رحلة المائة يوم في شيلي

في حياتي كما في حياة كل إنسان أيام لا تنسى. من أيامي العديدة التي لا تنسى مائة يوم قضيتها في سنتياجو عاصمة دولة شيلي. ليست بالمهمة البسيطة التعريف بدولة من الدول ولكنها في حالات معينة تصبح من أحلى المهام وأقربها إلى مزاجي وعواطفي. من هذه الحالات حالة دولة شيلي. غير خاف على من يعرفونني أن إيطاليا والنمسا والأرجنتين ولبنان والصين وتونس هي أيضا من تلك الحالات، ففي كل منها بشر ومدن وقرى وشوارع وأزقة نشأت علاقة قوية ربطت بيني وبينها مخلفة ذكريات لأيام لا تنسى أو صعب أن تنسى.

كانت الرحلة إلى سنتياجو، عاصمة شيلي، من أطول الرحلات الطائرة في حياتي. تنافسها في الطول الرحلة إلى بكين، أو بيجينج، حسب التعديل الذي دخل مؤخرا على اسم العاصمة الصينية، أقصد خلال آخر خمسين أو ستين عاما. المعروف في ذلك الحين، أن الطائرة المتوجهة إلى سنتياجو، والقادمة من زيوريخ متوقفة لساعة أو أكثر في داكار عاصمة السنغال وساعة في ريو دى جانيرو بالبرازيل وساعة ثالثة في بيونس أيرس عاصمة الأرجنتين، تبدأ في الهبوط نحو مطار سنتياجو وهي ما تزال فوق سلسلة جبال الآنديز وبالتقريب فوق اكونكاجوا، أعلى قمة في نصف الكرة الغربي وليس فقط في أمريكا الجنوبية.

الانديز

كراكب لهذه الطائرة، وبخاصة وقد نشأت وعشت طفولتي في القاهرة عند سفح تل لا يرقي لصفات جبل، يغلب عليك وعلى أحاسيسك وأنت فوق هذه القمم الشاهقة مشاعر غريبة. تتساءل إن كان قائد الطائرة أوقف محركاتها فالسكون مفاجئ والهدوء غالب داخل وخارج الطائرة. من الشباك تبدو الطائرة وكأنها تنزلق على الجليد الذي يغطي قمم الجبال. بعد قليل يأتي صوت ناعم، أيضا متعمد أن يكون خافتا، يستجدي في رقة وحنان ربط الأحزمة فمطار سنتياجو صار على بعد دقائق.

لحظات تركت أثرا عميقا في نفسي بدليل أنني بعد أكثر من أربعين عاما استطعت أن أثير فضول الصديق الطبيب المغامر والفنان مينا النجار حتى راح في أثرها يخطط لسباق تسلق جبال يقوده، أو بالأصح يرفعه، إلى أعلى قمم الآنديز في مقاطعة مندوسا الأرجنتينية. وبالفعل تسلق وفاز وعاد يحكي لي عن لحظة السكون الرائعة وتأثيرها طويل الأجل على من يعيشها.

***

كنت قد قرأت قبل السفر، وتأكدت بعد الهبوط والخروج من المطار إلى المدينة، أن سنتياجو تنفرد بصفات نادرة. أقامها الفاتح الإسباني بدرو دي فالديفيا في عام 1541 على وادي منبسط يقع بين جبال بعضها شاهق الارتفاع تحيط به من مختلف الجهات. كلها، وأقصد كل الجبال، تزدان قممها بالجليد في فصل الشتاء مما يضفي على المدينة سمات محببة. كنت هناك عندما كان المسئولون يفخرون بأن عاصمتهم يسكنها حوالي تسعون بالمائة من شعب شيلي، والعشرة في المائة الباقون يسكنون مدنا إقليمية أو ساحلية صغيرة ومنها كونسبسيون وانتوفاجاستا وفالبرائيزو أو قرى احتفظ بها لأنفسهم السكان الأصليون.

***

كنت محظوظا إذ وجدت لسكني وعائلتي الصغيرة بيتا جميلا في حي يرتفع ارتفاعا بسيطا ويبتعد مسافة معقولة عن الهضبة التي احتلتها مباني الحكومة في وسط العاصمة ومنها قصر الرئاسة المعروف باسم لا مونيدا، والكلمة بالإسبانية مشتقة من اللاتينية مونيتا وتعني العملة أو النقود، وقد أطلقت في زمن قدامي الرومان على دار سك العملة في مدينة روما. لاحظ أيضا أن الأرجنتين تنتسب اسما إلى كلمة الفضة بالإيطالية بينما النهر العظيم الاتساع الذي يفصل بين الأرجنتين والأوروجواي اسمه ريو دي لا بلاتا وترجمتها عن الإسبانية نهر الفضة. أسماء لها مغزاها في تاريخ الاستعمار الإسباني.

***

أثثنا البيت الجميل وكانت مفاجأة سارة في اليوم الأول لمبيتنا فيه أن نزل علينا قرب المساء ما يقترب من عدد عشرين عائلة من سكان الحي جاؤوا ليحتفلوا معنا باختيارنا السكنى في حيهم. أبالغ قليلا وليس كثيرا وأنا أقول في وصفي لحالتنا في سنتياجو خلال الأيام المائة التي عشت فيها في هذه المدينة الساحرة وقتذاك إنه لم يمر علينا يوم منها لم يهبط على البيت وتكعيبة العنب في حديقته ضيوف أقل من عدد الجيران الذين افتتحوا معنا البيت.

