من جهة، كان الحوثيون يستهدفون ناقلة مستوعبات أمريكية في البحر الأحمر ترفع علم جزيرة سيشل؛ ومن جهة ثانية، كان الحرس الثوري الإيراني يقصف مواقع لـ”الموساد” الإسرائيلي قرب مدينة أربيل العراقية ومواقع لتنظيم “داعش” في شمال سوريا. وفي هذين الردين ما يشبه القفزة الكبيرة على حافة هاوية الحرب الإقليمية.
لم يكن حجم العدوان الأمريكي ـ البريطاني على اليمن صغيراً أو موضعياً كما أوحى بذلك الإعلام الغربي، بل طال العديد من المدن والمنشآت اليمنية، وترافق مع تصريحات لعدد من المسؤولين الأمريكيين والبريطانيين تفيد بان ما حصل هو تدمير للمنصات التي تنطلق منها المُسيّرات والصواريخ ورسالة تحذير لحركة “أنصار الله” الحوثية لوقف هجماتها على السفن في البحر الأحمر، ولكن ما ان انقشع غبار الغارات الجوية والقصف الصاروخي والمدفعي الذي تولته بوارج وغواصات أمريكية وبريطانية حتى تبين أن القصف الذي حصل نتج عنه سقوط عدد محدود من القتلى والجرحى وليتسرب إلى الاعلام الأمريكي بشكل خاص أن واشنطن أبلغت الحوثيين عبر قنوات لم يُكشف عنها بالهجوم وذلك قبيل ساعات من وقوعه، ما أتاح لهم إخلاء المواقع والقواعد المستهدفة. وما يؤكد صحة هذه التسريبات الإعلامية هو أن هجوماً بهذه الضخامة وعلى هذا العدد من المدن والمواقع لا يمكن أن تكون نتيجته خسائر بشرية محدودة ما لم يكن الطرف المُعتدى عليه على بينة مسبقة بالأهداف.
اذاً، لم تكن التسريبة الاعلامية بريئة أبداً، بل حركة مدروسة أرادت من خلالها الإدارة الأمريكية إبلاغ إيران وحلفاءها في “محور المقاومة” أن العدوان على اليمن هو هجوم محدود بالزمان والمكان ولا يهدف الى توسيع ميدان الحرب الدائرة في غزة وجنوب لبنان، وبالتالي رمت كرة توسيع الحرب في ملعب إيران وحلفائها. لكن الرد العنيف لإيران والحوثيين كان معناه ان لا التسريبات الاعلامية ولا التطمينات بمحدودية الهجوم على اليمن سيبقي الولايات المتحدة وحلفها البحري المستجد بمنأى عن الرد وأنه إذا ما قرّرت واشنطن الإنخراط بالحرب فان إيران لن تتوانى عن ذلك وستكون خطواتها في ذلك متوازية مع الخطوات الأمريكية، ضربة على حليف هنا تُقابل بضربة على حليف هناك، مع ما يحمله ذلك من مخاطر التدحرج نحو حرب اقليمية شاملة بمعزل عن رغبة الطرفين بتفاديها.
من المعروف أن “الطائرة المقاتلة لا ترفع علماً على موقع عسكري”، وهذه قاعدة عسكرية معروفة في كل جيوش العالم واثبتتها وقائع الميدان في أكثر من منطقة في العالم. ولا تخفي حركة “أنصار الله” موقفها الداعم للقضية الفلسطينية عبر ما بدأته قبل اكثر من شهر ونيف من هجمات بالمُسيّرات والصواريخ على أهداف إسرائيلية، وبالأخص ميناء إيلات والسفن التي تعبر باب المندب باتجاه الموانىء الإسرائيلية.
لم يكن يحلم الحوثيون بأن يصبحوا لاعباً إقليميا لا بل دولياً من خلال تحكمهم بممر مائي دولي، وهذا يعني أنه في أي تسوية تخص هذه الممرات صاروا حاضرين أكثر من أي وقت مضى، ولا يقتصر الأمر عليهم، بل يشمل حلفاء الحوثيين.. والمقصود هنا الحليف الإيراني بالدرجة الأولى
ماذا على صعيد نتائج العدوان الأمريكي ـ البريطاني؟
أول نتيجة للعدوان على اليمن كانت عكس ما أعلن منفذوه أنهم يريدون، أي تأمين سلامة الملاحة في البحر الأحمر وعند باب المندب، (وهذه كذبة كبيرة لأن الحوثيين لم يهدّدوا الملاحة الدولية في المنطقة إلا تلك المرتبطة بإسرائيل) وقد جاءت تطورات ما بعد العدوان لتثبت ذلك، فشركات النقل البحري التي كانت ما تزال تعتمد هذا المعبر المائي بادرت على الفور إلى وقف حركة سفنها في البحر الأحمر والاستعاضة عنه باعتماد طريق رأس الرجاء الصالح في جنوب إفريقيا. والمثال على ذلك أن دولة قطر أوقفت ابحار خمس ناقلات غاز وحوّلت مسارها عن البحر الأحمر.
