“أكثر ما يُحزن بشأن السياسة الخارجية الأميركية هي أن بعض أهم القضايا التي تواجه البلاد والعالم نادراً ما تتم مناقشتها بطريقة جدّية، برغم “إجماع الحزبين (الجمهوري والديموقراطي) عليها”. لقد أخفقت واشنطن مراراً وتكراراً، وعلى مدى عقود طويلة، سواء في حروب فيتنام وأفغانستان والعراق، أو في الإطاحة بحكومات منتخبة ديموقراطياً في أنحاء مختلفة من العالم، أو في قرارات تجارية كارثية.. النتائج كانت دائماً كارثية، وأضرَّت بمكانة الولايات المتحدة في العالم وقوَّضت قيمها، كما أضرَّت بالطبقة العاملة في أميركا والعالم. وهذا النمط يستمر اليوم من خلال إنفاق مليارات الدولارات على دعم إسرائيل. فالولايات المتحدة هي وحدها تقريباً التي تدافع عن حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة، وتدعم حرب الإبادة والتجويع التي يشنها ضد الشعب الفلسطيني (…).
حرب العراق مبنية على كذبة!
منذ الحرب الباردة، استخدم السياسيون (الجمهوريون والديموقراطيون) الخوف والأكاذيب لتوريط الولايات المتحدة في صراعات خارجية كارثية لا يمكن الفوز بها. أرسل الرئيسان ليندون جونسون وريتشارد نيكسون نحو ثلاثة ملايين أميركي إلى فيتنام لدعم دكتاتور مناهض للشيوعية في الحرب الأهلية الفيتنامية بموجب ما يسمى بـ”نظرية الدومينو” – وهي فكرة أنه إذا سقطت دولة واحدة في أيدي الشيوعية فإن الدول المجاورة ستلحقها. نظرية خاطئة، وكانت الحرب فشلاً ذريعاً، حيث قُتل نحو ثلاثة ملايين فيتنامي و58 ألف جندي أميركي.
لم يكن تدمير فيتنام كافياً بالنسبة لنيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر. لقد وسعا نطاق الحرب لتشمل كمبوديا بعدوان جوي أسفر عن مقتل مئات الآلاف من الأشخاص، ومهَّد لصعود الديكتاتور بول بوت، الذي ارتكب الإبادة الجماعية بحق شعبه وقتل حوالي مليوني كمبودي. ومع ذلك، وبرغم الخسائر الفادحة التي تكبدتها والمبالغ الضخمة التي أنفقتها، خسرت الولايات المتحدة الحرب في كمبوديا.
كذلك، وباسم مكافحة الشيوعية ومحاربة الاتحاد السوفييتي، دعمت واشنطن الانقلابات العسكرية في دول عدَّة. وكانت هذه التدخلات داعمة لأنظمة استبدادية قمعت شعوبها بوحشية وأدَّت إلى تفاقم الفساد والعنف والفقر، وتداعياتها لا تزال تُعقد وتقوّض المصالح الأميركية.
وبعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، كرَّرت واشنطن الأخطاء نفسها. تعهد الرئيس جورج دبليو بوش بإرسال نحو مليوني جندي أميركي ورصد أكثر من 8 تريليونات دولار لـ”حرب عالمية على الإرهاب” شهدنا فصولها الكارثية في أفغانستان والعراق. كانت حرب العراق، مثل حرب فيتنام، مبنية على كذبة. كانت الحجة التي ردَّ بها بوش على معارضة حلفائه للحرب “لا نستطيع أن ننتظر الدليل النهائي الذي يمكن أن يأتينا في هيئة سحابة فطر”. ولكن لم تكن هناك أي سحابة، لأنه ببساطة لم يكن لدى الرئيس العراقي صدام حسين أي أسلحة دمار شامل.
برغم ذلك، صوَّتت الأغلبية العُظمى في مجلسي الكونغرس لصالح التفويض بغزو العراق عام 2003. وفي النهاية أدَّى النهج الأحادي الذي اتبعته إدارة بوش إلى تقويض مصداقية أميركا وتآكل الثقة فيها في جميع أنحاء العالم.
لم تكن حرب العراق انحرافاً. فباسم الحرب العالمية على الإرهاب، مارست أميركا أعمال التعذيب والاحتجاز غير القانوني و”عمليات التسليم الاستثنائي”، واختطفت المشتبه بهم في جميع أنحاء العالم واحتجزتهم لفترات طويلة في سجن خليج غوانتانامو في كوبا و”المواقع السوداء” التابعة لوكالة المخابرات المركزية حول العالم. نفَّذت الحكومة الأميركية “قانون باتريوت”، ما أدَّى إلى مراقبة جماعية محلياً ودولياً. وأدَّى القتال الذي دام عقدين من الزمن في أفغانستان إلى مقتل وجرح الآلاف من القوات الأميركية وتسبب في سقوط مئات الآلاف من المدنيين الأفغان. اليوم، وبرغم كل تلك المعاناة والإنفاق، عادت حركة “طالبان” إلى السلطة!
