا، وقد دفعه إلى ذلك تصور خاطئ تماما، إذ اقنعوه بأن مستوى البحر الأحمر أعلى من مصر، وإذا ما حفر البرزخ كله فإن البحر سيُغرق مصر كلها”.

بعد هيرودوتس وسترابو الإغريقين، يأتي ديودور الصقلي (توفي سنة 30 ق.م) ليتحدث في “خزانة التاريخ” عن أوزير وفتوحاته وعن القناة المائية الواصلة بين نهر النيل والبحر الأحمر، وفي تفاصيل تاريخه:

“لما وصل أوزيريس إلى تخوم الحبشة ضبط مياه نهر النيل بإقامة السدود على جانبيه، ثم واصل سيره بمحاذاة ساحل البحر الأحمر مخترقا بلاد العرب حتى وصل إلى الهند وأنشأ مدنا ليست قليلة، ثم خلًف وراءه شواهد كثيرة في طول البلاد وعرضها، مما حمل الأجيال التالية من الهنود على التجادل بشأن هذا الإله مدعين بأنه من أصل هندي”.

وإزاء القناة المتصلة بالبحر الأحمر، يقول ديودور “أول من قام بهذا العمل نيخاو بن بسماتيك ـ حكم مصر بين 609 و593 ق.م ـ ثم تلاه دارا الفارسي الذي سار في هذا المشروع شوطا بعيدا ثم تركه، فقد حذره بعضهم بأنه إذا أتم حفر القناة فسيكون سببا في إغراق مصر، فقد أوهموه أن مستوى سطح البحر الأحمر أعلى من مستوى سطح مصر”.

وهذا الحدث التاريخي يتطرق إليه الآثاري والمؤرخ احمد فخري، فيتحدث عن تفاصيل ما بعد إيقاف المشروع وما أعقبه من تعاون مصري ـ فينيقي كان البحر الأحمر مجالا من مجالاته، وحيال ذلك يكتب:

“الملك نكاو ـ نخاو ـ حاول إعادة المشروع القديم الذي بدأه ملوك الأسرة الثانية عشرة ـ مطلع الألف الثاني قبل الميلاد ـ وهو توصيل البحر الأبيض بالبحر الأحمر بواسطة نهر النيل، وذلك بحفر قناة توصل بين شرق الدلتا والبحيرات على مقربة من مدينة الإسماعيلية الحالية، وهي فكرة قناة السويس نفسها، لكن نكاو اضطر لإيقاف هذا المشروع بعد تضحيات كثيرة، وأرسل هذا الملك ثلاث سفن كبيرة في البحر الأحمر، كان بحارتها من الفينيقيين ليكتشفوا سواحل إفريقيا، فتم ذلك خلال ثلاث سنوات، وعادوا إلى مصر عن طريق جبل طارق”.

ما بين القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد كان شأن اليونان قد علا وسطع، وفي الربع الأخير من القرن الرابع، اجتاح الإسكندر المقدوني مدينة صور الفينيقية وأحرقها (332 ق.م)، ثم اجتاح مصر وتولى عليها أولا (333 ق.م) ثم آلت إلى خلفائه البطلميين، وبعد توغله في بلاد فارس والهند سعى ليبسط نفوذه على الجزيرة العربية من خلال منفذين، نهر الفرات والبحر والأحمر، ويشرح هذه التفاصيل سترابو بقوله:

“إن الإسكندر أراد أن يجعل من العربية مقره الملكي بعد عودته من الهند لكن خططه انهارت بعد وفاته المفاجئة، وعلى اية حال فقد قضت واحدة من خططه بإستطلاع ما إذا كان العرب سيقبلون به طوعا، وحين رأى أن العرب لم يرسلوا له سفراء لا قبل حملة الهند ولا بعدها، أخذ يستعد للحرب”.

وفي حمأة استعداده لتلك الحرب وكما جاء في “حملات الإسكندر” للوقيوس أريانوس (ت: 160 ب. م) أن “الإسكندر كان يخطط لإستيطان ساحل البحر المجاور للخليج العربي ـ البحر الأحمر ـ وكذلك الجزر الموجودة في هذا البحر، لأنه تراءى له أن هذه الأراضي ستصبح على درجة من الرخاء لا تقل عن فينيقيا، وقد قام الإسكندر بهذه الترتيبات الخاصة بالأسطول لمهاجمة الجزء الأكبر من السكان العرب بدعوى انهم كانوا الأجانب الوحيدين في هذه المنطقة الذين لم يرسلوا سفارة له”.

ووفقا لأريانوس أيضا “سمع الإسكندر أن العرب يتعبدون فقط لمعبودين، أورانوس وديونيسوس، أورانوس لأنه مرئي ويضم الكواكب السماوية وخصوصا الشمس، وديونيسوس بفضل شهرة حملته على الهند، ولهذا، فالإسكندر اعتقد أنه يستحق ان يتخذه العرب معبودا ثالثا لأنه قام بإنجازات لا تقل مكانة عن أعمال ديونيسوس ـ ولذلك ـ أرسل أرخياس ـ قائد بحري ـ على متن سفينة ثلاثية لإستكشاف الطريق البحري إلى بلاد العرب، وبعده اوفد اندروسثينيس وأبحر حول خليج ما للعرب، ثم هيرون، وهو ربّان أمهر من الذين سبق إرسالهم، وكانت التعليمات إليه أن يبحر حول خليج العرب حتى يصل إلى الخليج العربي ـ البحر الأحمر ـ المجاور لمصر بمحاذاة مدينة هيرو بوليس”.

ماذا عن تاريخ البحر الأحمر أيضاً؟

الإجابة في الجزء الثاني غداً.

Print Friendly, PDF & Email
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  الـ"وسام"