إنه جبلُ جليد عامر بالأساطير والخرافات والغرائب وبقصص من الكتب الدينية وبجماعات استيطان يهودية إرهابية أو عصابات إجرامية من بروكلين الأمريكية ومثيلاتها في شرق أوروبا وفرنسا وألمانيا، عامر أيضاً بخطط بدت كما لو أنها دُبّرت بعناية قبل شنّ الحرب ضد الضفة الغربية ثم ضد غزة لتفريغهما ولتثبيت الدول العربية داخل قوالب حديدية تشل حرية حركتها وتستكمل بها إجراءات إخضاعها للهيمنة الإسرائيلية.
إخترت من هذه التطورات والأفعال والغرائب الهامة والمؤثرة، وهي كثيرة، ما يلي:
أولاً؛ استمرار القتال في غزة إلى ما بعد المائة يوم:
كانت المعركة وما زالت تدور بين أفراد أو مجموعات منهم من ناحية، ومن ناحية أخرى دولة كان جيشها فخرها وأمريكا القطب الأوحد حليفها، أقصد شريكها والمتواطئ معها تخطيطاً وتنفيذاً وحمايةً من حاملة طائرات يرافقها أسطولها. كادت المعركة باستمرارها وخسائرها على الجانب الإسرائيلي من جهة وبطولة مقاتليها على الجانب الفلسطيني من جهة أخرى تستحق في صفوف مفكري العرب وعامتهم صفة الملحمة، كما كان يُروى عن بعض حروب الأقدمين.
عادت القضية الفلسطينية تحتل موقع الصدارة في اهتمامات الناس وبخاصة الأجيال الجديدة التي انشغلت لعقود بمسليات ترفيهية حفلت بها ثورة السوشيال ميديا. اليوم يتحدث شباب العرب وبكل اعتزاز وفخر عن شجاعة المقاوم الفلسطيني العربي وعدالة قضيته وعن بطولات وكرم أخلاق وحسن معاملة شهد بها أسرى يهود أفرج عنهم. بالمناسبة، وبحكم المنطق أيضا، تدحرجت مكانة السلطة الحاكمة في رام الله ومعها حراسها نحو مزيد من الهامشية، ليس فقط لدى شعب الضفة وغزة ولكن أيضا في الأوساط الإسرائيلية والدولية وبخاصة في عالم الجنوب.
سمعتُ من دبلوماسي شرق أوروبي إعتقاده أنه بسبب هذا الموقف الألماني من أحداث غزة فالمتوقع في العقود القادمة ألا ترتاح شعوب شرق أوروبا للتعامل المكثف مع ألمانيا أو التحالف الوثيق معها خشية أن تعود فتمارس الإبادة مجدداً أو تدفع حلف الأطلسي إلى ممارستها في مواقع الأزمات الأوروبية وخارجها
ثانياً؛ حكاية ألمانيا:
لعلها الحكاية الأكثر تعقيداً على الفهم والتعامل فيما صار يعرف بمجتمع حرب غزة. فهمنا الموقف الأمريكي وإن مال عدد من المسئولين العرب إلى إدعاء الاندهاش لهذا الموقف باعتبار أمريكا حليفة للعرب. وفهمنا الموقف البريطاني الذي جيء باللورد كاميرون من أجل تطبيقه ضد الحوثيين في اليمن على الوجه الذي يستحقه مثل هذا الجانب من تراث الإمبراطورية وتقاليد الاستعمار البريطاني. لم يفهم أكثرنا التعقيدات الغريبة في الموقف الألماني. المشكلة مع أبناء جيلي أننا نضجنا في فترة كانت ألمانيا واليابان تستعيدان مجداً صناعياً بسرعة وثبات. كانتا محل إعجابنا نحن سكان العالم النامي. لذلك يجد بعضنا صعوبة في تفسير هذا الالتصاق الألماني الشاذ بإسرائيل وممارستها بشغفٍ وتَديُّنٍ عملية الإبادة البشرية لشعب كامل. أظن، ولن أكون مخطئا، أن ألمانيا فقدت تعاطفنا وسوف تفقد علاقات طيبة بكثير من أبناء جيلي وأجيال جاءت من بعدي. زادنا اقتناعاً بسلامة موقفنا وخطأ الموقف الألماني الغريب ما حدث من رد فعل ناميبيا، إحدى مستعمرات ألمانيا