نشأ الإسلام السياسي السُّنّي في لبنان كفاعل يسعى إلى إعادة تنظيم الحقل الديني السُّنّي في ظل تراجع التمثيل السياسي بعد الحرب الأهلية (1975-1990) وتحولات موازين القوى الإقليمية. ويستعرض هذا المقال تاريخ الأحباش، وتطور مسارهم خلال الحقبة السورية، وإعادة تموضعهم بعد عام 2005، تاريخ استشهاد رفيق الحريري، وصولًا إلى أسئلة مستقبلهم بعد سقوط نظام بشار الأسد عام 2024، وما كرّسته حرب «طوفان الأقصى» عام 2023 من تحولات استراتيجية في الإقليم.
النشأة والسياق الفكري
تأسست جمعية المشاريع في بيروت مطلع الثمانينيات، بقيادة الشيخ عبد الله الهرري (الحبشي)، ضمن بيئة سُنّية شهدت تراجع نفوذ القوى التقليدية. استفادت الحركة في بدايتها من وجود منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، الأمر الذي وفر لها هامشًا نسبيًا من الحماية، لتتوسع لاحقًا في ظل الرعاية السورية.
ترتكز الجمعية على مرجعية أشعرية-صوفية مع فقه شافعي، ما منحها قبولًا واسعًا داخل الفضاء السُّنّي التقليدي. وتقوم رؤيتها على الوسطية، رفض التكفير، وتعزيز قيم الزهد والخدمة الاجتماعية والتعليم. لذلك، اتخذت الدعوة عندها طابعًا مؤسسيًا يعتمد بناء المدارس والمراكز والجمعيات ووسائل الإعلام، بعيدًا عن النشاط المسلح.
الحقبة السورية
خلال مرحلة الهيمنة السورية على لبنان، حظيت الجمعية بغطاء سياسي وأمني سمح لها بالتوسع داخل الأحياء السُّنّية في العاصمة وباقي المدن والمناطق وبناء مؤسساتها. وقد وفّر لها الوجود السوري فرصة لعب دور “ضابط إيقاع” داخل البيئة السُّنّية في مواجهة تنامي التيارات السلفية أو الإخوانية، من دون أن تتحول إلى قوة مسلحة. كانت جمعية المشاريع جزءًا من الإسلام المؤسسي الملتزم بقواعد النظام الطائفي اللبناني، أكثر منها حركة مقاومة ذات مشروع عابر للحدود أو داعية إلى تغيير صيغة النظام.
لقد نجحت جمعية الأحباش في تحويل مرجعيتها العقائدية إلى مورد رمزي قابل للتوظيف السياسي، وفي تقديم نفسها قوة مدنية مؤسساتية قادرة على الجمع بين الهوية الدعوية والواقعية السياسية. وفي زمن الفراغ السُّنّي والاصطفافات المتحولة، تبدو الأحباش أحد الكيانات التي تملك قابلية البقاء عبر المرونة المؤسسية أكثر مما عبر القوة العقائدية، ما يجعلها نموذجًا قابلًا لإعادة إنتاج الإسلام السياسي السُّنّي في فضاء متغير لا يعترف إلا بالفاعلين القادرين على التعلم والاندماج
ما بعد زلزال الحريري
مع انسحاب القوات السورية عام 2005، فقدت الجمعية الحاضنة التي أسهمت في صعودها، واضطرت إلى إعادة صياغة موقعها داخل بيئة سُنّية باتت أكثر تشظيًا بعد تراجع نفوذ آل الحريري. تحركت جمعية الأحباش ضمن هامش وسطي حريص على دعم الدولة، مع انتهاج براغماتية عالية في بناء التحالفات. وبرغم احتفاظها بروابط جيدة مع “محور الممانعة”، فإن مستوى دعمها لحزب الله لم يرتقِ إلى درجة حلفاء دمشق التقليديين، ما أتاح لها مساحة واسعة من التمايز السياسي.
مرحلة التحولات الإقليمية
أحداث 7 أكتوبر 2023 وسقوط النظام السوري نهاية 2024 شكّلا زلزالًا جيوسياسيًا أصاب محور إيران، فتحرّكت الأحباش باتجاه إعادة تموضع متوازن: الحفاظ على علاقات جيدة مع محور الممانعة، دون الارتهان له، مع فتح الباب أمام مقبولية عربية أعلى طمعاً بالشرعية المشتهاة إستنادًا إلى موازين القوى الجديدة.
وتقدم الجمعية نفسها اليوم كقوة سُنّية دعوية-مدنية غير منخرطة في أي بنية عسكرية أو أمنية خارج الدولة، ما يجعلها شريكًا محتملًا لدول الخليج التي تبحث عن فاعلين معتدلين ذوي بنية مؤسساتية قابلة للدعم. فغياب مشروع مسلح، وارتباطها التاريخي الجيد بالدول العربية، يمنحها أفضلية في لحظة عربية تعيد ضبط استراتيجياتها تجاه لبنان وسوريا.
استراتيجية التمايز
استفادت الجمعية من قدرتها على التمايز عن حزب الله داخل تحالف 8 آذار نفسه، عبر تبني خطاب مستقل لا يتصادم جذريًا مع المحور، ولكنه غير خاضع له. لم تدخل منطق «المقاومة مقابل الوكالة»، بل اعتمدت استراتيجية تمايز براغماتية تسمح لها بالتحرك بين المحاور، واستكشاف تحالفات جديدة دون أثقال أيديولوجية.
هذا النموذج يعبّر عن تحول من القوة الصلبة إلى القوة الناعمة: من الارتكاز على دعم خارجي مباشر إلى الاستثمار في المؤسسات والتعليم والخدمات والدعوة، باعتبارها أدوات للبقاء والتكيف داخل بيئة سياسية متقلبة.
حدود الممكن السُّنّي في لبنان
تجسد تجربة الأحباش نموذجًا لفهم حدود الدين والسياسة في لبنان. من حركة دعوية وسطية تحت رعاية سورية، إلى فاعل يحاول التكيف مع مشهد ما بعد 2005، إلى كيان يستثمر في المرونة السياسية بعد تبدل موازين القوى الإقليمية.
لقد نجحت جمعية الأحباش في تحويل مرجعيتها العقائدية إلى مورد رمزي قابل للتوظيف السياسي، وفي تقديم نفسها قوة مدنية مؤسساتية قادرة على الجمع بين الهوية الدعوية والواقعية السياسية. وفي زمن الفراغ السُّنّي والاصطفافات المتحولة، تبدو الأحباش أحد الكيانات التي تملك قابلية البقاء عبر المرونة المؤسسية أكثر مما عبر القوة العقائدية، ما يجعلها نموذجًا قابلًا لإعادة إنتاج الإسلام السياسي السُّنّي في فضاء متغير لا يعترف إلا بالفاعلين القادرين على التعلم والاندماج.