ثمن النفاق
حبذا لو يمكنني القول إن مؤسسة السياسة الخارجية في واشنطن تعلمت الدرس بعد الإخفاقات الجمَّة التي حصدتها في الحرب الباردة والحرب العالمية على الإرهاب. لكن، وللأسف لم تتعلم شيئاً. فالرئيس السابق دونالد ترامب كان قد وعد في حملته الانتخابية باتباع سياسة خارجية تقوم على مبدأ “أميركا أولاً”، لكنه نشط في حرب الطائرات الحربية المسيَّرة حول العالم، والتزم بإرسال المزيد من القوات إلى الشرق الأوسط وأفغانستان، وزاد من التوترات مع الصين وكوريا الشمالية، وكاد أن يدخل في حرب كارثية مع إيران، وعزَّز صفقات التسليح، وأعطى الأولوية للمصالح القصيرة الأجل والأحادية على حساب الجهود طويلة المدى لبناء نظام عالمي قائم على القانون الدولي (…).
يحتفظ الجيش الأميركي بحوالي 750 قاعدة عسكرية في 80 دولة. وفي العقد الماضي وحده، شاركت أميركا في عمليات عسكرية في أفغانستان، الكاميرون، مصر، العراق، كينيا، ليبيا، مالي، موريتانيا، موزمبيق، النيجر، نيجيريا، باكستان، الصومال، سوريا، تونس، واليمن.. وتواصل التصعيد مع الصين، وفي الوقت نفسه تزوّد إسرائيل سنوياً بمليارات الدولارات وتدعم جريمة الإبادة الجماعية حالياً في غزَّة.
إن سياسة واشنطن تجاه بكين مثال آخر على التفكير الفاشل في السياسة الخارجية، والذي يؤطر العلاقة الأميركية-الصينية على أنها صراع محصلته صفر. بالنسبة للكثيرين في واشنطن، أصبحت الصين بمثابة “بُعبُع” السياسة الخارجية وتهديد وجودي يبرر ميزانيات أعلى للبنتاغون (…). ولكن لن يكون هناك أي حل للتهديد الوجودي المتمثل في تغير المناخ من دون التعاون بين الصين والولايات المتحدة، الدولتين الأكثر تسبباً في الانبعاثات الكربونية في العالم. وكذلك لن يكون هناك أمل في التعامل بجدية مع أي وباء مرتقب من دون تعاون مشترك بين البلدين. فبدلاً من بدء حرب تجارية، يمكن التفكير باتفاقيات تجارية تعود بالنفع على كلا البلدين.
أميركا هي الوحيدة تقريباً في العالم التي تدافع عن حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة وتدعم الإبادة الجماعية ضد غزَّة
كانت نتائج اتفاقيات التجارة الدولية التي أبرمتها واشنطن في العقود الأخيرة كارثية أيضاً (…). أصبحت الشركات متعددة الجنسيات الكبرى التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها، تستسيغ فكرة “التجارة الحرة” مع دول استبدادية عدَّة، واغتنمت الفرصة لتوظيف عمال فقراء في الخارج مقابل أجور متواضعة جداً. فخلال العقدين الماضيين، وبسبب هذه الاتفاقيات، أُغلق أكثر من 40 ألف مصنع في الولايات المتحدة، وفقد حوالي مليوني عامل وظائفهم، وشهدت الطبقة العاملة الأميركية ركوداً في الأجور (…). وبالإضافة إلى الأضرار التي لحقت في الداخل، تضمنت هذه الاتفاقيات أيضاً معايير قليلة لحماية العمال أو البيئة، ما أدَّى إلى تأثيرات كارثية في الخارج. وقد ساعد الاستياء من هذه السياسات التجارية بين الأميركيين من الطبقة العاملة في تعزيز صعود ترامب، ولا يزال يفيده حتى اليوم.
حياة الناس قبل الأرباح
إن مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية تحتاج إلى إعادة التفكير بشكل أساسي في افتراضاتها. إن إنفاق تريليونات الدولارات على حروب لا نهاية لها وعقود دفاعية لن يعالج التهديد الوجودي المتمثل في تغير المناخ أو احتمال انتشار الأوبئة في المستقبل، كما لن يُكافح المجاعة والأمية والكراهية وإنتشار الأوبئة. لن يساعد في خلق عالم مُسالم ومزدهر. في هذه اللحظة المحورية من تاريخ البشرية، يجب على الولايات المتحدة أن تقود حركة عالمية جديدة تقوم على التضامن الإنساني وتلبية احتياجات الشعوب المناضلة. ولا بد من أن تتمتع هذه الحركة بالشجاعة الكافية للتغلب على جشع الأوليغارشية الدولية، التي يمارس فيها بضعة آلاف من أصحاب المليارات سلطة اقتصادية وسياسية هائلة.