الأفريقية، قبل وخلال انعقاد جلستي محكمة العدل الدولية المخصصتين لمناقشة الدعوى الرائعة، محتوى وصياغة وعلماً، المرفوعة من حكومة جنوب أفريقيا ضد ما اعتبرته سياسة إسرائيلية ممنهجة لإجراء عمليات إبادة بشرية لسكان غزة. تبين أن أجيالاً أفريقية وراء أجيال وأجيالاً عربية وآسيوية لم يكن قد نما إلى علمها في غمرة عشقها وانبهارها بالصعود الألماني أن ألمانيا نفسها مارست الإبادة البشرية على نطاق واسع ضد شعب ناميبيا في الفترة ما بين 1904 و1908 أي حتى قبل أن يصل المدعو هتلر إلى سدة المستشارية في برلين وبطبيعة الحال قبل أن يمارس الإبادة ضد اليهود. ألمانيا الآن مطالبة من جانب الرأي العام العالمي، وبخاصة أهل الجنوب العالمي، بالاعتذار لشعب ناميبيا والإعراب عن نيتها دفع التعويضات اللازمة كما فعلت مع إسرائيل. ألمانيا قبل أمريكا وبريطانيا “العظمى” مطالبة بالتكفير عن ذنب عظيم وعن ارتكابها فعل شرير في حق شعب فلسطين ومن قبله شعب ناميبيا.
من ناحية أخرى، سمعتُ من دبلوماسي شرق أوروبي إعتقاده أنه بسبب هذا الموقف الألماني من أحداث غزة فالمتوقع في العقود القادمة ألا ترتاح شعوب شرق أوروبا للتعامل المكثف مع ألمانيا أو التحالف الوثيق معها خشية أن تعود فتمارس الإبادة مجدداً أو تدفع حلف الأطلسي إلى ممارستها في مواقع الأزمات الأوروبية وخارجها.
ثالثاً؛ غرائب التراث:
قرأت أن مسئولاً إسرائيلياً ألقى في جنوده خطبة حفلت بكثير من غرائب القول والتاريخ مع احترامي وتقديري للظروف والعقائد التي احتوت على هذه الغرائب أو بشّرت بها. سمعتُ وأنا طفل ينام كل ليلة على حكايات ألف ليلة وليلة وحكايات من التراث الديني لمختلف الشعوب. عدتُ في الأسبوع الماضي، أي في الألفية الثانية بعد الميلاد لأسمع نقلاً عن هذا المسئول، وهو نفسه المسئول عن تنفيذ هذه المذبحة البشرية، وهو أيضا المتهم في عرضه وشرفه، عدتُ لأسمع نقلاً عنه هو وغيره من وزراء التطرف الديني كيف يدعو جنوده لذبح الفلسطينيين، رجالاً ونساءً وشيوخاً وأطفالاً وكل حيواناتهم الأليفة تنفيذاً للدعوة الإلهية إلى بني إسرائيل قبل حوالي 3500 سنة لإبادة “العماليق”، وفي سردية أخرى أطلق عليهم “الجبارين”، سكان الأرض التي نزل فيها الإسرائيليون بعد خروجهم من مصر.
أعرف أن مسئولين أوروبيين يخشون أن تنعكس حرب غزة على أوروبا في شكل موجة من العداء للسامية تحملها وتنفذها جماعات وحركات يمينية متطرفة. أعرف أيضا وبكل ثقة أن دولنا العربية وشعوبها معرضة الآن وربما لعقود عديدة قادمة لتهديد مماثل نتيجة عمليات القتل والتشريد التي يتعرض لها “عماليق” هذه الأيام، هم سكان الأرض التي نزل إليها “إسرائيليو” أيامنا. جاء في كتب التراث عن عماليق تلك الأيام وأنقل حرفيا “فالآن اذهب واضرب عماليق وحرّموا كل ما له، ولا تعف عنهم، بل أقتل رجلاً وامرأة، طفلاً ورضيعاً، بقراً وغنماً، جملاً وحماراً”. هذه النصوص وغيرها تناقش الآن بجدية من جانب رواد صالونات السياسة في عواصم عربية، وأمامهم على الشاشات مسئولون إسرائيليون فردوا خرائط اختفت منها الحدود السياسية لدول المشرق العربي وحلّ محلها لون واحد وعنوان كبير هو “خريطة دولة إسرائيل”.