وتمثلت النتيجة الثانية في رد حركة “انصار الله” على العدوان ليس فقط بتمسكها بدعم الفلسطينيين في غزة عبر مواصلة قصف الموانىء والسفن الناقلة للبضائع إلى دولة الكيان بل أيضاً تهديد كل من واشنطن ولندن بأن الرد على العدوان سيكون قاسياً، وسرعان ما ترجم ذلك بإطلاق صاروخ باليستي نحو إحدى السفن الحربية الأمريكية (سقط على بعد 500 متر منها في البحر الأحمر)، كما قصفوا ناقلة حاويات أمريكية وأصابوها اصابة مباشرة.
أما النتيجة الثالثة فتمثلت بالتصريحات الداعية إلى التهدئة وعدم الإنجرار إلى حرب إقليمية والتي أتت على لسان العديد من قادة العالم الذين كانوا يلتزمون الصمت حيال ما يجري من إبادة جماعية على مدى مئة يوم في قطاع غزة والضفة الغربية، بعد أن كان العديد منهم قد أبدى تأييده لدولة الكيان في فلسطين المحتلة إثر عملية “طوفان الاقصى”، حتى أن بريطانيا حاولت أن تنأى بنفسها عن توسيع دائرة الصراع فأعلنت في تصريح لوزير دفاعها غرانت شابس أن ما قامت به هو “عمل عسكري لمرة واحدة يهدف إلى وقف هجمات الحوثيين على السفن التجارية في البحر الأحمر”.
وحتى ما قبل مئة يوم من حرب غزة، لم تكن الولايات المتحدة قد تورطت في الميدان علناً، بل كانت تحاول تصوير وظيفة بوارجها في البحر المتوسط بأنها ردعية لمنع توسيع الحرب، إلا أن الهجوم على اليمن، أدخل الأمريكيين في الحرب بصورة رسمية، وبدل أن تكون وظيفة هذا الإنخراط منع توسيع الحرب، صارت إحتمالات التحرج عالية، مع ما يعنيه اليمن لمن يعرف تاريخ هذا البلد الذي هزم في القرن الماضي الامبراطورية البريطانية والرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، مثلما هزم التحالف الذي انشأته المملكة العربية السعودية منذ اكثر من تسع سنوات. زدْ على ذلك القاعدة التي اعتمدها البنتاغون الأمريكي بعد حرب أفغانستان والعراق “لا جنود على الأرض” (No boots on the ground) بعد اليوم في النزاعات العالمية، وترجمت هذه القاعدة في أوكرانيا.. وغزة.
بالنسبة إلى الحوثيين، الهزيمة حتمية لأعدائهم أياً كانوا لأسباب عدة، أولها، الطبيعة الجغرافية لليمن ذات الجبال الصخرية الوعرة والوديان السحيقة التي تتيح هامش مناورة عسكرية كبيرة لحرب العصابات. وثانيها تتصل بطبيعة الشعب اليمني، فهذا شعب شجاع يتمتع بعزة نفس وطنية عميقة، وهو أيضاً شعب عنيد يستقي قساوة عناده من الطبيعة الجغرافية القاسية لبلاده. وثالثها أن احتمال تمدد العدوان وتحوله إلى غزو بري يعني أن ما سينتظر الأمريكيين والبريطانيين سيكون أسوأ بكثير مما شهدوه على أرض أفغانستان والعراق وفيتنام.
في الخلاصة، إن دلّ العدوان الأمريكي البريطاني على اليمن على شيء فإنه يدل على التخبط السياسي والعسكري الأمريكي في الشرق الأوسط. فالإدارة الأمريكية تدرك أن اليمنيين لن يوقفوا هجماتهم بمجرد تعرضهم لعدوان أمريكي بل سيُصعّدون هجماتهم وما قصف السفينة التجارية الأمريكية في البحر الأحمر إلا مجرد بداية قد يليها استهداف قواعد وسفن حربية أمريكية أيضاً.
لم يكن يحلم الحوثيون بأن يصبحوا لاعباً إقليميا لا بل دولياً من خلال تحكمهم بممر مائي دولي، وهذا يعني أنه في أي تسوية تخص هذه الممرات صاروا حاضرين أكثر من أي وقت مضى، ولا يقتصر الأمر عليهم، بل يشمل حلفاء الحوثيين.. والمقصود هنا الحليف الإيراني بالدرجة الأولى. غير أن النقطة الأهم أن ما كان يُرضي الحوثيين في أية تسوية يمنية يمنية أو يمنية سعودية، قبيل مواجهات البحر الأحمر لن يرضيهم بعدها وبالتالي سيأخذ كثيرون العبرة من معنى قرار حركة “أنصار الله” مواجهة الأمريكيين والبريطانيين والغرب كله..
أخيراً، قد يكون سابقاً لأوانه الإفتراض أن العدوان الأمريكي البريطاني الأخير ينطبق عليه المثل الشعبي القائل: “إشتدي أزمة تنفرجي”.. بأمل أن تحمل الأيام المقبلة مؤشرات تجعلنا لا نتردد في القول لقد بدأ العد العكسي للتسويات الكبرى في المنطقة.