مخاوف واشنطن بشأن حقوق الإنسان انتقائية.. وهي تدعم دول تدوس عادة على حقوق الإنسان وتواصل تزويدها بالأسلحة
السياسة الاقتصادية هي السياسة الخارجية. وطالما ظلت شركات الأثرياء وظلًّ أصحاب المليارات يسيطرون على أنظمتنا الاقتصادية والسياسية، فإن قرارات السياسة الخارجية سوف تسترشد بمصالحهم المادية، وليس بمصالح الغالبية العظمى من سكان العالم. لهذا، يجب على الولايات المتحدة أن تعالج الغضب الأخلاقي والاقتصادي الناجم عن عدم المساواة غير المسبوقة في الدخل والثروة، حيث يمتلك أغنى 1% من سكان الكوكب ثروة أكثر من 99% من الفقراء (…). هناك ملايين الأطفال يعانون من الجوع أو يموتون بسبب أمراض يمكن الوقاية منها بسهولة (…).
ينبغي على واشنطن تطوير اتفاقيات التجارة العادلة التي تفيد العمال والفقراء في جميع البلدان، وليس فقط مستثمري “وول ستريت”. ويتضمن ذلك وضع أحكام قوية وملزمة فيما يتعلق بالعمل والبيئة مع آليات تنفيذية واضحة، فضلاً عن إلغاء تدابير حماية المستثمر التي تجعل من السهل الاستعانة بمصادر خارجية للوظائف. ويجب التفاوض على هذه الاتفاقيات بمساهمة من العمال والشعب والكونغرس وليس مجرد جماعات الضغط من الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات، التي تهيمن حالياً على عملية المفاوضات التجارية.
الحرب في أوكرانيا بالنسبة للعديد من مقاولي الدفاع هي في المقام الأول وسيلة لملء الجيوب
يتعين على الولايات المتحدة أيضاً أن تعمل على خفض الإنفاق العسكري الزائد ومطالبة الدول الأخرى بأن تحذو حذوها. في خضم التحديات البيئية والاقتصادية والصحية العامة الهائلة.
لا يمكن للدول الكبرى في هذا العالم أن تسمح لمقاولي الدفاع الكبار بتحقيق أرباح قياسية بينما يُزوّدون العالم بالأسلحة المستخدمة لتدمير بعضهم البعض. وحتى من دون إنفاق إضافي، تُخطّط الولايات المتحدة لتخصيص نحو 900 مليار دولار للمؤسسة العسكرية هذا العام، نصفها تقريباً سيذهب إلى عدد صغير من مقاولي الدفاع الذين يحققون أرباحاً عالية بالفعل.
العديد من مقاولي الدفاع يعتبرون الحرب في أوكرانيا هي في المقام الأول وسيلة لملء جيوبهم. وعلى سبيل المثال: شركة “آ.تي.إكس. كوربوريشن” رفعت أسعار صواريخها من طراز “ستينغر” سبعة أضعاف منذ عام 1991. واليوم، تكلف الولايات المتحدة 400 ألف دولار لاستبدال كل صاروخ “ستينغر” تم إرساله إلى أوكرانيا ــ وهي زيادة شائنة في الأسعار. ومثل هذا الجشع لا يكلف دافعي الضرائب الأميركيين فحسب؛ إنه يكلف حياة الأوكرانيين. فعندما يربح المقاولون يعني أن القليل فقط من الأسلحة يصل إلى الجبهة (…).
كذلك يجب على واشنطن التوقف عن تقويض المؤسسات الدولية عندما لا تتوافق أفعالها مع مصالحها السياسية على المدى القصير. ومن الأفضل بكثير لدول العالم أن تناقش خلافاتها بدلاً من إسقاط القنابل أو الدخول في صراعات مسلحة. ويتعين على واشنطن أن تدعم الأمم المتحدة من خلال دفع مستحقاتها، والمشاركة بشكل مباشر في إصلاح المنظمة الدولية، ودعم هيئاتها، وأن تنضم إلى المحكمة الجنائية الدولية بدلاً من مهاجمتها عندما تصدر أحكاماً “غير مريحة” بالنسبة لها (…).
التضامن الآن
إن الفوائد المترتبة على إجراء هذا التحول في السياسة الخارجية تفوق التكاليف بكثير (…). ومن شأن زيادة الاستثمارات في التنمية الاقتصادية والمجتمع المدني أن تنتشل الملايين من براثن الفقر وتعزز المؤسسات الديموقراطية. إن دعم معايير العمل الدولية العادلة من شأنه أن يرفع أجور الملايين من العمال الأميركيين والمليارات من الناس في جميع أنحاء العالم. إن إجبار الأغنياء على دفع ضرائبهم وتضييق الخناق على رأس المال الخارجي من شأنه أن يفتح الباب لموارد مالية كبيرة يمكن توظيفها في تلبية الاحتياجات العالمية والمساعدة في استعادة ثقة الناس في قدرة الديموقراطيات على تحقيق أهدافهم.
والأهم من ذلك كله، يجب على أميركا أن تدرك أن قوتنا كأمة لا تأتي من ثروتنا أو قدراتنا العسكرية ولكن من قيم الحرية والديموقراطية. إن مواجهات تحديات العصر، من تغير المناخ إلى الأوبئة العالمية، تتطلب التعاون والتضامن والعمل الجماعي، وليس النزعة العسكرية”.
– ترجمة بتصرف عن “فورين أفيرز“.
(*) بيرني ساندرز، عضو مجلس الشيوخ الأميركي المستقل عن ولاية فيرمونت.