موقف جنوب أفريقيا من إسرائيل ـ إلى جانب أصوله التاريخية في تجربة “الأبارتايد” ودور إسرائيل في تعضيدها ـ هو عملٌ ثوريٌ أو على الأقل انتفاضة أفريقية قوية ضد سياسات الغرب والنظام الدولي بشكله الراهن وتأييدٌ لحركة الجنوب العالمي نحو التقدم
رابعاً؛ لاهاي وجنوب أفريقيا:
لم أتفاجأ تماماً بما فعلته دولة جنوب أفريقيا برفعها دعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية. انبهرت بمذكرة الدعوى وازداد انبهاري عندما صرّح لي الصديق ورجل القانون الدولي المعروف الدكتور علي الغتيت بأن المذكرة وثيقة يجب الاعتزاز بها كوثيقة نادرة من كافة النواحي. انبهرت بالمذكرة ولم أتفاجأ بموقف جنوب أفريقيا. قضينا الأعوام الأخيرة نراقب ونتحسس ثورة في المهد تتفجر في أنحاء شتى من القارة السمراء. بدت لنا أفريقيا وقد قرّرت أخيراً أن سياسة الانصياع والخضوع لأدوات الاستعمار الجديد لم تجلب إلا تعطيل التقدم وتراكم عناصر التخلف. كان واضحاً، في الوقت نفسه، أن الغرب يعود باندفاع وطاقة تنافسية جديدة لفرض نوع مختلف من الاستعمار تحت أسماء مبتكرة وقد انضمت الولايات المتحدة إلى القوى الأوروبية بذريعة التصدي للصين. انتهينا إلى قناعة مفادها أن موقف جنوب أفريقيا من إسرائيل ـ إلى جانب أصوله التاريخية في تجربة “الأبارتايد” ودور إسرائيل في تعضيدها ـ هو عملٌ ثوريٌ أو على الأقل انتفاضة أفريقية قوية ضد سياسات الغرب والنظام الدولي بشكله الراهن وتأييدٌ لحركة الجنوب العالمي نحو التقدم.
خامساً؛ روسيا والصين:
بدا لي ولغيري صوتهما خافتاً على امتداد حرب الضفة وغزة. تفهمت الأمر. راح اعتقادي إلى أن الدولتين توصلتا مبكراً إلى أن الشرق الأوسط مقبل على تغييرات عظمى. توصلتا أيضاً إلى أن كلاً من أفريقيا وأمريكا اللاتينية تقف على فوهة بركان يوشك أن ينفجر فالدلائل غير قليلة سواء ما ارتبط بها بأزمة الإقتصاد العالمي أو ما تعلق بصعود تيارات قومية بتوجهات معادية للغرب. من الدلائل أيضاً، وربما على رأسها، الوضع القلق، سياسياً واجتماعياً، في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو المتسبب في أنواع شتى من التوتر وعدم اليقين في دول عديدة بحكم مكانة الولايات المتحدة كقوة ما تزال عظيمة التأثير في مجريات السياسة الدولية. بدا هذا الأمر واضحا بما لا يدع مجالاً كبيراً للشك عندما تدخلت الولايات المتحدة بقوات عسكرية هائلة وتعبئة سياسية معتبرة، تدخلت بما يشبه التواطؤ مع إسرائيل في حرب إبادة واضحة المعالم ضد شعب يحاول الحصول على حقه في إقامة دولته المستقلة على أرضه. بهذا التدخل وبما أعقبه من أخطاء في السياسة الخارجية ارتكبتها أجهزتها العسكرية والدبلوماسية فقدت أمريكا لصالح الصين وروسيا أرصدة هامة كانت لها في الشرق الأوسط وأوروبا والجنوب العالمي.
***
أتصور أن الحرب ضد الضفة وغزة كما أوضاع السياسة في الداخل الأمريكي وفي الداخل الإسرائيلي والقلق السائد في شتى أنحاء الشرق الأوسط دخلت جميعها مرحلة حرجة. في هذه المرحلة، سوف تسعى أطراف إلى الإسراع في لملمة خسائرها وفي الغالب بدون ضرورة للاشتباك مع أطراف أخرى. من ناحية ثانية، توجد أطراف متزايدة العدد سوف تسعى للاستفادة من فرص لم تكن لتتوفر لولا الفوضى التي أتاحتها هذه الحرب والوحشية التي اتسمت بها.