***

عشنا المائة يوم في حفل لا تنقطع فقراته ولا تتباعد إن انقطعت. فيها تعرفت على مشويات لا يجيد إعدادها إلا من كان من سلالة السكان الأصليين، وعلى أكلات فلسطينية أبدع في طبخها جيران من المهاجرين الأوائل وأغلبهم قادمين من بيت لحم وبيت جالة في فلسطين. سألت فأبلغت بأن عددهم في كل شيلي يصل إلى الثمانين ألفا. لعله الآن تجاوز ربع المليون أو ما يزيد.

وجبة تشيلية

بعد أسبوع من وصولي إلى تونس دعاني صاحب أحد أكبر المصارف في شيلي على حفل غداء في مكتبه. حضر الحفل مسئولون كبار في الحكومة وأعضاء مجلس إدارة المصرف، قدرت لصاحب المصرف ما فعل حين توجه إلى غرفة مكتبه وعاد يحمل جواز سفر دبلوماسيا صادرا باسمه من المملكة المصرية بصفته، وهو الفلسطيني المولد والنشأة، عضوا في وفد مصر لدي مفاوضات نيويورك في أعقاب التوصل إلى وقف للحرب في فلسطين. كان الغداء المبكر مع مسئولين على هذا المستوى فرصة لبدء العمل في ظروف يحلم بها كل دبلوماسي بعد وصوله إلى مقر عمله الجديد.

إقرأ على موقع 180  بُيوتُنا وقصّة موتها.. المُعلَن!

تعرفت كذلك من خلال السهرات تحت التكعيبة في المنزل، وتكعيبات أخرى في الحي وفي منتديات وجمعيات، تعرفت على نوعية فريدة من شباب الجامعات والنقابات بخاصة أن سنتياجو كانت تمر في مرحلة حراك اجتماعي حرج وكان مألوفا النقاش حول احتمالات انتفاضة شعبية.

***

خلال إقامتي في سنتياجو وصلتني دعوة من رابطة ثقافية مركزها مدينة فالبارايزو، الميناء الأقرب إلى العاصمة وحيث يوجد منتجع “فينيا ديلمار” أحد أهم وأشهر المصايف في قارة أمريكا اللاتينية، لا يسبقه في الأهمية والشهرة سوى منتجع “بونتا ديليستى” في أوروجواي. قضيت في المدينة أقل من يوم تعرفت فيه على أنواع من المخلوقات البحرية لم أسمع عنها من قبل وقيل أن المحيط الهادي ينفرد بها وأظنها من فرط ضخامتها لا يمكن أن تتحمل رخاوة ونعومة مياه البحر المتوسط. أذكر من هذه الأنواع لحما من أطيب ما أكلت من لحوم السمك ويدعى “المجنون”. من فرط إعجابي به عدت فطلبته خلال زيارة استراحة قضيتها وعائلة ابني على شاطئ قريب من ولايتي أوريجون وواشنطن على شاطئ يطل على ذات المحيط قرب الحدود الكندية.

***

منزل نيرودا

عدت إلى ميناء فالبارييز بعد حوالى أربعة عقود وفي نيتي ألا تفوتني زيارة محل سكن بابلو نيرودا شاعر شيلي العظيم والساحر. بالفعل تحققت الزيارة وقد صارت شقته بالطابق الثالث من العمارة التي عاش فيها جانبا كبيرا من حياته متحفا. دخلت الشقة، ليتفاجأ المشرف على المتحف بالطلب أن أبدأ الزيارة من أقرب نقطة في الشقة إلى الشرفة الخارجية. كان حلما راودني كثيرا أن أعيش حتى أرى المنظر المترامي الأطراف الذي كان يقف أمامه السنيور نيرودا وهو يفكر في حياة وغراميات المغترب أو البحار المتنقل دوما بين ميناء وميناء تاركا وراءه في كل ميناء حبيبة. حبيبة لن تنسى الأيام أو الساعات القليلة التي عاشها في الميناء معها وغادر مشفقا على حب رائع لم يكتمل ومتطلعا إلى ميناء قادم تحط به سفينته وحبيبة أخرى في انتظاره.

***

عدت إلى سنتياجو، هذه المدينة الرائعة، بعد عقود. راحت الروعة. أو قل لم أتعرف على تفاصيل المدينة التي كنت أعرفها. بيتي لم يكن في المكان الذي تركته فيه. ولا كان هناك المكان الذي ائتمنته على بيتي. وجدت، أو أظن أنني وجدت محلهما، غابة من أبراج السكن، تنتشر في شوارعها الواسعة مطاعم فاخرة وبارات ونوادٍ ليلية أغلبها بدرج هابط تحت الأرض. لم أجد الكرمة التي عشت منذ رحيلي أحلم بعناقيد عنبها، العنب الأحلى طعما من كل العنب الذي ذقت في حياتي باستثناء عنب بلودان. هناك تسليت عديد العصاري بقطفه وتوزيع حباته أثناء زياراتنا المتكررة إلى بيت بعض أصهاري في هذا المنتجع الصيفي وخفيف الظل والقريب من العاصمة، دمشق.

***

حققت تقدما في تعلم اللغة الإسبانية مما سمح لي بأن أدمن تذوق بعض شعر بابلو نيرودا، شاعر الإسبانية الأشهر. ساعدتني معلمة وهي التي أصرت على أن تعقد الحصص عصر كل يوم ولمدة شهر عند قمة تل قريب من الحي الذي نقيم فيه. هناك عند الهضبة تلقيت دروسا في التاريخ وفي ثقافة أمة حديثة النشأة وفي لغة لا يمكن إلا أن أحبها. التقينا بالصدفة بعد مرور ثلاث سنوات في مونتيفيديو عاصمة الأوروجواي. تحدثنا بلغتها. أذكر أنها أثنت وحمدت بعد أن اطمأنت.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  نظرية الأمن الإسرائيلي.. ما الذي تغيّر؟